المدونة

  • الرئيسية
  • مقالات

(منشور في مدى مصر بتاريخ ٢٧ سبتمبر ٢٠١٥(

خرج جرّاح القلب المعروف من غرفة العمليات في مستشفي بحي المهندسين بالقاهرة، ليبلغ العائلة أن المريض المُسجّى تحت تأثير المخدر يحتاج لدعامة في شريان بقلبه، وأن الدعامة ستتكلف ٤٢ ألف جنيه. كان الجراح المعروف قد رفض مرارًا- هو والمستشفى- طلب العائلة أن يحصلوا على تقدير مبدئي للتكلفة المتوقعة لهذه العملية التي صارت روتينية. وصُدمت العائلة بالمبلغ المطلوب لأنه يزيد بكثير على ضعف ما قاله لهم أطباء وجراحون أصدقاء حول متوسط تكلفة هذه الجراحة. واحتجت العائلة فغضب الطبيب وعرض أن يسحب المنظار والقسطرة ويترك لهم مريضهم ليفيق ويأخذونه إلى البيت دون الدعامة المطلوبة لتوسيع الشريان شبه المسدود. وخافت العائلة من تعريض مريضهم مرة أخرى لمثل هذا التدخل الطبي وما يمكن أن يحدث له دون وضع الدعامة فورًا فرضخوا لضغط الطبيب. ولكنهم تمكنوا لاحقًا من تخفيض السعر لحوالي ٣٠ ألف جنيه، وهو ضعف المتوسط  المطلوب في عيادات أخرى في القاهرة. ولكنها الفوضى المسيطرة على هذا القطاع الحيوي من الخدمات في مصر.

ورغم هذا التصرف المزري من الطبيب وهذه الخبرة المهينة؛ فقد كانت هذه العائلة- التي أنتمي إليها- محظوظة للغاية. كان بمقدورهم دفع المبلغ المطلوب دون اضطرار للاستدانة، كما أن العيادة التي جرت فيها العملية على سوء حالها وتعطل أجهزة التكييف فيها كانت جيدة جدًا في ضوء البدائل السيئة في غابة الرعاية الصحية المصرية. ولا يتمتع معظم المرضى في مصر بحظ هذه العائلة نفسه، بل صار من المعتاد تبادل القصص المرعبة حول ما يحدث في أروقة وغرف عمليات المستشفيات والأطباء ومؤسسات الرعاية الصحية المختلفة في مصر؛ حيث يموت المرضى لأنهم لا يطيقون تكاليف الجراحات أو الأدوية أو- للأسف- بسبب العدوى والإهمال والأخطاء المهنية من جانب شتى العاملين في قطاع صار بمنحى عن المساءلة، وصار من يعملون فيه قادرون على الإفلات من العقاب على موت المرضى على أسرتهم وفي غرف عملياتهم؛ لأن الرقابة على المؤسسات الطبية في مصر صارت غائبة في أفضل الأحوال أو متواطئة. من منا لم يسمع عن أطفال وكبار دخلوا لإجراء جراحات روتينية فخرجوا مما يسمى بـ “عيادات أو مستشفيات” إلى المقابر بسبب خطأ في التخدير أو الدواء أو ضربة مشرط أخطأت طريقها؟ من منا لم يتبرع أو يحاول مساعدة فقير عاجز عن إيجاد ثمن الدواء أو الجراحة أو الأشعة التشخيصية؟ المشكلة هنا ليست أخلاقية في معظمها ويمكن تلافيها بأن يراعي العاملون في القطاع ضمائرهم ونتكاتف جميعًا لدفع تكاليف علاج أفقرنا، المشكلة في غياب النظام المناسب والكفء وتحول الرعاية الصحية إلى سلعة في سوق تسوده الفوضى والفساد.

لقد بات غياب نظام ملائم ومناسب (فنيًا وماليًا) لتقديم الرعاية الصحية في مصر هو المسؤول الأول، ربما، عن الوفيات التي يمكن تفاديها في مصر. مات المئات في مصر منذ مطلع العام بسبب الإرهاب والحرب الدائرة عليه ومنهم مدنيون أو سياح أبرياء ولكن آلاف المصريين يموتون كل يوم أو يعانون أزمات صحية وخسائر مالية لا تعوض بسبب أمراض يمكن تفاديها وبسبب الإهمال الطبي والعدوى. ولا يحتاج الواحد منّا لإحصائيات صادمة، ولكن بعض الأرقام ستوضح مدى عمق المشكلة. من بين كل سبعة مصريين تقريبًا هناك شخص مصاب بالالتهاب الكبدي فيروس “سي”، وهو مرض انتشر بسبب فشل المؤسسات الصحية العامة والخاصة في تطبيبق مكافحة العدوى بإحكام . عدد ضئيل من ملايين المصريين المصابين بهذا المرض القاتل يمكن لهم تحمل ثمن الدواء الذي لم يُكتشف سوى العام الماضي، ويكلف ما يزيد على عشرة آلاف جنيه للعلاج. وغير هذا القاتل الظاهر، هناك قتلة آخرون ينشبون مخالبهم يوميًا في أجساد ملايين المصريين الذين باتوا يعتمدون على أدوية خفض ضغط الدم (أو دعامات توسيع الشرايين) والأنسولين لضبط نسبة السكر والأدوية أو الغسيل الدوري للدم للتعايش مع أمراض الفشل الكلوي. وأخيرًا، أدت الرعاية الصحية المتدنية والتغذية الخاطئة والفقر إلى تقزم٢٠٪ من أطفال مصر دون سن الخامسة، والتقزم مأساة تؤثر على حياة المصاب به حتى الموت؛ لأنها تعني عدم وصول الأطفال إلى الطول والنمو الجسدي الملائم لأعمارهم. 

ولا يحدث هذا كله لأن المصريين لا ينفقون ما يكفي على رعايتهم الصحية. على العكس؛ فإن المصري ينفق من جيبه في المتوسط ٧٢٪ من تكاليف الرعاية الصحية المطلوبة  في سوق عشوائية منفلتة، وهي نسبة أعلى بكثير من بلدان متقدمة أو متوسطة النمو مثلنا. ولا أدل على أهمية الرعاية الصحية من أن أمناء الشرطة في تظاهرتهم الأخيرة في الشرقية وضعوا بين مطالبهم حق التمتع بالرعاية الصحية في مستشفيات الشرطة مثل الضباط، بينما كانت آخر مواجهة مهنية بين القضاة والحكومة تتمحور حول التوقف المؤقت لصرف ثلاثة آلاف جنيه شهريًا لكل قاض تحت مسمى “بدل علاج”. وتضغط مجموعات مثل الأمناء والقضاة من أجل الحصول على حقوق ومميزات صارت فئوية، تاركين خلفهم عشرات الملايين من المصريين يتلقون خدمات باهظة أو سيئة في مجال الرعاية الصحية.

تحتاج مصر بوضوح وسرعة إلى نظام فعال وكفء للتأمين الصحي. ووجود النظام في حد ذاته ليس غريبًا على مصر التي سنت أول تشريع لإنشاء هيئة عامة للتأمين الصحي في عام ١٩٦٤، وبعدها بثلاثين عامًا قررت الحكومة مد مظلة النظام ليغطي كل تلاميذ المدارس وكان عددهم آنذاك يقدر بنحو ١٤ مليون طالب وطالبة، وفي ١٩٩٧ قررت الحكومة أن يستفيد سبعة ملايين طفل آخرين قبل سن الالتحاق بالمدارس من خدمات الهيئة العامة للتأمين الصحي. ولم تكن كل قرارات الحكومة الكريمة هذه سوى فرقعات إعلامية في أغلبها؛ لأنها لم تولد للنور ومعها دراسات جدوى حول قدرة النظام القائم على أن يكفل الرعاية الصحية المطلوبة لكل هذه الملايين من البشر ناهيك عن توفر الموارد المالية اللازمة لاستمراره. وبحلول عام ٢٠٠٠، تسارع انهيار نظام التأمين الصحي المصري، ولم تعد الهيئة العامة تغطي نصف الشعب الأفقر وحتى بين من يفترض أن تغطيهم المظلة التأمينية لا تقدم الهيئة خدمات صحية سوى لنحو ١٢٪ منهم بسبب عدم توفر المنشآت الصحية الملائمة والقريبة من الذين يحتاجون لها، أو بسبب العجز المتزايد في الموازنة المطلوبة لتقوم الهيئة بعملها بكفاءة. ويبيّن المسح الديمجرافي الصحي لمصر في عام ٢٠١٤ أن ٨٪ فقط من النساء، اللاتي تزوجن من قبل، بين سن ١٥ و٤٩ سنة تمتعوا بأي تغطية تأمينية صحية.

لقد بات نظام التأمين الصحي الحكومي القائم في مصر في حالة يرثى لها من العجز عن القيام بوظائفه الأصلية ويقترب من الإفلاس وتعاني خدماته انعدام الرقابة وتذبذب المستوى. ومنذ ١٥ عامًا تدعي الدولة أنها تسعى لإصلاح هذا النظام عن طريق وضع قانون جديد للتأمين الصحي الشامل. وظهرت مسودات متتالية لهذا القانون تحت إشراف وزارة الصحة وشارك في لجان وضع القوانين أحزاب سياسية ومنظمات أهلية وأساتذة جامعات ونقابيون.. إلخ. ولكن الحكومات المتعاقبة ونهاية بحكومة إبراهيم محلب التي خرجت من السلطة هذا الشهر وعجزت عن إصدار القانون تاركة نظام التأمين الصحي ليتداعى ويتهاوى أكثر فأكثر.

وتقدم المسودة الحالية حلولًا عملية خرجت من نقاشات طويلة ومعمقة لمعظم العقبات المعقدة التي تواجه نظام الرعاية والتأمين الصحي في مصر حاليًا، وهي: التمويل، الرقابة على مقدمي الخدمة واعتماد وضبط مستويات الجودة، ووضع سياسات واستراتيجيات عامة فعالة. وينص القانون على قيام هيئات محددة بصلاحيات معينة من أجل ضمان تمويل النظام وعمله بكفاءة وتحت رقابة فعالة في ضوء الموارد المتاحة. ويدعو القانون إلى تعديل وإنشاء مراكز خدمة صحية أسرية في القرى والأحياء تخدم كل منها ما قد يصل إلى ٣٠٠٠ عائلة، ويمكنها تحويل المرضى لمراكز أكبر أو مستشفيات أو متخصصين. ولا شك أن إقرار وتطبيق قانون كهذا سيواجه عقبات هائلة ليس أقلها أنه يحتاج إلى عشرين ألف طبيب أسرة مؤهل، بينما لا يوجد في مصر حاليًا سوى أربعة آلاف طبيب أسرة يتركز معظمهم في القاهرة والإسكندرية. وسيكون التمويل تحديًا بدوره. 

ويرى الدكتور علاء غنام- وهو مسؤول سابق في وزارة الصحة ويقود حاليًا فريق “الحق في الصحة” في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية- أن الموازنة السنوية التي سيتطلبها نظام فعال للتأمين الصحي، ستكون حوالي مائة مليار جنيه ولكن من الممكن تدبيرها. ويفصل مشروع القانون، الذي شارك الدكتور غنام في اللجنة التي وضعت مسودته، طرق التمويل لتغطية هذه الموازنة من اشتراكات المنتفعين ومساهمات الحكومة وأصحاب الأعمال ومن رسوم يمكن فرضها على التبغ والكحول وصناعات الأسمنت والحديد ورخص المنشآت الطبية.. إلخ. وعلى كل حال؛ فإن الدولة ملتزمة وفق دستور ٢٠١٤، أن تصل نسبة الإنفاق على الصحة في مصر إلى ٣٪ على الأقل من إجمالي الناتج المحلي، ويمكن أن يغطي كل هذا الموازنة المطلوبة لنفقات نظام التأمين الصحي الجديد.

ولكن من غير المتوقع أن تقر الحكومة المصرية مسودة قانون التأمين الصحي المتداولة منذ نحو العام رغم أن الرئيس عبد الفتاح السيسي استعمل السلطات المخولة في إصدار نحو ١٥٠ قانونًا بمرسوم جمهوري منذ تولى السلطة العام الماضي. ويعود تأخر القانون في الأغلب؛ لأن صوت الذين سيستفيدون منه وأملهم في الإصلاح كلاهما صار من الضعف بحيث استسلم معظمهم لهذه الخدمات الصحية المنهارة كأنها قدر لا يمكن الفكاك منه. كما أن هذا القانون سيؤثر سلبًا في مصالح فئات نافذة في البيروقراطية الحكومية المتحكمة في قطاع التأمين الصحي أو تلك في القطاع الخاص المستفيدة من غياب هيئة قوية وقادرة على التفاوض باسم عشرات الملايين من المرضي ودفع نفقات علاجهم بل والرقابة على مستوى وجودة الخدمة وانتظامها. 

لو صدر القانون المقترح للتأمين الصحي الاجتماعي الشامل فسيكشف عن مدى عمق مستنقع الفساد والفوضى الضارب في أنحاء مؤسسات الرعاية الصحية والأرباح الشرعية وغير الشرعية نقدًا وعينًا التي لا بد يجنيها كبار المتحكمين في هذه المؤسسات حكومية كانت أم خاصة. والأهم أنه سيكشف أيضًا عن أن انهيار الخدمات الصحية وارتفاع تكاليفها ليس قدرًا بل أمرًا يمكن إيقافه ويمكن إصلاحه بخطوات وسياسات وإجراءات معينة ومعروفة. وسيقف كل هؤلاء ضد صدور القانون، بينما يتصرف النظام الحاكم وكأن لا شيء آخر يهدد حياة المصريين سوى الجماعات الإرهابية والخوف من المؤامرات الخارجية، بينما يفقد آلاف المصريين حياتهم يوميًا في مستنقع الرعاية الصحية. 

ما زال الأمل قائمًا في المصريين الذين يعانون دون حل في الأفق ولا يمكنهم تحمل ما يحدث لهم بسبب غياب الرعاية الصحية أو تدنيها. وبدت بوادر بعض هذا الأمل في اجتماع استمر يومًا واحدًا في جمعية الصعيد في القاهرة مؤخرًا، وحضره أكثر من عشرين ممثلًا لبعض النقابات المستقلة ومنها نقابة أصحاب المعاشات الكبيرة؛ حيث أعرب أحد المشاركين عن يأسه من الإصلاح قائلا: ”الحكومة في الآخر بتعمل اللي هي عايزاه“ دون أن تصغي لتوسلات ملايين المواطنين الذين يعانون من أجل العيش على الحد الأدنى. ولكنّ مشاركًا آخر قاطعه قائلا: ”خلاص معادوش يقدروا.. لا همه ح ينجحوا ولا أحنا ح نسكت“. وربما كان هذا الرجل الغاضب على حق لأن التواطؤ في مثل هذه الأمور يعني الرضوخ في صمت أمام موت وآلام يمكن تفاديها.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *