عندما تتعارض الأسماء والمسميات: العيب والحكومة وحقوق الإنسان!

Facebook
Twitter
LinkedIn

(منشور في مدى مصر بتاريخ ٣٠ اغسطس ٢٠١٥)

تواصل مصر الانزلاق إلى مستنقع من الكذب والهيستيريا والخداع والتضليل حتى أصبحنا جميعًا محاطين بدخان يعمينا عن رؤية التفاصيل، ومجبرين على تصديق تفسيرات بسيطة ومخلة ولا أساس لها لما يدور حولنا في مصر والمنطقة والعالم. ومن أسوأ ما ينتجه مثل هذا المناخ، أن الأسماء تبتعد عن المسميات فتصير أجهزة الأمن مقترنة أكثر بالخوف، وأجهزة الإعلام مقترنة بالتجهيل، ومؤسسات العدالة معنية بالاستقرار وليس العدل، والجماعات السياسية مقترنة بالعنف وليس الممكن والحلول الوسط. لخص الكاتب المصري العظيم يوسف إدريس مأساة تعارض الأسماء والمسميات في روايته القصيرة المذهلة ”العيب“ في عام ١٩٦٢، عندما أزاح الواجهة المزيفة التي تختفى وراءها ”مصلحة“ حكومية مكلفة بإصدار التراخيص، لنكتشف أن ما يقوم به الموظفون هو تنظيم إصدار التراخيص المخالفة للقانون مقابل رشوة يتقاسمونها.

تمر رواية ”العيب“ بالذهن عندما يطالع الواحد آخر تقارير المجلس القومي لحقوق الإنسان، ثم يقرأ في صحيفة تصريحات منسوبة لوزير العدل الجديد أحمد الزند يقول فيها إن هذا المجلس “يدافع ويتعاطف مع القتلة، ومصر بحاجة إلى مجلس لحقوق الإنسان متوازن ولا يفرق في قياس الحقوق”. لا يمثل المجلس أو مؤسسات الدولة الأخرى في مصر ومنها وزارة العدل ”المصلحة“ التي يتحدث عنها إدريس تمامًا، ولكنها جميعًا تعكس بعض مشكلاتها وطرق عملها. بداية تبدو سبل التواصل بين مؤسسات الدول المصرية وقد تحولت إلى ساحات صراع وصارت معظمها مشغولة ليس بأداء وظائفها العلنية، ولكن بحماية نفسها والتنافس على الظهور بمظهر المدافع الرئيسي عن المصالح المدعاة للدولة، وهي مصالح لا يتم نقاشها تفصيليًا وعلنيًا، ولا يعرف الجمهور عن طبيعتها الكثير. ويتفاوت حجم وثقل هذه المؤسسات ومنها المجلس القومي لحقوق الإنسان، ولكنها تفتقر إلى وحدة الهدف ولا تخضع لمحاسبة تذكر في غياب البرلمان، وتراجع الصحافة عن ممارسة نقد حقيقي لأداء وسياسات الحكومة. وفي غياب السياسة وإغلاق مجالها حتى إشعار آخر من صاحب الأمر السبب الرئيسي لتضارب الأهداف والإفلات من الحساب. والمحاسبة والإصلاح هما هدفان رئيسيان من عمل المجلس القومي لحقوق الإنسان.

منذ تأسيسه في عام ٢٠٠٣، اجتذب المجلس القومي عددًا مهمًا من المدافعين المخلصين عن حقوق الإنسان في مصر، ولكن كبار مسؤولي الدولة ومؤسساتها طالما تجاهلوا نصائح المجلس العملية وسهلة التنفيذ، ليصير المجلس الذي يعين رئيس الجمهورية كل أعضائه، في أحيان كثيرة ورقة توت تخفي بعضًا من السجل متزايد السوء لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وعندما يجرؤ المجلس القومي أو أي من أعضائه على القيام بوظيفتهم الرئيسية وتحدي بعض ممارسات أجهزة الدولة، كما فعل المجلس في تقريره السنوي الأخير، لا يلقى المجلس وتقريره سوى التجاهل، بل ويتم شيطنته وشيطنة بعض أعضائه بسبب مواقفهم المبدئية في قضايا حقوقية.

ورغم مرور أسابيع طويلة على صدور تقرير المجلس القومي الواقع في ٢٧٤ صفحة، والذي يغطي الفترة من ٣٠ يونيه ٢٠١٣ حتى أول ٢٠١٥؛ فقد تجاهلته الحكومة. حذر التقرير من أن سجون مصر تعاني ازدحامًا شديدًا؛ حيث تعدى المحتجزون فيها ١٦٠٪ من القدرة الاستيعابية لها، بينما ضمت أقسام الشرطة ثلاثة أضعاف العدد الذي صممت هذه الأقسام لاحتجازه. ولم يحدث شيء، بينما تواصل سقوط المساجين والمحتجزين قتلى بسبب التكدس وغياب التهوية والخدمات الصحية والأدوية وفقًا لتقارير متواترة. ونقل المجلس عن وزارة الداخلية أن هناك سبعة آلاف شخص محبوسين احتياطيًا بينما تجري التحقيقات معهم أو محاكمتهم، ومعظمهم متهمون بأنهم أعضاء في منظمة الإخوان المسلمين المحظورة منذ نهاية ٢٠١٣، إضافة إلى حوالي ٣٠٠ من الناشطين السياسيين العلمانيين. ولم تفرج الحكومة عن عدد يذكر منهم أو تقرر بحث أوضاعهم.

ورغم أن تقرير المجلس القومي يشير إلى تعذيب وإساءة معاملة المحتجزين في أقسام الشرطة؛ فإنه يستدرك قائلًا إن هذه الانتهاكات اقترنت بعصيان وتمرد من جانب المحتجزين وترافقت مع هجمات منظمة على هذه الأقسام. وينقل المجلس عن وزير الداخلية قوله إنه هناك ٣٦ شخصًا توفوا في الاحتجاز، منهم اثنان في أقسام شرطة وكلهم لأسباب تتعلق بتدهور حالتهم الصحية وتم نقلهم إلى مستشفيات قبل وفاتهم.

ولا يتبع تقرير المجلس القومي قواعد واضحة لنسبة المعلومات لمصادرها، وبعض الوقائع الواردة معممة، مثل ما ذكره عن قيام النيابة بالتحقيق مع ”عشرات“من ضباط وأفراد جهازالشرطة بتهم ”إساءة معاملة مواطنين ومحتجزين والتقصير، ولكن في وقائع لا تتصل بوجود وفيات“. 

ويذكر تقرير المجلس القومي أن نحو ٢٦٠٠ شخص لقوا مصرعهم أثناء فترة الثمانية عشر شهرًا التي يغطيها التقرير حتى بداية ٢٠١٥، ومنهم ٧٠٠ ضابط وعسكري ومجند شرطة وجيش، ونحو ١٢٥٠ من أعضاء أو مناصري الإخوان المسلمين (منهم ٧٥٠ تقريباً، وفقًا للتقرير في فض اعتصامي “رابعة العدوية والنهضة” في ١٤أغسطس ٢٠١٣). ويضيف التقرير أن نحو ٥٥٠ من المدنيين ماتوا خلال مواجهات عنيفة حرّض عليها الإخوان المسلمون ومؤيدوهم المسلحون. ولا يتعامل التقرير بعمق وتفصيل مع مذبحة فض “رابعة”، التي تعد أفدح حوادث القتل الجماعي ضد مدنيين في تاريخ مصر الحديثة في يوم واحد على يد قوات الأمن.

وليصل المتابع إلى صورة أكثر واقعية وأقل تسييسًا للواقع المقبض في مجال انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، يجب أن يقارن بين تقرير المجلس القومي مهتز الصياغة والمقتضب في مواضع عدة مع عدة تقارير أخرى أصدرتها منظمات حقوق الإنسان المصرية المستقلة خلال الفترة نفسها، ومنها على سبيل المثال، التقرير المشترك المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة من جانب ١٩منظمة حقوقية مصريةمستقلة في نوفمبر ٢٠١٤. ورغم كل هذا؛ فإن تقرير المجلس القومي الحكومي لحقوق الإنسان، الذي لا يحمل الدولة وأجهزتها مسؤولية عديد من الانتهاكات، قد أزعج مؤيدي النظام، بل وبعض أجهزة الدولة ومسؤوليها الذين لا يهتمون في العادة بالمجلس وعمله.

تلقى المجلس القومي ٣٧٤٠ شكوى عن انتهاكات متعددة في فترة التقرير في بلد مر فيه عشرات الآلاف بالسجون في الفترة نفسها، لأسباب سياسية بشكل ما آو بآخر، وقُتل فيه مئات آخرون، وتواترت التقارير عن التعذيب في أماكن الاحتجاز الأخرى، مما أدى إلى مصرع بعض المحتجزين، بينما يواجه آلاف عقوبة إعدام محتملة أو سجن مؤبد، في الوقت الذي ساءت فيه الأحوال الاقتصادية والأمنية بدرجات متفاوتة. وكانت ٧٠ في المئة من الشكاوى التي تلقاها المجلس القومي طلبات مساعدات مالية أو عينية أو قضايا عمالية أو بشأن الحق في السكن أو الحقوق الاجتماعية أو الاقتصادية الأخرى.

ويبدو هكذا أن قطاعًا صغيرًا نسبيًا من المواطنين ما زال مهتمًا بالأثر الإيجابي المحتمل للمجلس القومي، ولكن الحكومة تجاهلت المجلس إلى حد كبير في هذا المجال؛ حيث أغفلت توصياته مرارًا وتجاهلت الرد على معظم الشكاوى التي حولها المجلس للوزارات والهيئات القضائية والأمنية المختلفة. ومن بين ٣٥٨٦ شكوى أرسلها المجلس القومي إلى تسعين مؤسسة وهيئة وطرف حكومي لم يتلق ردًا سوى على ١٠٧٧ شكوى. واضطر المجلس إلى إرسال خطاباته أكثر من مرة في كل حالة، وفي المتوسط استغرقت الحكومة ثلاثة أشهر للرد على كل شكوى، مما جعل الجبر ورد الضرر أمرًا مستحيلًا أحيانًا. وكانت معظم الردود الحكومية سلبية أو تنفي مسؤولية الجهة المعنية عن الحالة المثارة. وعلى سبيل المثال، رد مكتب النائب العام على ٨٩ شكوى من بين ٥٠٠ حالة حولها له المجلس القومي.. أو ١٨٪ فقط من الحالات.

تتآكل مصداقية وشرعية مؤسسات مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان مع مرور الوقت، إلا إذا تعاملت معه أجهزة الدولة والشعب بجدية. ولتبقى فاعلة وقائمة يجب أن تكون مؤسسة مثل المجلس القومي مؤثرة بشكل واضح في حدود مهامها ووظائفها. ومثل منظمات وهيئات حكومية أخرى عدة في مصر؛ فإن المجلس القومي صار مهددًا بأن يفقد جدواه تمامًا على الأقل فيما يتعلق بالمهام المنوطة به رسميًا ويتحول لأداء وظائف أخرى. وسيكون هذا عيبًا وأي عيب لا يختلف كثيرًا عن العيب الذي عراه يوسف إدريس في روايته، كمرض بدأ ينهش في جسد مؤسسات الدولة المصرية منذ عقود طويلة.. عيب خطير يجب ألا نقبله وألا نتغاضى عنه، هذا لو كان للدولة حقًا أن تحافظ على ما تبقى من مؤسساتها وتبدأ مسيرة إصلاحها الطويلة والصعبة.

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *