لماذا تعجز الأمم المتحدة عن التغيير؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

ماذا تعلمت من مواجهة الموت؟ (جزء ٢)

نُشر على موقع المنصة يوم الأربعاء 16 أغسطس 2023

انقطعت نحو السنة عن العمل، بعد نجاتي من الانفجار الإرهابي في مقر الأمم المتحدة في بغداد صيف 2003، الذي تحدثت عنه في المقال السابق. عدت لمقر إقامتي آنذاك في نيويورك، حيث قضيت عدة أشهر للنقاهة من جراحة تخلصت فيها من مفصل عليل، حلَّ محلَّه آخر صناعي من البلاتين. والأهم؛ لتلقي جلسات علاج نفسي يومية. وتدريجيًا وببطء ممضّ، تعافيت جسديًا ونفسيًا إلى حد مقبول، وبتُّ قادرًا وراغبًا في الرجوع للعمل بحلول خريف 2004. يعتقد بعض الناجين جسديًا من حوادث عصيبة وخبرات مؤلمة أنهم أفلتوا، غير أنهم في حالات كثيرة يحملون أشباحَ وآثارَ ما جرى، واعين بها حينًا، غافلين عنها أحيانًا كثيرة، فتصير حيواتهم منقوصة، مستلبة، ويظل تأثيرهم السلبي الفادح على أنفسهم ومن حولهم مستمرًا.

عانيت من بعض هذه الأعراض في ذاتي وفي سلوك زملائي أثناء عملي في الأمم المتحدة، وفي غيرها. يدفن البعض ممن مروا بتجارب صعبة لم يتعافوا منها نفسيًا أعراض كربهم واضطراباتهم النفسية في ساعات عمل طويلة، وعلاقات متعددة، وإفراط في تناول الكحول. بينما يصبح آخرون متبلدي الحس وقساة ولا مبالين، رغم أن كل هذا قد لا يؤثر البتة في إنجازهم المهني ونجاحهم العملي.

وبعد شهرين من التفجير، انتهت الأمم المتحدة من تحقيق مفصل عما جرى في هذا الهجوم الدموي، ووجهت أصابع الاتهام بالتقاعس لمسؤولي الأمن في البعثة، ولمسؤولين كبار في المنظمة دون تسميتهم، ودعت للقيام بدراسات جادة عند إرسال بعثات أممية لأماكن خطرة، خاصة إذا كان قرار إنشاء البعثة المعنية نابعًا نسبيًا من ضغط سياسي قادم من عواصم مهتمة.

أتذكر بوضوح غضبًا ومواجهات ونقاشات طويلة مع مسؤولين أمميين كبار في سنوات سابقة ولاحقة على هذا الهجوم. وفي كل الأحوال، كان من الواضح أن التسييس المفرط وغياب المحاسبة والتعجل لقطف الثمار الدانية هي كلها جذور المشكلة، وأن الحلول الجزئية قد تخفف الأعراض ولكنها لا تواجه المرض. 

عندما يكون الخباز أحمقا.. لا تكلفه بالخبز!

في صباح ذلك اليوم المشؤوم، 19 أغسطس/آب 2003، أوقفت سيارتي على يسار المدخل الرئيسي لمقر الأمم المتحدة في فندق القناة، بعد أن عبرت التدقيقات الأمنية الفائقة، التي شملت فحص أسفل السيارة وحقيبتها وأجهزة للكشف عن المعادن.

وبينما أنزل من سيارتي لمحت بوابة الشارع الجانبي وخلفها وقفت امرأة ومعها طفل صغير. أفلت الطفل نفسه من قبضة المرأة، ودفع أحد جانبي البوابة القديمة قليلًا فتمدد الجنزير الذي يربط الجانبين وينتهي بقفل كبير صدئ، إلى الحد الذي سمح للطفل أن يدلف بين الجانبين ويوشك على الدخول لساحة البعثة.

هذه التفسيرات المباشرة توضِّح كيف تمكن الإرهابيون من تفجير المقر بسهولة، لكنها لا تفسر لماذا رغبوا في الهجوم

لمحني أنظر إليه، فتبادلنا الابتسام، محملًا بالبهجة من ناحيتي وببعض ذنب غير جدي من ناحيته. وقبل أن يتمكن من الدخول بكل جسده، قبضت أمه على ذراعه الأقرب لها وسحبته للخارج. ربما كانت تنتظر دورًا للدخول للمركز الطبي القريب، ربما كانت تشحذ. كنت أنزل من سيارتي أفكر عندما لمحت السيد باولز* قادمًا بهمة وخطوات منتظمة تليق بجندي مارينز سابق.

قررت ساعتها أن أبلغ هذا الطاووس الذي يعمل مسؤولًا عن الأمن في البعثة بما جرى، وأنه من المزايدة أن يفرضوا كل إجراءات الأمن المفرطة على المدخل الرئيسي بينما تُترك المداخل الجانبية هكذا، حيث يمكن لأي شخص قوي دفعها وفتحها تمامًا، وليس فقط أن يعبر بين ضلفتيها طفل نحيف يلعب!

وقبل أن أفتح فمي وأنا من طرف عينيّ ما زلت أرى الطفل وأمه واقفين خلف قضبان البوابة المتوازية القديمة، صرخ باولز “حرك سيارتك من هنا، هذه مواقف مخصصة لرئاسة البعثة!”.

تشاجرنا بالكلمات، فدوره ليس مناداة السيارات وتنظيم أماكن وقوفها، وأشرت ناحية البوابة، حيث غادرت المرأة والطفل، قائلًا إن هذه نقطة ضعف خطيرة إذ يمكن أن يتسلل منها أي شخص من بين الضلفتين أو قفزًا من فوقهما. استشاط الرجل غضبًا واحمرَّ وجهه وهو يصرخ “هذا عملي، لا تتدخل في عملي، انقل سيارتك من هنا، هذا محل رئاسة البعثة!”. وأشار بيده إلى مكاتب الرئاسة في تلك الزاوية من المبنى فوقنا.

قررت أن أشكوه لرئاسة البعثة فيما بعد، ولكني انشغلت بقية اليوم في اجتماعات، ثم ذهبت بالسيارة لمكتب برنامج الأغذية في بغداد حيث أخرّني كوب الشاي، كما حكيت في المقال السابق، عن العودة لمكتبي ليفوتني بدقائق أن أكون في المقر الرئيسي عندما اقتحمته شاحنة المتفجرات، التي قادها انتحاري خالعًا هذه البوابة المتهالكة من مكانها ثم مرتطمًا بزواية المبنى، حيث حاولت ركن سيارتي.

تهاوت الطوابق فوق بعضها البعض، وسحقت عديدين تحتها بعضهم مات بعد ساعات من العذاب، كانت تصل فيها أصوات أنّاتهم لعمال الإنقاذ. 

كان هناك بلا شك فشلٌ وتراخٍ من جانب المسؤولين المباشرين عن الأمن في مقر البعثة ومن يديرهم، ونال بعضهم عقوبات إدارية فيما بعد. ولكن هذه التفسيرات الميكانيكية المباشرة التي توضح كيف تمكن الإرهابيون من الهجوم بسهولة على المقر، لا تَنْفَذُ للأسباب الأعمق التي تفسر لنا لماذا رغبوا بداية في شن هذا الهجوم على المنظمة الأممية، بما فيها من بعثة سياسية ومنظمات إغاثة ومساعدات.

وهذه الأسباب والسياقات أهم بكثير وأعمق من فشل ضابط أمن مغرور مثل باولز وزملائه، لأنها قد تسمح للمنظمة بتفادي أو التقليل من مثل هذه الهجمات في المستقبل.

بين الفشل والعجز ونظرية المؤامرة

بات كثيرون، وخاصة في المجتمعات المتلقية للمساعدات أو المتأثرة بقرارات وخطط المنظمة الأممية، ينظرون للأمم المتحدة بأذرعها السياسية والتنموية والإغاثية على أنها جزء من منظومة الحوكمة الدولية الخاضعة لهيمنة العواصم الكبرى، من بكين وموسكو حتى لندن وواشنطن، مع انحياز أكبر للغرب لأنه صاحب القسط الأكبر من التمويل ومن التفكير والتأصيل لمبادئ العمل الإنساني والتنموي ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان.

صار بديهيًا أن المنظمات الأممية خاضعة لهيمنة العواصم الغربية، وتشكّل جزءًا من ترسانتها في المواجهات سلمًا وحربًا

وهكذا ينظر الجهاديون والميليشيات المسلحة وحكومات الدول المتلقية للمنظمات الأممية، باعتبارها حليفًا خاضعًا للغرب. وهكذا تعامل معي ومع زملائي طوال سنوات عملي في الأمم المتحدة مسؤولون حكوميون في الخرطوم وكابول، أو عناصر ميليشيات في دارفور وفايز أباد.

وفي الواقع، لم يعد من الممكن منذ سنوات طويلة، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات، النظر لمنظمات ووكالات الأمم المتحدة على أنها مستقلة ومحايدة تمامًا، رغم الادعاءات. وفي الوقت نفسه فإنه من الأسهل كثيرًا تبني نظرية مؤامرة فجة، وادعاء أن كل هذه المنظمات وعملها ما هو إلا مجرد أداة للسياسة الخارجية للدول الغربية.

دعونا بداية نستثني مجلس الأمن، شبه الكسيح منذ سبتمبر/أيلول 2001، مع العلم أن بكين وموسكو لهما فيه صوتان معطِّلان، مثلهما مثل العواصم الغربية الثلاث الأخرى دائمة العضوية في هذا المجلس المعني بإقرار الأمن والسلام، وتفادي النزاعات في العالم؛ واشنطن ولندن وباريس. لم تعد لهذا المجلس أنياب، ولا حتى لسان واضح، منذ سنوات طويلة. ولذا نركز هنا على المنظمات المعنية بالإغاثة. 

هناك عوامل وأسباب متعددة تحرك هذه المنظمات، ومنها القانون الدولي الإنساني، والتعاطف مع ضحايا الانتهاكات أثناء النزاعات، وأيضًا ضحايا الفقر والجهل والمرض، وتأمين استقرار النظام الدولي القائم بما فيه الأسس الرأسمالية والديمقراطية، وتفادي تحول الكوارث الطبيعية والنزاعات الأهلية لتهديد الأمن والاستقرار الإقليمي أو العالمي، إلخ. وتتصارع كل هذه العوامل مع المصالح العليا للدول الكبرى، والتي تتقاطع كثيرًا مع هذه الأسباب، أو تناقضها.

مع تبخر العدو السوڤيتي في أواخر الثمانينيات، لم يتبقَّ هناك سوى عدو واحد مهم وواضح للنظام الدولي الجديد؛ المنظمات الجهادية الإسلامية، التي بادرت بالهجوم في 11 سبتمبر، وكان الرد عليها ساحقًا ومفرطًا ودمويًا في الحرب التي دشنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان في 2001، ولا تزال تواصلها حتى الآن، ضد خلايا داعش والقاعدة في آسيا وإفريقيا.

ومنذ ذلك الوقت، صار بديهيًا لا يحتاج لبراهين، خاصة بين الإسلاميين وبقايا اليسار، بل وأيضًا في الأوساط الليبرالية والواقعية، أن المنظمات الأممية خاضعة لهيمنة العواصم الغربية، وتشكّل جزءًا من ترسانتها في هذه المواجهات سلمًا وحربًا.

تلك هي السياقات الأعمق التي مكَّنت تفجير بغداد منذ عشرين عامًا، وهي السياقات التي تجاهلت المنظمات الأممية مقدماتها، ودفعت ثمن بعض نتائجها قتلى وجرحى وفشلًا في تحقيق بعض أهدافها الطموحة.


* اسم مستعار

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *