ماذا تعلمت من مواجهة الموت؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

في الذكرى العشرين لتفجير مبنى الأمم المتحدة في بغداد

نُشر في موقع المنصة يوم الاربعاء ٢ اغسطس ٢٠٢٣

في مثل هذا الشهر منذ عشرين عامًا، ساعدني زميل في مراوغة موت محتمل، بفضل كرمه، عندما تشبث ببقائي مع زملائي في أحد مكاتب برنامج الأغذية العالمي في بغداد. “لا يمكن أن تتركنا دون أن تشرب الشاي الذي صنعته من أجلك! أحلى شاي في العراق”. وكان شايًا رائعًا، والأهم أنه في الأغلب أنقذ حياتي.

كانت الساعة الرابعة والنصف، عندما غادرت الزملاء في وسط بغداد متأخرًا عن موعد عودتي للمكتب نصف ساعة بسبب كوب الشاي. طلبت من السائق أن يسرع قليلًا.

وعندما لاح المبنى الكئيب لفندق القناة، الذي كان المقر الرئيسي للأمم المتحدة في العاصمة العراقية، لمحت عمود دخان يهتز وسحابة رمادية تتشكل في الأفق. هل كان الدخان يصعد من المبنى أم من المستشفى المجاور له؟. جف حلقي وارتعشت يداي قلقًا ونحن نقترب من البوابة الرئيسية، وحلَّ صمت الذهول أمام مشهد الكارثة الأكيدة التي كنا ما زلنا نصلي داخلنا ألا تكون وقعت بالفعل.

المتحدث الصحفي

قفزت عند البوابة المغلقة قبل أن تتوقف السيارة تمامًا، وأنا أرى المأساة تتشكل أمام عينيّ، والنداءات تتقاطع في أذنيّ، وذرات التراب المنتشر ورائحة الحديد المنصهر تدخل أنفي. أوقفني جندي أمريكي شاهرًا سلاحه. صرخت في الجنود، الذين اعتادوا الوقوف بتكاسل جوار ناقلتهم المدرعة تاركين أمر البوابة الرئيسية لشركة أمن محلية، “دعوني أمر، هذا مكتبي، أنا أعمل هنا، أنا المتحدث الصحفي!”.

لا يتحدث الجنود ولا يجادلون، يرفعون الأسلحة ويطيعون الأوامر. أي متحدث وأي صحافة خطرت لي آنذاك؟! كنت أريد الدخول مدفوعًا بقوة طاغية تتملك أي ناجٍ من حدث مأساوي، كيف جرى هذا وأنا بعيد؟، لماذا لم أكن في المبنى؟. 

ينهبني خوفه من أن يكتمل انهيار المبنى ويدفعني فزعي الأشد من ألّا أرى ما جرى بعينيّ، فيفوتني للأبد

تركت المدخل الرئيسي وقادني السائق العراقي، وكان أكثر هدوءًا وأعلم مني بالمسالك، نحو شارع ضيق غير مطروق إلى يمين المبنى، ثم دار بالسيارة حول السور الكبير حتى وصلنا بوابة خلفية مفتوحة وبلا حراسة، دفعناها بعد أن تركنا السيارة ودخلنا.

في الداخل، توزع الناجون هنا وهناك، بوجوه واجمة يكسو بعضها غبار مختلط بالعرق وبعض الدم، في أنحاء الحديقة الواسعة المهملة ومواقف السيارات الداخلية، بعضهم يجلسون على عشب حرقته حرارة الصيف يحدقون في اللا شيء، بينما يرتجف آخرون بكاءً وهم يحتضنون بعضهم البعض.

رأيت زميلًا أتى من نيويورك في الأسبوع السابق. انهار بين ذراعيَّ وهو ينهنه ويتمتم “سيرچيو يموت يا خالد”. من طرف عيني وأنا أضمه لمحت محفات عسكرية أمريكية مغطاة ببطاطين وقد برزت تحتها تضاريس جثث، وبانت قرب نهايتها أقدام تنتعل أحذية وأخرى عارية.

لن أتجاوز شعور الصدمة والجمود العاطفي طوال هذه الساعات. سيكون لديَّ من الوقت أيامًا وشهورًا للتداعي والبكاء في سنوات تالية. حذرني زميل من دخول المبنى، بيد أن تلك القوة الدافعة لأن أشهد ما فاتني، لأن أكون جزءًا من المأساة التي وقعت في غيابي، سيطرت عليَّ وقادتني. ينهبني بعض خوفه من أن يكتمل انهيار باقي المبنى ويدفعني فزعي الأشد من ألّا أرى ما جرى بعينيّ، فيفوتني للأبد.

مرقت خلسة من باب صغير وصعدت للطابق الثاني حيث كان مكتبي. كان الغبار يسود الممرات الطويلة بينما يتردد صوت الزجاج المحطم متهشمًا تحت قدميّ، وأنا أنقل الخطوة خلف الخطوة محاذرًا السقوط، وأنا أعبر فوق أبواب غرف خلعتها قوة الصدمة وألقت بها على الأرض، أو مستندة على الحوائط توشك على السقوط، أو أدراج مكاتب وأرفف كتب تناثرت في الممرات.

على مكتبي فقد الكيبورد عديدًا من أزراره بسبب الانفجار، بينما رشقت شظايا زجاجية حادة وكبيرة في مؤخرة مقعدي، منها واحدة كانت كفيلة باختراق صدري لو كنت جالسًا عليه.

مكتب خالد منصور داخل مكتب الأمم المتحدة في بغداد – أغسطس 2003

سرت في العتمة مستعينا بيدي تلمس حوائط الممر، وضوء الهاتف المحمول الضعيف يظهر لي بعض العوائق، حتى أوقفني جندي عند مكتب سيرچيو فيرا دي ميللو، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة. حاولت إقناعه أن يتركني أمُرّ، تملكني شعور لا يقاوم بضرورة أن أرى كل شيء. نظر ناحيتي بعينين فارغتين، وقال “لا شيء هناك، لقد تبخر هذا الجزء من المبنى، لو خطوت خلف هذا الباب لسقطت من ارتفاع عدة طوابق نحو ركام وأسياخ من الحديد وكتل من الخرسانة”.

دخلت يسارًا لغرفة زميلة كنا ندخن سويًّا كلما تسنى لنا الوقت. سجائرها وولاعتها على مكتبها. كانت بين المختفين، وسأعرف لاحقًا أنها ماتت في هذا الهجوم الإرهابي.

سار الجندي الشاب خلفي. نظر ناحية زجاجة ويسكي كانت على رفٍّ داخل دولاب انخلعت أبوابه. نظرت إليه وقلت “خذها، أعرف صاحبها وأعرف أنه لن يمانع”. لن أعرف هذا على وجه اليقين أبدًا لأنه بدوره قُتل يومها.

في حوالي الرابعة والنصف بعد ظهر 19 أغسطس/آب 2003، قاد إرهابي تابع لمنظمة القاعدة شاحنة متفجرات مصطدمًا ببوابة مقر الأمم المتحدة في بغداد من شارع جانبي، فخلعها من مكانها، وواصل بأقصى سرعة الأمتار المتبقية حتى ارتطم بزاوية المبنى، وانفجر هو وشحنته القاتلة من مئات الكيلوجرامات. وخلال ثوانٍ، انهار هذا الجانب من المبنى بما فيه من مكاتب، على رؤوس من فيه من أشخاص.

قتل الانفجار 22 شخصًا، معظمهم من موظفي بعثات الأمم المتحدة في العراق الخاضع للاحتلال الأمريكي منذ فبراير/شباط من العام نفسه.

العمل الشاق والحب الشافي

في ذلك اليوم الذي كرَّسته الأمم المتحدة يومًا عالميًا للعمل الإنساني، قضيت المساء داخل سيارة تابعة للمنظمة ذاتها، نذهب من مستشفىً ومركز طبي إلى آخر، من أجل التحقق من حالة الجرحى والبحث عن بعض المفقودين من زملائنا. توقفت في مركز طبي عسكري أمريكي، حيث عثرنا على زميلي چون(1)، وتمكنا باستعمال هاتف ثريا من الاتصال بعائلته في بلد بعيد، وطمأنتهم عليه بعدما أجرى جراحة عاجلة.

لم تعد الصور المرعبة للدماء والأشلاء تطاردني، ولم أعد أتحاشاها واعيًا أو غير واعٍ

وفي الأيام التالية التي قضيتها في بغداد، كنا نعمل أكثر من 16 ساعة يوميًا ولا نشعر بشيء، مسلمين أنفسنا لتدفق هائل من الأدرينالين والاجتماعات والاتصالات والإيميلات. لم يكن هناك وقت لنغضب من فشل الأمم المتحدة في توقع الهجوم، أو حماية موظفيها بشكل أفضل. مستحيل أن نعرف إذا كان هذا ممكنًا من الأصل!.

لم يكن هناك وقت لنغضب من الإرهابيين القتلة الأغبياء، أو لنتفكر في دور الغزو الأمريكي وحزب البعث المفكك والجهاديين، في خلق موجة رعب ستستمر معنا سنوات طويلة.

وحين كنا نختلي بأنفسنا ساعة أو أقل في اليوم، يتكفل الكحول والتدخين بتشتيت الوعي وخلق إحساس وهمي بأننا لا نقهر ولا توقفنا حتى القنابل.

سأظل أسير نائمًا هكذا عدة أسابيع، حتى يحدث الانهيار المحمود بعدما عدت لبيتي في نيويورك في سبتمبر/أيلول، حيث بدأت رحلة طويلة من التعافي، رحلة قاسية لم أعد بعدها، أو هكذا أظن، أشعر بذنب الناجي ثقيل الوطأة، ولا شعوره بالاستحقاق، وأن العالم والناس مدينين له بسبب أنه “ضحية”.

والآن، بعد أن مرت عشرون سنة، لم تعد الصور المرعبة للدماء والأشلاء تطاردني، ولم أعد أتحاشاها واعيًا أو غير واعٍ. لم أعد أراوغ الشعور بالحزن والخسارة عندما تحل الذكرى السنوية لهذا الانفجار المريع، وبتُّ أتقبله ولا أخشى من موجات غضب عارم تجتاحني بسببه.

صرت قادرًا على تحويل هذه الموجات المتباعدة بعيدًا عن الآخرين وتفريغها في كلمات ونصوص، أو في رعاية ذاتي ومن حولي. اقتضى كل هذا منى عملًا ذاتيًا شاقًا، وتطلب دعمًا وحبًا من آخرين كثيرين. كنت محظوظًا إذ تمكَّنْت من إنجاز قدر كبير من العمل المطلوب من ناحية، وتلقيت فيضًا من المساندة الضرورية ممن حولي من ناحية أخرى.

احتجت، أنا وآخرين، لسنوات، لإنجاز ما نستطيع من التعافي. والآن يمكنني النظر خلفي في غضب وتأمل وحزن وامتنان. لا يزال الحزن يغمرني أحيانًا حدادًا على من خسرتهم. هناك، وفي أفغانستان والسودان ولبنان، وغيرها من أماكن النزاعات حيث عملت منذ منتصف التسعينيات.

ولكني أيضًا تعلمت الكثير، عن نفسي وعن العالم، وتمكنت من العودة للعمل في مناطق النزاعات بعد انقطاع نحو العام عشته في نيويورك، وصرت أفكر بشكل نقدي وواقعي في نفس الوقت، في أسباب ما جرى، وما إذا كان تجنبه ممكنًا.


(1)اسم مستعار

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *