(منشور في مدى مصر ٣ اغسطس ٢٠١٥)
جاءت عملية الاغتيال الدموية للنائب العام المصري هشام بركات وتصاعد هجمات مسلحي تنظيم “ولاية سيناء” على رجال الأمن، لتصب مزيدًا من الزيت على نار الغضب، وتتعالى دعوات القصاص من المشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية، والجماعات التي تدعمهم في برامج محطات التليفزيون المصرية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. ويبدو النظام المصري وكأنه يغذي ضربات طبول الانتقام ويستجيب لها في الوقت نفسه، وأعلن رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي أن “يد العدالة الناجزة مغلولة بالقوانين”. وسرعان ما تم تدبيج مشروع قانون جديد لمكافحة الإرهاب يتناقض مع عدد من مبادئ المحاكمات السليمة والعادلة المستقرة في العرف القانوني.
ويمثل هذا التوجه من جانب النظام مفارقة مؤسفة؛ لأنه يأتي كرد فعل على جريمة اغتيال النائب العام الذي كانت مهمته ومهمة القضاة الذين قتلتهم جماعات إرهابية في سيناء هي خدمة القانون وليس التردي في حلقات الثأر والانتقام.
إن ما يدعى بـ”العدالة الناجزة” التي تتحقق عن طريق التخلي عن أسس قضائية مستقرة هو إهدار خطير لأبسط مبادئ حكم القانون، وانحدار إلى عالم العنف غير المنضبط الذي تفضل جماعات الإرهاب العيش فيه. ويظل دور المحاكم هو إقامة العدالة عن طريق إجراءات سليمة، ونظر مدقق في الأدلة والمستندات، وتحري الإنصاف مع المشتبه بهم وافتراض براءتهم حتى ثبوت الإدانة، بينما ينتمي الثأر إلى عالم آخر من القيم يعالج فيه المرء غضبه وفجيعته عن طريق الانتقام من المشتبه بهم الذين ثبت ذنبهم فقط عن طريق أجهزة الإعلام والغوغاء وليس عن طريق الأدلة والتحريات المستقلة.
تحتاج مؤسسات القانون (سواء كانت محاكم أو شرطة) إلى وقت من أجل اتباع الإجراءات السليمة لضمان أن تحرياتهم وأحكامهم هي الأقرب للعدل قدر ما يستطيع البشر. الثأر، على العكس، يأخذ طريقه بسرعة ولا يحتاج سوى قرائن واهية. العدالة تعدنا بنهاية لدوامة القتل، بينما الثأر دائمًا متعطش لمزيد من الدماء.
والمثير للقلق أن محاولات تفكيك وتغيير قوانين وإجراءات يُزعَم أنها تعطل سير العدالة تأتي في وقت باتت فيه المحاكم المصرية تتعامل بسرعة غير معتادة مع قضايا العنف السياسي والإرهاب أو حتى المعارضة السياسية غير العنيفة، مما أدى لانتقادات واسعة من جانب منظمات ومراقبين مستقلين. فقد صدرت أحكام إعدام جماعية ضد قرابة ٦٧٠ شخصًا في العامين الماضيين، وعدد كبير منهم في محاكمات لم تستغرق سوى ساعات وبتجاهل صارخ لعديد من ضمانات المحاكمات السليمة والعادلة في القانون المصري نفسه. ويتعين أن تؤيد محكمة أعلى درجة (النقض) هذه الأحكام. وقد نفذت الحكومة كل أحكام الإعدام السبعة التي أيدتها محكمة النقض ضد أشخاص أُدينوا في قضايا عنف سياسي في العامين الماضيين. وأسست الحكومة بالفعل منذ أواخر ٢٠١٣ عدة دوائر قضائية خاصة لنظر قضايا الإرهاب بسرعة داخل محاكم الجنايات. وقد فصلت هذه الدوائر في ١٦ من ٢٨ قضية عرضت عليها في مدد تتراوح بين أربعة وثمانية أشهر، ومن المتوقع أن تنتهي من القضايا المتبقية قبل نهاية العام. ويعني هذا أن محاكمات المشتبه في تورطهم في أعمال عنف سياسي في العامين الماضيين تجري بسرعة فائقة، مقارنة بالقضايا الجنائية العادية أو حتى القضايا السياسية التي اتهم فيها الرئيس السابق حسني مبارك وعدد من كبار مسؤولي نظامه.
إن الالتفاف حول القوانين والمعايير التي تمنح الشرعية لمؤسسات الدولة، ومنها الجيش والقضاء، تجعل أي نظام حاكم، بشكل غير مباشر، مساهمًا في تحقيق الأهداف بعيدة المدى للجماعات الإرهابية؛ لأنه يقوض أسس الدولة الحديثة التي ترفضها هذه الجماعات وتحسبها كفرًا. ورغم أن مصر لم تنجح بعد في بناء دولة حديثة مكتملة الأركان رغم محاولاتها المستمرة منذ مائتي عام تقريبًا؛ فإن لديها من الأسس ما يتعين على نظام الحكم الحفاظ عليه، بدلًا من هدمها في محاولات غير منضبطة للقضاء على خطر الإرهاب والعنف المتطرف، وبخاصة وقد شهدت العقود القليلة الماضية تماهيًا أكثر بين السلطات التي ينبغي الفصل بينها، وتغولًا من السلطة التنفيذية على التشريعية.
ورغم هذا التماهي بين أجنحة الدولة؛ فإن المجلس الأعلى للقضاء أعلن رفضه لبعض مواد قانون مكافحة الإرهاب المقترح؛ لأنها تنال من ضمانات التقاضي وتحمل شبهة عدم الدستورية. وانتقدت ١٧ من كبرى منظمات حقوق الإنسان المستقلة في مصر مشروع القانون “باعتباره يهدر حقوقًا أساسية في التقاضي وحقوق الدفاع”، وينتهي بالتضحية بحقوق الإنسان ودولة القانون في سبيل مواجهة الإرهاب. وتخشى المنظمات أن يقوض مشروع القانون “ما بقي من النظام القضائي المصري العريق؛ حيث إنه يكرس لحالة طوارئ غير معلنة وغير محددة المدة ويؤسس لنظام قضائي استثنائي”. ولما كانت نصوص التجريم في مشروع القانون فضفاضة فمن السهل تطبيقها من أجل قمع طيف واسع من الحقوق والحريات كحرية الرأي والتعبير والتجمع السلمي وحق تكوين الجمعيات.
والمفجع أن بعض المدافعين عن مثل هذه المشاريع والاستراتيجيات ما زالوا يروجون للحاجة لتقليص حقوق الإنسان من أجل ضمان النجاح في الحرب على الإرهاب. وهذه مقولة سطحية لا يدعمها منطق ولا وقائع تاريخية، ولا تفسر لنا كيف يمكن أن يؤدي إلقاء الأبرياء في السجون وغض النظر عن التعذيب والقتل خارج نطاق القانون، إلى القضاء على الإرهاب. لقد كانت تجارب العراق وأفغانستان واليمن وسوريا وغيرها مؤلمة ولكنها مفيدة؛ حيث تؤكد جميعها أن هذه السبل الكريهة لا تنجح سوى في إراقة مزيد من الدماء وهز أسس الدولة ذاتها.
يمنح مشروع قانون مكافحة الإرهاب في مصر- والذي يمكن صدوره في أية لحظة بمرسوم من الرئيس عبد الفتاح السيسي في غياب البرلمان- أجهزة الأمن فائقة الصلاحيات رخصة إضافية يمكن بمقتضاها اعتقال مشتبه بهم وتقديمهم للمحاكمة في غياب ضوابط إجرائية مستقرة، ومنها حق الدفاع في استدعاء الشهود ووجود المتهمين أو محاميهم الموكلين منهم أثناء نظر القضية ومنح المتهمين ما يكفي من الوقت لتقديم طعونهم.
إن استراتيجية لمواجهة أعمال العنف السياسي والإرهاب تعتمد على مشروع قانون كهذا وعلى ممارسات من هذا القبيل لن تفلح في مسعاها، بل قد تدعم الإرهابيين بشكل غير مباشر، على الأقل بخلق مزيد من المظالم.
إن دعم حكم القانون والاحترام الفعلي لحقوق الإنسان المتضمنة في الدستور المصري ذاته ليست مجرد دعوة أخلاقية مجردة من حسابات الواقع السياسي الباردة، ولكنها في واقع الأمر ومقارنة بتجارب دول أخرى، الطريق الأفضل والأكثر فعالية لمكافحة الإرهاب بالتوازي مع عمل منضبط وكفء من جانب الأجهزة الأمنية.
ربما لا يؤدي القمع والظلم والتعذيب أوتوماتيكيًا لخلق مزيد من العنف والإرهاب، ولكن هذه الممارسات لا شك تنخر في نسيج المجتمع وتشجع على استشراء العنف وعلى قبول التضحية بمزيد من الأبرياء، في مناخ يصعب فيه مساءلة من يخطئ في أجهزة الأمن المزودة بصلاحيات وموازنات غير مسبوقة والمدعومة بحملات إعلامية كاسحة.
وخلاف ما يدعيه أصحاب هذه الاستراتيجيات، أن الغرض الرئيسي هو الحفاظ على الدولة، فالخوف كل الخوف أن تكون نتيجتها النهائية مزيدًا من هدم أسس الدولة لتتحول عاصفة يمكن السيطرة عليها إلى تسونامي يمكن أن تضرب موجاته المدمرة مصر والمنطقة.