المدونة

نُشر في موقع درج يوم ١٩ أبريل ٢٠٢١

إذا نفذ الرئيس الأميركي جو بايدن وعده الأخير، فسيخرج آخر جندي أميركي من أفغانستان في 11 سبتمبر هذا العام في الذكرى العشرين للهجوم الإرهابي على برجي مركز التجارة العالمي. وفي تلك الأعوام العشرين لقي 175 ألف أفغاني معظمهم مدنيون مصرعهم، بينما قُتل 2300 جندي أميركي في حرب انتقامية قادتها الولايات المتحدة في هذا البلد القبلي القاحل انتقاماً من “طالبان” ومنظمة “القاعدة” المحتمية بهم.

وتفيد دراسة لجامعة براون بأن واشنطن أنفقت قرابة 978 مليار دولار على هذه الحرب، منها نحو 822 مليار دولار داخل أفغانستان والباقي على باكستان مذ بدأت أعمالها العسكرية هناك في أكتوبر 2001، كما ذهبت مليارات أخرى لا شك إلى باكستان الحليفة التي تتلقى مساعدات عسكرية ضخمة، على رغم تورط أجهزة مخابراتها لسنوات طويلة في دعم “طالبان” والجماعات الإرهابية المسلحة التي تعمل في كشمير وأفغانستان.  تريليون دولار تقريباً تكلفة هذه الحرب الطويلة ضد ما تصفه الصحافية الأميركية كارلوتا جالبـ”العدو الخاطئ” في البلد الخاطئ. وصار هذا الوصف الدقيق للحرب في أفغانستان من جانب الديبلوماسي الأميركي المحنك ريتشارد هولبروك، عنوان كتاب جال التي ترى أن الحرب الحقيقية كان يجب أن تكون ضد المؤسسة العسكرية الباكستانية في المناطق القبلية، حيث كانوا يجندون ويحشدون ويمولون الجماعات الإسلامية المتطرفة لتضمن لهم السيطرة على جنوب أفغانستان وشرقها، وأيضاً لتنغص على عدوها الدائم في الهند، من طريق عمليات إرهابية في كشمير وغيرها.

سيكون الانسحاب الأميركي خطوة في مسلسل انكماش الوجود العسكري الأميركي الكوني في الحرب على الإرهاب، التي حشدت في ظلها مئات آلاف الجنود الأميركيين وأسقطت نظام الطالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق وأوشكت لولا فشلها السريع في قطف ثمار الحربين، على دخول حرب ثالثة مع إيران بتشجيع وحث من إسرائيل والخليج. أنفقت واشنطن 4.5 تريليون دولار على الجهد العسكري المتعلق بالحرب على الإرهاب منذ عام 2001، ومن المعتقد أنها ستنفق تريليون دولار إضافي على رعاية المحاربين المتقاعدين والمصابين في السنوات القليلة المقبلة.

التركة الثقيلة

تركة هذه الحرب ستبقى معنا لسنوات طويلة، ومثلما انقسم تاريخ العالم قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، هكذا انقسم التاريخ مرة أخرى قبل الحرب على الإرهاب وبعدها: حرب مستمرة صارت غير خاضعة في أحيان كثيرة للقوانين الدولية أو اتفاقيات جنيف المفترض أن تنظم الحروب في العالم. وهي أيضاً حرب قضت بلا رجعة على كل أوهام عقد التسعينات بشأن نهاية التاريخ والانتصار الساحق للرأسمالية.

يوجد في تاريخ الولايات المتحدة تعاون مع أجهزة أمن قامت بتعذيب معارضين سياسيين وقتلهم، مثلما حصل في بلدان عدة في أميركا اللاتينية في عقود الحرب الباردة ولكن واشنطن كانت تحاول دائماً إخفاء هذا الأمر وتوكله لعملائها من أجهزة الأمن المحلية ليقوموا بالأعمال القذرة. ولكن في أفغانستان وتحديداً في قاعدة باجرام العسكرية شمال كابول، رأيت بنفسي في شتاء 2001، العنابر التي كان الجيش الأميركي يحتفظ داخلها بأسراه من المدنيين والمقاتلين الأفغان المشتبه في أنهم موالون لطالبان. وتحدثت مع بعض الجنود هناك أثناء زيارات عمل في الأمم المتحدة آنذاك حول مهماتهم في أفغانستان، ولكنني لم أعرف تفاصيل ما كان يحصل في غرف العزل العلوية حتى افتضح أمرها بعد ذلك بسنوات.

كان بين معتقلي هذه الزنازين، مجاهدون سابقون من الثمانينات عندما كانت واشنطن ترسل لهم السلاح والأموال لمحاربة السوفيات. نحو تريليون دولار دفعته الولايات المتحدة والسعودية مناصفة، لدعم جهودهما ببيع السلاح وإرسال المتطوعين من دول مثل مصر وغيرها.

وقص المعتقل حكيم شاه في حوار مع صحافي أفغاني ظروف اعتقاله 16 يوماً في إحدى زنازين باجرام المؤلفة من أقفاص من السلك كأنهم حيوانات. ظل حكيم عشرة أيام واقفاً ومربوطاً بقيود حديدية من ذراعيه للسقف وهو عار الجسد ورأسه مغطى بكيس من الخيش. كان الجنود العاملون في وحدة المخابرات العسكرية الأميركية، يفكون وثاق حكيم فقط من أجل قضاء حاجته والصلاة أو للذهاب إلى غرفة التحقيق، ويحرمونه النوم ليلاً بالطرق المستمر على أسلاك قفصه. مات اثنان من النزلاء هناك عام 2003، كان أحدهما سائق أجرة، يعيل أسرته ولا علاقة له بـ”طالبان”. وفي النهاية لم تسفر تحقيقات الجيش الداخلية عن توجيه أي اتهامات، بينما انتقلت وحدة المخابرات العسكرية المسؤولة عن تلك العنابر  الى سجن أبو غريب في العراق عام 2003،  حيث افتضحت في ما بعد عمليات تعذيب مشهدية سادية تم تصويرها والتباهي بها بين الجنود الأميركيين حتى سربها أحد رفاقهم  ونشرها الصحافي الأميركي سيمور هيرش.

أغلى سجناء في العالم

كانت أفغانستان بداية القبض على متهمين بالإرهاب وترحيلهم الاف الكيلومترات إلى مركز اعتقال عجيب خارج نطاق أي قانون يقع في غوانتانامو، ذلك الجزء الأميركي من جزيرة كوبا حيث احتجزت واشنطن وعذبت قرابة 800 شخص على مدى عشرين عاماً، معظمهم من دون محاكمة او اتهامات رسمية. وما زالت واشنطن تحتجز هناك حوالى 50 شخصاً منهم ستة تريد إطلاق سراحهم فعلاً، ولكن دولهم الأصلية ترفض استقبالهم. وخلال عشرين عاماً، لم تنجح محكمة عسكرية اُقيمت داخل هذا السجن الذي كلف تشغيله 6 مليار دولار سوى في محاكمة وإدانة شخص واحد من النزلاء. وعلى رغم أن هناك 40 نزيلاً فقط، إلا أن قرابة 1500 جندي يعملون في السجن، ما يعني أن كل نزيل في غوانتامو يكلف الحكومة الأميركية حاليا قرابة 13 مليون دولار سنوياً، وذلك الانفاق العجيب كان أحد أسباب مطالبة ربع أعضاء مجلس الشيوخ الرئيس بايدن بأن يسرع بإغلاق هذا السجن العجيب.

لم تكن الولايات المتحدة تبالي كثيراً عندما افتتحت هذا السجن بما تفعله ومدى اتساقه مع القانون بما فيه القانون الأميركي، حتى إن الرئيس جورج بوش تباهى عام 2003، بأن بلاده لا تحتجز سوى ثلاثة آلاف شخص مشتبه في كونهم إرهابيين في دول، منها بلا شك، دول شرق أوسطية “بينما واجه كثيرون آخرون مصيراً مختلفاً، ولم يعودوا مشكلة للولايات المتحدة أو لأصدقائنا وحلفائنا: الرئيس الأميركي ذاته يفتخر بأنهم تخلصوا من اعدائهم خارج نطاق القانون”. 

كيف بإمكان واشنطن في ما بعد أن تنتقد بلا مواربة ما تقوم به موسكو والرياض من قتل معارضين في الخارج أو ما تقوم به أبو ظبي وتل ابيب من قصف او دعم لعمليات عسكرية في مناطق معظم المقيمين فيها من المدنيين وتدمر فيها البنية التحتية لتلك المناطق، كما يحصل في اليمن وقطاع غزة، ناهيك بما تفعله دول أخرى كثيرة الآن بشعوبها تحت غطاء مكافحة الإرهاب، كما يحدث في المقتلة السورية منذ عام 2012. بل وتتآزر هذه الخطط أحياناً عندما يرسل الأميركيون مسيّرات أو يضربون صواريخ على مشتبه بهم في اليمن أو سوريا. ولا يعني هذا أنه لم يكن هناك إرهابيون في أفغانستان أو سوريا أو سيناء أو قطاع غزة، ولكن يعني أن الحرب على الإرهاب صارت حرباً أبدية، من دون هدف واضح وممكن التحقيق، صارت حرباً يُستباح فيها ما كان سابقاً من المحظورات ويُبرر فيها ما كان مستهجناً من انتهاكات، بل وتتبارى منتجات فنية ومنصات إعلامية في الحشد والتسويغ والتشجيع.

وفي هذا السياق ولتقليل عدد الضحايا من الجنود الأميركيين، تطور استعمال التقنيات الحديثة وأساليب القتال من بعد، لتفادي سقوط الجنود الأميركيين او غيرهم من الجنود مرتفعي الثمن، من دون مبالاة بارتفاع عدد القتلى في قرى ومدن أفغانستان واليمن وسوريا والعراق، بسبب القصف الجوي وما يسمى بالخسائر العرضية. وصارت الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل ترسل المسيّرات الحاملة للصواريخ، وتقوم بها بعمليات اغتيال موجهة، ولا بأس إذا أدت إلى مقتل نساء وأطفال ورجال أبرياء، من أجل النيل من مشتبه به واحد أو في بعض الحالات حرمان تجمع من البشر من مصدرهم من الماء أو الطاقة أو العلاج لإجبارهم على الخضوع والاستسلام ،كما شاهدنا في مناطق سورية في السنوات القليلة الماضية، أو كما قال جنرال إسرائيلي ذات يوم واصفاً حصار بلاده لغزة بأنه عبارة عن حمية غذائية للقطاع.

كل هذا بعض من التركة الثقيلة التي راكمتها وستتركها لنا الحرب على الإرهاب حتى بعد أن تسحب الولايات المتحدة جنودها.

أفغانستان إلى أين؟

 لم تتحقق أي من الأهداف الأميركية المعلنة حول بناء دولة مستقرة في أفغانستان أو حتى القضاء على “طالبان”، تلك المنظمة التي تدين بفضل كبير في ميلادها ونموها لدعم المخابرات العسكرية الباكستانية أبناء القبائل الباشتونية من طلاب المدارس الدينية في جنوب البلاد وعبر الحدود. 

لم يتحقق حلم مستحيل لدى البريطانيين في السيطرة على أفغانستان وخلق دولة حديثة ملكية تابعة في تلك المنطقة التي كانت تفصل بين الإمبراطورية البريطانية وتلك الروسية في القرن التاسع عشر. وفشل السوفيات في القرن العشرين قبل انهيار دولتهم ذاتها في بناء دولة شيوعية حديثة تابعة تصل بهم إلى المياه الدافئة في الجنوب، وأخيراً يفشل الأميركيون في بناء أفغانستان بدون الطالبان، الذين صاروا بشكل ما يمثلون الآمال المجهضة الباقية للعرقية الباشتونية المقسمة بين غالبية تعيش في باكستان (26 مليوناً) واقلية كبيرة تعيش في أفغانستان (14 مليوناً). 

ولم يتبق سوى جماعات جهادية عنيفة وميليشيات قبلية مسلحة وعصابات مخدرات وعملاء مخابرات ومنظمات إغاثة وملايين النازحين وفائض من البشر، لا تهتم الدول الكبرى بمصائرهم طالما اقتصرت مصائبهم على أراضيهم. ومع هذا تستمر الحرب الدائمة على الإرهاب ولكن من دون وجود جنود على الأرض، حرب باتت أطراف كثيرة راغبة في استثمارها وتدين لها بمغانم كثيرة.  

لم ينتصر سوى باكستان أو تحديداً الجناح المتطرف في المخابرات العسكرية والراعي للجماعات الجهادية المتطرفة لخدمة رؤاه الاستراتيجية المهووسة بالهند والمنافسة بين البلدين.

ستسحب الولايات المتحدة جنودها إذاً، وتكتفي بإدارة التهديدات المحتملة القدوم من هذه المناطق “المضطربة” سواء كانت في أفغانستان، أو في مناطق أخرى، من غرف فائقة التكنولوجيا في قواعد عسكرية في ألمانيا أو من على سفن عسكرية ضخمة تجوب مياه المحيطات القريبة، وتعود إلى عالمها المريح لتتعامل مع التهديدات الآتية من دول يظل التعامل معها أسهل نسبياً، والتهديد من قبلها أخطر بكثير مثل إيران وكوريا الشمالية أو حتى الصين، وتترك الجماعات الإرهابية والبلدان المتشظية من الصومال وحتى أفغانستان تواجه مصيرها بنفسها طالما أنها لا تتخطى حدودها، وهو حلم مستحيل بدوره. 

ستعيش معنا تركة الحرب على الإرهاب بممارساتها الجديدة وحروبها المديدة ربما لعقود طويلة آتية.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *