نُشر على موقع درج يوم ٢٣ مارس ٢٠٢١
اتهمت مصر أكثر من 30 دولة غربية بانتهاك حقوق الإنسان ومنها فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة والدول الاسكندنافية، وفي بيان منسوب لسفير مصر لدى الأمم المتحدة في جنيف، قال الديبلوماسي المصري إن هذه الدول “تعتبر أن لها حق تقييم الآخرين، للتعتيم على انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان”. جاءت الاتهامات المذهلة بعدما أصدرت تلك الدول بياناً في جنيف ينتقد تجاوزات وانتهاكات متعددة في مصر، وبخاصة في ما يتعلق بحرية التعبير والحق في التجمع واستغلال قوانين مكافحة الإرهاب لملاحقة المعارضين السياسيين. ويحق لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بما فيها مصر، أن توجه ملاحظات وتراجع سجل الدول الأخرى، وفقاً لقواعد عمل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
تقف مصر ودول مثل روسيا والصين والسعودية في جانب ينتقد عمل هذا المجلس الذي تأسس منذ 15 عاماً، وهي أيضاً الدول نفسها التي ترفض عادة معظم الإجراءات والمعايير والمنظمات الدولية التي تنتقد سجلها الحقوقي أو تصدر تقارير تفصيلية عنها، ولا سيما إذا كانت تقارير لاذعة من منظمات مجتمع مدني مثل “هيومان رايتس ووتش” أو “العفو الدولية”. وهي نفسها ذات الدول التي لا تتردد أحياناً في التهليل والاحتفال ببيانات هذه المنظمات وتقاريرها، إذا ما انتقدت خصومها السياسيين من الدول الأخرى.
ويعود هذا الفصام في أداء هذه الحكومات ووسائل الإعلام التابعة لها، إلى موقفها الملتبس من حق الدول الأخرى في التدخل في ما تعتقد أنه شؤون داخلية. وهو موقف متناقض حتى جذوره، لأن الأنظمة الحاكمة والفئات المسيطرة في هذه الدول ترحب، كما هو متوقع، بالتدخل عندما يكون في مصلحتها الضيقة، وترفضه عندما يفضح فسادها وانتهاكاتها أو يؤثر سلباً في مصالحها. وينطبق هذا مثلاً على مشتريات الأسلحة الضخمة التي جعلت الشرق الأوسط في مقدمة المناطق التي تزيد قيمة مقتنياتها العسكرية السنوية عن عشرات مليارات الدولارات، من دون أي مشاركة ورقابة شعبية أو صحافية على ما يحصل، ومن دون أن يعرف أحد من تقاضى العمولات الضخمة لهذه الترسانات التي لن يستخدم معظمها، بينما تعتقل هذه النظم (بل وتقتل أحياناً) متظاهرين سلميين أو معارضين سياسيين أو مدافعين عن حقوق الإنسان، وتشوه سمعتهم في وسائل إعلامها بصفتهم عملاء يقبضون من الخارج. هذا التناقض هو الذي يسمح لصحافي وسياسي شهير في بلد كبير أن يستمر في تقاضي أموال طائلة من العراق وليبيا ثم الخليج، وهو يواصل في الوقت نفسه، اتهام المختلفين معه في الرأي بالعمالة. مثل هذا الرجل كثيرون من صحافيين وسياسيين يعارضون التدخل الغربي الذميم، بينما تظهر أسماؤهم في قوائم مسربة لمن يحصلون على منح ودعم منتظم من سفير دولة إقليمية كبرى في عاصمة بلادهم.
يحق لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بما فيها مصر، أن توجه ملاحظات وتراجع سجل الدول الأخرى، وفقاً لقواعد عمل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
عن الشفافية
المسألة إذاً ليست في رفض ما يُسمى التدخل الخارجي، بل فيمن يتدخل ولأجل ماذا ولمصلحة من وكيف يتدخل!
وربما تكون الشفافية مدخلاً لفك هذه المعضلة. موقع “درج” الذي أنشر فيه هذه المقالة مثلاً، يحصل على دعم مالي من منظمات أهلية دولية معنية بحرية الصحافة، ولكنه لا يخفي هذا الأمر وينشره كما أنه ينص في تعاقداته على استقلال سياساته التحريرية. هذا مختلف تماماً عما سمعناه من شهادات متواترة عن أموال خليجية وليبية وعراقية وسورية كانت تذهب لصحافيين عرب في أنحاء المنطقة، كما أنه يختلف أيضاً عن خضوع مؤسسات صحافية بالكامل لرغبات مموليها أو القائمين عليها أ الأجهزة الأمنية ولية نعمتها.
ولا تقتصر المساعي المكذوبة المنافقة لرفض التدخل “السيئ” والاستمرار في قبول التدخل “الحميد”، على دول منطقتنا المنكوبة فحسب، فقد رأينا هذا السلوك المدعي الإفراط في الوطنية وحق تقرير المصير، عند الرئيس دوتيرتي في الفيليبين، رئيس الوزراء مودي في الهند والرئيس أوربان في المجر ونظيره البرازيلي بولسانارو وهلم جرا. وتشكو إيران من تدخل واشنطن في شؤونها بينما تباهت طهران ذاتها على لسان أحد مسؤوليها بأن لديها أذرعاً طائلة في عواصم عربية تأتي في مقدمتها لا شك بغداد ودمشق وبيروت. وبعدما تورطت في مقتل صحافي في إسطنبول رفضت السعودية اتهامات أميركا وآخرين لها بدعوى أنه تدخل مرفوض. ولم يعد مدهشاً أن دولاً وزعماء يتبنون تلك الخطابات بشأن السيادة، وهم أنفسهم مدينون بعروشهم لتدخل الآخرين (سوريا الأسد مثلاً!). وأخيراً وبعد انقلاب عسكري عاد به الجيش للسلطة في بورما، رفض الجنرالات ردود الفعل الغربية لأنها تدخل في شؤونهم!
لا يعرف الواحد لأي جمهور يتحدث هؤلاء المسؤولون لكنه لا شك جمهور ينكمش حجمه عاما بعد عام لأنه لا يصدق هذه التصريحات من ناحية ولأنه يعرف تفاصيل كثيرة عن التداخل المتزايد بين الدول والشعوب بسبب طبيعة الاقتصاد والتجارة والمواصلات والتواصل على شبكات الانترنت. لقد صارت أعداد ضخمة من مواطني بلدان منطقتنا تحلم بالهجرة، نحو 50 في المئة في السودان والأردن وليبيا وما يزيد عن 25 في المئة في مصر ولبنان بل ونحو نصفهم قد يقبلون بهجرة غير شرعية وعدد منهم لا يمانع في الهجرة إلى بلاد لا تحب استقبالهم بالضرورة. ففي إسرائيل ما قد يصل الى 25 ألف مصري ذهب معظمهم إلى هناك، بحثاً عن عمل ولديهم جمعية رسمية معترف بها. وفي بلاد كهذه، لن تهتم الأغلبية كثيراً بحجج التدخل الخارجي. ويبدو كأن هذا الحوار يدور بين كبار السن وبين المنتفعين من تدخل على حساب تدخل آخر (قطر بدلاً من السعودية أو العكس أو الذين يرفضون الانتقادات الحقوقية من جانب ألمانيا وأميركا، بينما يرحبون بالدعم المالي والفني والعسكري منهما، أو الذين يمتعضون لتصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون بشأن بلادهم بينما تتحكم طهران تقريباً في مجريات قسم ضخم من حياتهم اليومية من طريق حزب مسلح!).
لن يتوقف التدخل، ليس لأن الدول المتدخلة تجني فوائد وأرباحاً من التدخل في شؤون بلاد أخرى، بل لأنها في أحيان كثيرة تريد أن تحمي نفسها من مغبة تردي الدول التي تتدخل فيها وسقوطها.
لب المسألة في الحقيقة ليس رفض التدخل من عدمه، لأنه حقيقة واقعة ومستمرة ولن تتغير في عالم بات مترابطاً بقوة في علاقاته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وعلى صعيد العالم الافتراضي، وتواجهه تحديات ومشكلات لا يمكن التعامل معها سوى بشكل جماعي، بداية من مشكلات البيئة ونهاية بفايروس “كورونا”. لب المسألة هو أي نوع من التدخل نقبل وأي نوع نرفض، وكيف نفهم هذه التدخلات بعيداً من اللغة الخشبية القديمة والتي لم يعد يصدقها أحد بشأن استقلالية القرار الوطني.
ولن يتوقف التدخل، ليس لأن الدول المتدخلة تجني فوائد وأرباحاً من التدخل في شؤون بلاد أخرى، بل لأنها في أحيان كثيرة تريد أن تحمي نفسها من مغبة تردي الدول التي تتدخل فيها وسقوطها. فمثلاً، لا دولة أوروبية عاقلة تريد لمصر أن تصبح دولة ضعيفة أو فاشلة. أثمان هذا ستكون فادحة عليها كما حذر مسؤول كبير منذ سنوات، عندما قال لمسؤول بريطاني إن قوارب المهاجرين “غير الشرعيين” من مصر خارج نطاق القانون ستغطي مياه المتوسط، إذا لم يدعموا اقتصاد مصر وحكومتها! وأثمان هذا ستكون فادحة على أمن ليبيا ودول جنوب المتوسط، بل وحتى منطقة الخليج. نحن نتحدث هنا عن مليارات الدولارات المتوقعة من التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط وعشرات الآلاف من الدواعش والجهاديين الذين يرحبون دائماً بأي اضطراب يمكنهم من العمل بحرية أكبر.
ولن يتوقف التدخل لأن النظام العالمي يعمل هكذا وباطراد منذ نهاية التدخل المسلح السافر مع نهاية عصر الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين. وتمأسست هذه التدخلات الجديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في صورة قوانين ومؤسسات دولية وهيئات ومنظمات مجتمع دولي وشركات عابرة للقارات والحدود، وليس هناك أي سبب محتمل كي تختفي هذه الترتيبات التدخلية عاجلاً أو آجلاً. لن يتوقف التدخل، وكل ما يجب أن نسعى إليه حقاً هو مزيد من الشفافية وفضح هذه التدخلات، “الصالح” منها “والطالح” وأن نعرف ما هي مصلحة من يتدخل ولحساب من تدخل.
لقد انقضى الزمن الذي كان يمكن القول فيه، “أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب”، وبات من حقنا جميعاً أن نسائل دولنا ونسائل الشركات الكبرى ونسائل بعضنا بعضاً، وكل من يرفض هذه الأسئلة بحجة استقلال وطني مزعوم يريد إخفاء حقائق قد تساعدنا على إصلاح بعض هذا الخراب المنتشر من حولنا.
نشوة الأزهري
شكرًا للمقال المتميز…
نشوة