نُشر ١٥ مارس ٢٠٢١ على موقع درج
على رغم عدم توفر اللقاح المقاوم لفايروس “كوفيد- 19” لكل البشر وبخاصة في الدول الفقيرة، إلا أنه يبدو أن عدداً ليس بقليل من الناس يرفضون تلك الجرعات، إما بسبب انعدام الثقة في كفاءة مؤسسات الصحة العامة وصدقيتها في بلدانهم، أو بسبب انتشار ادعاءات مذهلة حول مؤامرات من شركات الأدوية أو دول أجنبية تستغل الوباء المنتشر كونياً، من أجل السيطرة على البشر أو انتهاك قناعاتهم الدينية وتفضيلاتهم الاجتماعية.
وليس هذا بالجديد في عالم اكتشف لقاحاً مقاوماً لفايروس شلل الأطفال في منتصف الخمسينات، لكنه ما زال عاجزاً عن القضاء عليه بعد أكثر من 60 عاماً بسبب عوامل مشابهة.
العامل الرئيس في الفشل هو انعدام الثقة في السلطات السياسية المركزية والإقليمية القائمة على حملات التطعيم والجهل، المبرر أحياناً، بتركيب الطعم وطريقة عمله
أتذكر كيف كان هناك دائماً معي في سنوات دراستي الابتدائية في دلتا مصر في السبعينات، تلاميذ يعانون من شلل الأطفال. بعضهم أسعده الحظ بدعامات معدنية وأحذية بنعال مجهزة كي يتمكن من السير وآخرون كانوا يضطرون للانحناء ودعم الأرجل الضعيفة بأذرعهم الصغيرة والوقوف كل لحظتين من أجل الراحة. أما الحالات الأسوأ فكانت تقضي معظم حياتها سجينة البيت تعاني من شلل في أطرافها وصعوبات في التنفس.
كان التطعيم ضد هذا الفايروس اللعين قد بات منتشراً في أنحاء العالم منذ بداية الستينات، لكنه لم يصبح متاحاً في حملات قومية في مصر طوال عشرين عاماً. وهكذا كان عدد الحالات في مصر في أوائل الثمانينات يتراوح بين 10 و15 ألف حالة سنوياً، ولم تنجح حملات التطعيم المنتظمة في القضاء على انتشار المرض حتى عام 2004 عندما صارت مصر، مع السودان، آخر دولتين ناطقتين بالعربية تتمكن من القضاء على هذا الفايروس.
وفقاً لأحدث الإحصاءات الصادرة هذا العام فإن عدد المصابين بفايروس شلل الأطفال الأصلي هم 98 حالة في بلدين هما أفغانستان وباكستان. هناك أسباب عدة لهذا الانخفاض الدرامي في العالم كله، وأخرى لكون هذين البلدين المنكوبين ما زالا تحت سطوة شبح هذا الفايروس اللعين، وبالتالي يعرضان العالم كله للخطر لأنه طالما ظل الفاًيروس كامنا في جسد ما في بلد ما فهو خطر على البشرية كلها. وطالما ظلت هناك إصابات في العالم، ستستمر حملات التطعيم التي تكلف مليارات الدولارات سنوياً حتى يختفي الفايروس تماماً سنوات عدة، وساعتها يمكن إيقاف التطعيم الكوني كما حدث مثلاً في حالة الجدري في ١٩٨٠ . .
في سنواتي الأخيرة في العمل في صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) حتى عام 2013، ساهمت في وضع الخطط الدولية المتعلقة بالحملة العالمية للقضاء على مرض شلل الأطفال، وأعتقد أن باكستان وأفغانستان أخفقتا ساعتها وحتى الآن، في القضاء على الفايروس بسبب الصراع المسلح الدائر في أفغانستان بدرجة أساسية، ولكن أيضاً بسبب التخوف من استعمال حملات التطعيم من جانب السلطات المركزية وأجهزة المخابرات من أجل إحكام السيطرة على المناطق القبلية والعشائرية في البلدين، واستخدام القائمين على التطعيم في التجسس كما حدث عام 2011، عندما ساهم طبيب ادعى أنه مشارك في حملة تطعيم في فضح مكان اختفاء أسامة بن لادن ما ساعد وحدة قتالية أميركية على قتله، وهي عملية أدت إلى تجميد حملات تطعيم شلل الأطفال في تلك المناطق في باكستان، وتفشي الفايروس فيها سنوات تالية.
وأتذكر محاولات كثيرة قمنا بها في الأغلب من دون طائل، لضمان دعم التجمعات المحلية لحملات التطعيم في هذين البلدين. وكان العامل الرئيس في الفشل هو انعدام الثقة في السلطات السياسية المركزية والإقليمية القائمة على حملات التطعيم والجهل، المبرر أحياناً، بتركيب الطعم وطريقة عمله وإن أي لقاح في العالم له نسبة فشل ومدى زمني، تقل بعده مناعة الجسد البشري للعدوى، وتتعين إعادة التطعيم في مواجهة بعض الفايروسات والبكتيريا، مثلما هي الحالة مع طعم التيتانوس الذي ينصح بتكراره كل عشر سنوات. كما يمكن أن تتسبب لقاحات بعينها في مضاعفات خطيرة لمصابي أمراض معينة مثل الحساسية لمكونات معينة أو مشكلات في الجهاز المناعي أو السرطان.
ولا يبدو الأمر الآن مختلفاً في بلدان عربية عدة، مع الاعتراف بأنه من شبه المستحيل الحصول على أرقام دقيقة لمدى توفر لقاح “كورونا” في غالبيتها وعدد من تم تطعيمهم وإجراء أي استطلاعات رأي حول مدى الثقة العامة في التطعيم. منصات التواصل الاجتماعي والسلوك العام، تظهر معدلات عالية من التشكك وتدنياً واضح في الثقة. وفي الأردن، على سبيل المثال قال نائب رئيس المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات، مازن الفراية، إن 25 في المئة من الأشخاص الذين وصلتهم رسالة لتلقي اللقاح المضاد لـ”كورونا”، لم يحضروا لتلقي التطعيم وإن عدد المسجلين على المنصة الخاصة بالتطعيم بلغ 419 ألف شخص وهم يشكلون ما نسبته 8 في المئة من الفئة المستهدفة في بلد يبلغ تعداد سكانه قرابة 11 مليون نسمة. وفي مصر، قال متحدث حكومي إن 250 ألف شخص فقط سجلوا للحصول على اللقاح في الأيام العشرة الأولى لفتح باب التسجيل على الانترنت في بلد يزيد عدد سكانه عن مئة مليون نسمة.
إضافة إلى فقر وضعف الحملات الحكومية لتوجيه المواطنين بشأن كيفية التسجيل في منصات الانترنت للحصول على اللقاح، لا يُبذَل جهد حكومي مكثف لنشر الوعي بشأن طبيعة عمل اللقاحات وفعاليتها في خلق مناعة لدى من يحصل عليها والفترة الزمنية لهذه المناعة. وربما لا تبذل الحكومات جهداً جدياً في هذا الصدد، لأنها لا تبالي كثيراً بتأمين الكمية الكافية من اللقاحات، أو لا تستطيع مادياً وفي ضوء تكالب الدول الغنية وفشل المؤسسات الدولية، الحصول عليها، وبالتالي، ليس من داع لزيادة الطلب على سلعة لن تستطيع هذه الحكومات توفيرها.
وتظل هناك شكوك شعبية واسعة وتخوفات من الفايروس، تظهر بشكل واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، ويقع بعضها في مجال الخرافات والأوهام من قبيل أن التطعيم نفسه مضر وأنه قد يؤدي إلى آثار جانبية مميتة. وتعود هذه الشكوك إلى ضعف الثقة المزمن في السياسات والبيانات الرسمية. كما أن اضمحلال استقلالية معظم وسائل الإعلام أفقدها صدقيتها، وبالتالي دورها في توصيل رسائل مقنعة للناس وإجراء جدل عام مفيد للمؤيدين والمعارضين. ويترك هذا الجمهور العام فريسة لتقارير تجب قراءتها بحرص وتفهم، مثل ما حدث في الأيام القليلة الماضية من تعليق العمل باللقاح الذي طورته شركة “استرازينكا”، بالتعاون مع جامعة “أوكسفورد” بعد إصابة 30 شخصاً في الدنمارك بجلطات دموية، أدت إلى وفاة واحد منهم بعد حقنهم باللقاح. وعلى رغم أنه لم تثبت بعد العلاقة بين الجلطات الدموية واللقاح وأن عدد الذين حصلوا على هذا اللقاح وصل إلى 5 ملايين شخص في أوروبا، قامت 7 دول على الأقل بتعليق توزيع اللقاح حتى إجراء المزيد من الدراسات.
ولا يقتصر الشك في المؤسسات الكبرى حكومية كانت أو شركات ضخمة من حيث الكفاءة والالتزام بمعايير أخلاقية على عالمنا العربي، بل هو موقف منتشر في العالم كله وينتج عن ضعف متزايد في قنوات التواصل والتأثير المتبادل بين الشعوب والأنظمة الحاكمة، وتتدنى هذه الثقة ويصل الشك إلى منتهاه مع النظم السلطوية شبه الفاشلة التي تسيطر على أجهزة الإعلام وتسكت الأصوات المعارضة بشكل أو آخر، وما أكثرها في منطقتنا.
وترافق الشك في الأنظمة نظرة ثقافية قطعية تجاه العلم والدواء، تنظر إلى التدخلات البشرية في صورة أدوية واختراعات على أنها يجب أن تكون دائماً ناجعة، وإن أي نسبة فشل لها تعني أنه يجب الابتعاد منها تماماً من دون الأخذ في الحسبان، أن كل الابتكارات والتدخلات البشرية لها آثار جانبية ومخاطر محتملة وأن ما نسعى إليه هو تقليل نسبة الخطر وزيادة معدل الأمان الذي يستحيل أن يصبح مطلقاً. لذا فصحيح أن الطعوم لديها نسبة فشل مئوية قائمة على تجارب في مجتمعات بعينها، وأن هذه النسب يمكن أن تتغير لتصبح أسوأ أو أفضل مع الوقت، وأن آثاراً جانبية تظهر لدى فئات بعينها مع مرور الوقت، أكثر من فئات أخرى، وأن القرار في النهاية يجب أن يقوم على تبادل حر للمعلومات وقبول رشيد للمخاطر، قائم على مكاشفة واضحة وعلنية بشأنها. وستسمح تلك الحوارات المفتوحة بتفهم أكبر وربما بعض الضمانات لتهدئة المخاوف المبررة نسبياً من الإقبال على لقاح تم تطويره بسرعة خرافية ولم ينل حظه بعد من التجريب الواسع المستمر على مدى سنوات.
ومع كل هذا يبدو لي أن القرار الحصيف يجب ان يكون السعي للحصول على لقاح مرّ بالتجارب المقبولة دولياً مع قبول المخاطر المعقولة، بحيث أن خطر الموت بسبب انفجارات مجهولة او تردي الأوضاع الاقتصادية في لبنان أو حادث مروري في مصر أو قصف عشوائي في اليمن أو الإصابة بفايروس “كورونا” هو أعلى بكثير من خطر التعرض لمشكلة صحية بسبب اللقاح المضاد لـ”كوفيد-19″، بناء على المعلومات المتاحة وبخاصة من البلدان التي قامت مجتمعة بتطعيم عشرات الملايين من سكانها في الفترة الأخيرة.
ويبدو لي أنه يجب التركيز على المشكلة الحقيقية في معظم دول منطقتنا، باستثناء دول مثل الإمارات، وهي التدني المذهل في كمية جرعات اللقاح المتوفرة وغياب الشفافية في السياسات المتبعة. في مصر على سبيل المثال لم تتعدَّ الجرعات المتاحة حتى وقت قريب 400 ألف جرعة بينما تحتاج البلاد إلى عشرات الملايين من الجرعات لتغطية احتياجاتها وهو أمر يصعب تحقيقه قبل نهاية العام الحالي.