“منظمة الصحة العالمية” بين ضحايا كوفيد 19؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

نُشر على موقع درج يوم ٢ مايو ٢٠٢٠

بعد أشهر من العمل في الأمم المتحدة، جلست أشكو إلى صديق في نزل إقامة الموظفين الدوليين في كابول ونحن نحتسي مشروباتنا بعد العشاء في ليلة صيفية في الحديقة. انفلت لساني وأنا أصف تقاعس المنظمة عن الوقوف في وجه “حركة طالبان” من ناحية والمانحين الأميركيين والأوروبيين من ناحية أخرى، ومدى تجميل هذا الواقع المزري الذي نقوم به في مؤتمراتنا الصحافية وتقاريرنا السنوية. 

“نحن ببساطة نكذب للحصول على المزيد من الأموال لبرامج لا أعتقد أنها تحقق ما نعد به. نحن لا ندلي بمعلومات خاطئة ولا نكذب بهذا المعنى، ولكننا نكذب لأننا لا نذكر الحقيقة كلها، ونخفي نصف الواقع”، قلت ذلك وأنا أشعر بالمرارة واتفق معي الرجل المحنك الذي سبقني إلى هذا المجال بعشرين عاماً. ثم ضحك وقال: “ليس لدينا بديل أفضل، ومعظم ما نقوله علناً أو ما نسعى إلى تحقيقه على الأرض هو تعبير عن أمل وحلم ويجب أن نواصل التمسك بهما وانهيار هذه المنظمات لن يصيبنا سوى بخيبة أمل مريرة ويأس عميق”.

والآن، بعد عشرين عاماً من هذا الحوار، لم أعد متأكداً من صواب رأيه.

وفي العادة لا تبرز هذه المسائل المتعلقة بكفاءة المنظمات الأممية إلى مقدمة الاهتمام العالمي المشتت عادة وبخاصة خلال أزمة كونية غير مسبوقة مثل الجائحة الراهنة. ولكن رئيس جوقة مهرجي السياسة الذي يشغل أيضاً منصب رئيس الولايات المتحدة، قرر أن يهاجم “منظمة الصحة العالمية”، فتعرضنا مرة أخرى إلى الجدل حول ضعف المنظمات الأممية وفشلها وضرورة تغيير مسؤوليها ولوائحها أو حتى إراحة رؤوسنا من هذا الصداع الدوري وإغلاقها برمتها. 

هل المنظمات مستقلة حقاً؟

تواجه المنظمات الأممية الآن تحديات عدة شاركت هي بنفسها في صنعها، من طريق المبالغة في دورها وأهميته وقدرتها على تغيير الواقع الإنساني. ومن ناحية أخرى يستمر الافتراض الواهي بأن تلك المنظمات مستقلة حقاً وليست، كما هي في حقيقة الأمر، ساحة صراع بين حكومات العالم ومحل نزاع بين كبار المانحين من دول وهيئات. وتتصاعد الانتقادات على هذا الأساس من ترامب وحتى “رجل الشارع” بسبب “فشل” هذه المنظمات في إيجاد حلول ناجعة للصراعات وللفقر وللمرض. وصار أهم عمل لها هو تقديم المساعدات والمسكنات وإصدار البيانات والإعراب عن القلق، العميق أحياناً. ثم يلطمنا السؤال المتكرر: أَليست منظمات الأمم المتحدة خارج زمانها؟ ألم تُؤسس من أجل عالم قام بعد الحرب العالمية الثانية وتقارب الآن 80 عاماً وتستحق التقاعد قبل وفاة وشيكة؟ 

سيظل هذا الإصلاح، كما ادعى صديقي المحنك في تلك الليلة اللطيفة في كابول قبل أن تنهمر عليها الصواريخ الأميركية بعدة أشهر عقب 11 أيلول/ سبتمبر، أفضل من الشعور باليأس والانهيال بمطرقة على رأس هذه المنظمات.

هذا كله نقد محق ولكن إغلاق المنظمات ليس حلاً، ليس بعد! كما أن هذا الخيار في الحقيقة ليس مطروحاً بجدية من دول العالم التي تسيطر مجتمعة بدرجات متفاوتة على هذه المنظمات. ما زالت المقاربة الأفضل هي كيف يمكن التدخل حتى لا تستمر تلك المؤسسات الضخمة في التآكل ويمعن بعضها في الشيخوخة وينسى الناس أسماء عدد منها؟ لا طريق سوى الإصلاح إلا إذا كانت هناك ثورة أممية قائمة على قدم وساق لا يدري الواحد عنها شيئاً وستقوم بإعادة تنظيم العلاقات الدولية وضبط نصوص تطبيق القانون الدولي وإرغام الدول على احترامه عبر محاكم دولية وقوات مسلحة كونية! 

“منظمة الصحة العالمية” وموقفها منذ نهاية العام الماضي في مواجهة فيروس كوفيد19 مثال واضح على هذا الواقع المركب. وتخضع المنظمة لمجلس الصحة العالمي المؤلف من مندوبي الحكومات الـ194 الموقعة على دستور إنشاء المنظمة. ويقوم المجلس بمهمات قليلة، أهمها اختيار المدير العام للمنظمة بالتصويت وإقرار الميزانية السنوية، ويساعد المجلس هيئة تنفيذية بها 34 عضواً يتم انتخابهم دوريا من الدول الأعضاء. قدرات المنظمة خاضعة لرغبة الدول الأعضاء، وليست لها صلاحية فرض إجراءات بعينها، فمثلاً يحق لها كما فعلت خمس مرات في آخر عشر سنوات كانت آخرها منذ مدة قصيرة، أن تعلن حالة طوارئ صحية في عموم العالم. ولكن هذا الإعلان لا يمنحها سلطة إغلاق الحدود أو فرض حظر تجول أو تخصيص مليارات الدولارات للأبحاث للتعامل مع الكارثة. هذه الخطوات كلها تخضع للحكومات والشركات الكبرى. 

المنظمات في مواجهة الحكومات

التحدي في نهاية المطاف ليس تلاعب الصين (أو الولايات المتحدة) بمنظمات دولية ومنها “منظمة الصحة العالمية”، بل في أن النظام نفسه كله قائم على وجود هذا التلاعب من جانب الدول الأعضاء في حدود اللوائح والقواعد المطاطة نسبياً. لن يقلل من التلاعب سوى قواعد وممارسات أفضل تتمسك بالشفافية وبمساءلة ديموقراطية ولكن حتى هذا لن يجعل “منظمة الصحة العالمية” وزارة صحة كونية طالما اللاعب الأهم على الصعيد الكوني هو الدول والحكومات، لا المنظمات الدولية.

لقد نجحت المنظمات الأممية، مثلاً، في تنظيم تصفية الاستعمار في بلدان عدة وتوحيد المعايير الخاصة بالاتصالات والتجارة وتصميم والمساهمة في تنفيذ حملات تطعيم كونية قضت على أوبئة عدة منها الجدري والطاعون وتقترب حثيثاً من القضاء على شلل الأطفال. ولكنها فشلت في السيطرة على النزاعات وفي إحلال السلام أو تخفيف حدة الفقر واللامساواة وتكريس احترام حقوق الإنسان.

وقبل اندلاع الزوبعة الترامبية مع “منظمة الصحة العالمية”، كان رئيس تلك المنظمة ووزير الخارجية الاثيوبي الأسبق تيدروس ادهانوم جيبريسوس أعرب عن خيبة أمل قوية بالحكومات الكبرى إزاء سلوكها بشأن الجائحة. وبعد ضغط من الصحافيين عليه وعلى مدير فريق عمل كوفيد 19 في المنظمة، الطبيب الايرلندي مايك رايان من أجل تسمية هذه الدول (وربما كانت الصين واحدة منها)، لم يقل ريان سوى: “هذه الدول تعرف نفسها أما نحن فكما تعرفون فلا يمكننا انتقاد الدول الأعضاء”. 

يعرف من قرأ قسطاً بسيطاً من التاريخ ظروف نشأة المنظمات الأممية سواء تلك السياسية مثل مجلس الأمن والأمانة العامة، أو تلك القائمة على تنظيم الاقتصاد والمال مثل البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، ثم القطب الثالث من صناديق وبرامج ومنظمات تعنى بالصحة والغذاء والمسكن والكوارث الطبيعية والنزاعات البشرية. ويصدعنا كثيرون بالقول إن ظروف الميلاد تغيرت منذ أربعينات القرن المنصرم، بينما لم تتغير هذه المنظمات. ولكن هذا غير صحيح، فقد تبدلت هذه المنظمات أيضاً وتطورت لتعكس في المطاف الأخير توازناً ما بين توزيع القوى في العالم ومنظومات القيم المتصارعة والتفسيرات المتنازعة للقانون الدولي. هذا كله يفتح مجالاً للتأثير فيها وتغييرها. وسيظل هذا الإصلاح، كما ادعى صديقي المحنك في تلك الليلة اللطيفة في كابول قبل أن تنهمر عليها الصواريخ الأميركية بعدة أشهر عقب 11 أيلول/ سبتمبر، أفضل من الشعور باليأس والانهيال بمطرقة على رأس هذه المنظمات.

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

1 فكرة عن ““منظمة الصحة العالمية” بين ضحايا كوفيد 19؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *