Blog

نُشر للمرة الأولى في موقع درچ بتاريخ 21 مارس 2022


غرقت الباخرة المصرية زمزم في شهر نيسان/أبريل 1941 في ذروة الحرب العالمية الثانية، وهي في طريقها من نيويورك إلى مصر عبر المحيط الأطلنطي مع الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح. لكن الصحفي المصري أحمد خير الدين لم يعرف شيئا عن هذه الواقعة سوى بعد حدوثها بثمانين عاما عندما قادته الصدفة للاطلاع عليها في مكتبة الكونغرس حيث كان يتسلى بتصفح ما كانت الصحف المصرية المحفوظة هناك تنشره عما حدث في بلده أثناء الحرب العالمية الثانية.  

وعلى عكس دور الوثائق والأرشيفات الرسمية في منطقتنا البائسة فإن دخول مكتبة أمر سهل، وتصوير ما بها من وثائق ودوريات وكتب أمر يسير. ويبدو أن الشغف تملك خير الدين بعد أول تماس مع خبر قصير عن غرق الباخرة، فاندفع في طريق طويل راجع فيه أرشيفات أخرى في الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا بالإضافة إلى أعداد الصحف المتاحة في مؤسسات مصرية مختلفة، ليعرف ماذا جرى للباخرة زمزم ولطاقمها المصري. وبالإضافة إلى الصحف والوثائق تعقّب الكاتب بعض أبناء الناجين من البحارة والضباط المصريين المئة وثلاثون وأحفادهم أو ركاب السفينة وكان معظمهم من الأمريكيين وخاصة من المبشرين وعائلاتهم الذين كانوا في طريقهم من نيويورك إلى أفريقيا. ونتج عن هذا الشغف كتاب “على بلد المحبوب: رحلة زمزم الأخيرة” والذي صدر عن دار الشروق المصرية العام الماضي.

عندما تقرأ كتاب خير الدين تشعر أنك تشاهد إنتاجاً لمنصة “نتفليكس” أو شبيهاتها من منصات الدراما، بالتقطيع الزمني ذهابا وأيابا، والانتقال من شخصيات إلى أخرى لا تدري ما الرابط بينهما، حتى تصل إلى منتصف الحلقات، أو الكتاب، فتتضّح أمامك كيف تكاتفت كل هذه العناصر مثل الطوب أو الحجارة أو الألواح الخشبية لتصنع البناء الذي يغرق أمامك في مياه المحيط الاطلنطي عندما أطلقت بارجة ألمانية متنكرة نيران مدافعها على الباخرة زمزم فأغرقتها بعد أن أخلت كل من فيها من ركاب.

كان للقصف المتبادل بين دول المحور والحلفاء للسفن العابرة المشتبه بها في أعالي البحار أثناء الحرب العالمية الثانية ضحايا كثيرون، وغرقت سفن ركاب متعددة وغرق معها مئات الضحايا. وكان حظ الباخرة زمزم أفضل نسبيا فلم يُقتل واحدا من ركابها بسبب القصف الألماني، ولكن هذا القصف ذاته كان عملا غير مشروع لأن زمزم كانت ترفع العلم المصري وهو بلد محايد في الحرب العالمية الثانية، ظاهريا وقانونيا!  

يتتبع خير الدين تفاصيل قصص بعض الركاب من قبل صعود السفينة حتى لحظة غرقها وما جرى بعدها. كان حظ الركاب تعسا، ولو صدقت شكاويهم بشأن سترات النجاة المثقوبة وقوارب الإنقاذ المتهالكة ومعاملة بعض الضباط والبحارة غير المهنية وسلوكهم المرتبك بعد القصف الألماني لازدادت قتامة مشهد غرق السفينة رغم نجاة كل الركاب والطاقم. ولولا أن معظم الركاب أمريكيون ومن جنسيات غربية ربما لما عُرف خبر غرق السفينة وتورط الألمان فيما جرى لها بنفس السرعة، حيث اكتفت بأخبار قصيرة عن الباخرة التي كان الأمريكيون والكنديون يتحدثون عن غرقها في المحيط الأطلنطي بينما كان قنصل مصر في نيويورك يدّعي أنها كانت سليمة! 

وبعد أسابيع مؤلمة على ظهر السفينة الألمانية التي أقلت الناجين (بعد ان قصفت باخرتهم) نحو فرنسا المحتلة أُفرج عن الأمريكيين كلهم تفاديا لغضب الولايات المتحدة بينما استبقت السلطات الألمانية عددا من الأشخاص من الجنسيات الأخرى لفترة قصيرة، واحتجزت البحارة والضباط المصريين سنوات عدة في معسكرات عمل اجباري وظروف صحية وغذائية سيئة. وشكا أحد البحارة المصريين لصحفي أمريكي أنه كان يجب على الالمان ان يعاملوا المصريين بلطف أكثر من الأمريكيين لان بلدهم لم تشارك في الحرب بخلاف الولايات المتحدة التي كانت تدعم بريطانيا علنا! وكان هذا الادعاء خاطئا حيث يوضح خير الدين مقدار المساعدات الهائلة التي قدمتها مصر للحلفاء وخاصة بريطانيا خلال الحرب (بل واعترفت الحكومة المصرية بذلك وطلبت تعويضها بعد الحرب).

ولا يبدو أن الصحف المصرية منحت مصير السفينة وما جرى لطاقمها من الأهمية ما يقتضي نشر قائمة بأسمائهم أو تقصي احوالهم بتفصيل أكبر. وعانى خير الدين في الوصول لمثل هذه القائمة والتوصل لبعض تفاصيل ما جرى للطاقم المصري المحتجز من مصادر ألمانية وسويسرية. 

ورغم لا مبالاة الصحف المصرية، أدعى محمد كاظم، الذي كان صحفيا في “الأهرام آنذاك”، في كتاباته عن مصير الطاقم التعس أن عيون الطاقم المحتجز “جفّت حين عرفوا من إذاعة لندن إن الملك فاروق تعرض لحادث سيارة” في أواخر 1943 “ثم طربت قلوبهم حينما علمت بنجاته وأصروا على أن يرسلوا له خطابا ليستعلموا عن حاله”. 

قديم هو النفاق او ما تشيع اليوم تسميته بـ”التعريص” في بلادنا لأولي الأمر، حتى وصل الحد بنقابة بحارة البواخر إلى شكر الحكومة على ما فعلته لإرجاع البحارة وصرف الاعانة المالية لهم وخصت بالشكر “صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء … ومولانا حضرة صاحب الجلالة الملك البحار الأعظم”. وجرى هذا رغم أن الدولة تقاعست سنوات عن السعي للإفراج عن هؤلاء البحارة مقابل أي من الأسرى الألمان المحتجزين لديها كما كانت دول أخرى تفعل. ثم إنها قامت بخصم مبالغ ضخمة من مستحقات هؤلاء البحارة عند عودتهم لدفع نفقات سفرهم من ألمانيا إلى مصر. وجرى هذا بينما حصل عدد من الركاب الأجانب على تعويضات بعد قضايا رفعوها في المحاكم ضد شركتي توماس كوك والإسكندرية للملاحة المصرية لأن الشركتين كانتا تقولان في الدعاية أن السفر على السفينة “زمزم” بلا مخاطر تذكر لان الباخرة “تسافر تحت علم مصر المحايدة”. واستمر بحارة السفينة يشكون حتى عام 1951 من عدم حصولهم على كل مستحقاتهم المالية ناهيك عن التعويضات!

يواجه قارئ كتاب خير الدين صعوبة في البداية حيث تتناثر عناصر الكتاب دون أن يجمعها خيط منتظم او قصة تتطور دراميا بشكل الحكاية البسيطة الممتدة في الزمن، ويزيد من الصعوبة أحيانا أن الكاتب ينساق خلف المادة الثرية التي وجدها وهو يبحث عما حدث لركاب الباخرة ولا سيما بحارتها وضباطها المصريين بعد غرقها. وهكذا ننساق خلف ضابط استرالي في شوارع القاهرة يبحث عن القارئ الشهير الشيخ محمد رفعت لأنه عشق صوته في محطة إذاعية ما وهو يرتل القرآن، او إعلانات برنامج ملهي بديعة مصابني الجديد، او ألاعيب الكواليس السياسية في القاهرة. وهكذا يفلت خيط مصير ركاب السفينة الذين هم مقصد الكتاب الرئيسي أحيانا ونتوه في شوارع فرعية محيطة، وإن كانت مثيرة حيث انها تجلب للكتاب لوناً وملمساً ورائحة، وتظهر الإمكانيات القائمة، رغم صعوبة العمل، في كتابة التاريخ المهمل في غياب أرشيف معتمد.

ينضم كتاب خير الدين لنوع مهم من الكتابة عن تاريخ مصر الحديث من جانب غير المتخصصين  برز منه مؤخرا كتاب إيمان مرسال “في أثر عنايات الزيات” وما نشره محمد شعير عن أعمال نجيب محفوظ وتطوره الأدبي.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *