كيف تلوّن «المولودة» تاريخ مصر بالعامية

Facebook
Twitter
LinkedIn

(منشور في مدى مصر بتاريخ ١٠ فبراير ٢٠١٩)

تحكي كتب التاريخ بمدارس الحكومة في مصر حواديتها بالأبيض والأسود. نحن الأبيض، مثل مَن يرتدون هذا اللون في المسلسلات الدينية، وهم الأسود؛ الآخر الوحش المستعمر الكافر الفارسي الصليبي الشيعي. تقسم تلك الكتب تاريخ بلادنا بحسب مَن يحكمها، وليس المحكومين، فيصير لدينا العصر الفرعوني، واليوناني، والروماني، ثم الفتح العربي، حتى العثمانيين، فنصبح مصر الحرة المستقلة، فندخل في تقسيمات أخرى عن عصر ناصر، وأيام السادات، وعقود مبارك.. إلخ.

تحدثت تلك الكتب عن الأسلحة الفاسدة كسبب لهزيمة جيشنا المرة من الصهاينة في 1948، ولا شيء عن تفوق الميليشيات اليهودية وتشرذم العرب وتآمرهم على بعضهم البعض وفشلهم في إدارة مفاوضات جادة مع المجتمع الدولي المنحاز والاستعماري. انتقدت تلك الكتب الحياة السياسية المضطربة قبل استيلاء الجيش على السلطة في 1952 ولم تتطرق إلى فوران المشاركة الشعبية من الإخوان والشيوعيين والعمال والطلبة في حياة سياسية غنية واكبتها حياة صحفية وفنية وفكرية متدفقة. وهكذا وهكذا.

كتب يروج لها مَن شاءت لهم الظروف الإمساك بمفاصل السلطة السياسية أو الأدبية في أوطانهم فتحوّل الهزائم إلى نكسات، وقِصر النظر إلى مؤامرات دولية، ويصبح الخوف من الآخر تحوطًا، والانسحاق شعورًا بالعظمة والأهمية.

وعشان كل ده؛ غمرتني سعادة قوية بعد أن قرأتُ كتاب «المولودة» لصاحبته نادية كامل عن حياة أمها. كتاب بصوت نايلة كامل وبالعامية. كتاب عن التاريخ بعينين الناس اللي تحت، ومكتوب بمهارة ونعومة بالغة لا بُد أنها اقتضت عملًا كثيرًا. كتاب يلوّن تاريخ مصر في القرن العشرين بألوان أكثر بكثير من أبيض وأسود كتب المدرسة. كتاب من لحم ودم.

«المولودة» التي يحمل الكتاب اسمها هي نايلة كامل التي كان اسمها عند الولادة «ماري». الأب، إيلي روزنتال: يهودي من أصل مختلط حيث هاجر أبوه، موسى روزنتال، من أوديسا إلى إسطنبول ثم إلى القاهرة. الأم: لياندرا، إيطالية مسيحية أتت لمصر للعمل مربية قبل الحرب العالمية الأولى. ومن هذه السَلاَطَة أو الخلطة وُلدت نايلة التي استمرت هي وأبواها دون جنسية لعجزهم عن تقديم الأوراق المطلوبة للحكومة المصرية. وفي سن العاشرة تمّ تعميد ماري لتصبح مسيحية لدى الكنيسة. ولتكتمل سلاطة الألوان والخضروات المعقدة هذه؛ تقع ماري في غرام سعد كامل، وهو شيوعي مسلم تمتد أصول عائلته إلى أبخازيا. ولأنه عنيد، ولا يكلّ عن المحاولة، فإنه نجح -ربما في سابقة هي اﻷولى والأخيرة من نوعها- في استصدار إذن رسمي من الفاتيكان ليتزوج ماري إيلي روزنتال في طقوس كنسية بعد أن كان تزوجها حسب الشريعة الإسلامية.

كتاب «المولودة» حدوتة تحكيها نايلة بتواضع غير مفتعل، وواقعية صلبة. ولعل مَن يقرأ الكتاب سيستمتع به أكثر لو شاهد فيلم نادية الذي ظهر عام 2007 «سلطة بلدي»، وتحكي فيه عن زيارة أمها لإيطاليا وإسرائيل وفلسطين للقاء أقارب لم تكن قد رأت بعضهم من عقود.

مشاهير أدباء ونقاد وصحفيين وأكاديميين تنقل لنا نايلة شذرات من حياتهم اليومية ومتاعبهم وأفراحهم وأحزانهم. لعب الشطرنج، مشاهدة مباريات الكرة، تغيير «الكافولة» متعددة الاستعمال قبل ظهور الحفاضات الصناعية، ضباط يساريون في تنظيم الضباط الأحرار يسعون للدفاع عن أصدقاء يساريين ثم يُلقى بهم في السجن بدورهم.

ليس هذا أدق وأشمل كتاب تاريخ عن اليسار المصري، ولكن هذه لم تكن مهمة نادية، ولا حكاية نايلة. بل ما نشدتاه ونجحتا فيه هو تقديم قطع تبدو متناثرة من مصر القرن العشرين، ولكنها تتداخل سويًا لترسم عالمًا غنيًا.

عالم ترقص فيه تحية كاريوكا في مؤتمر «أنصار السلام» في أوروبا، وتعد الكاكاو باللبن لرفيقاتها في السجن من خلايا شيوعية أو محبوسات جنائيات في الخمسينيات، وتدخل فيه نايلة وسعد في علاقات إنسانية عميقة مع بشر مركبين مثل الكاتب يوسف إدريس، والصحفية والنقابية النشطة أمينة شفيق، والناقد الفني مصطفى درويش، والناشطة والمثقفة النسوية درية شفيق والصحفي عبد الستار الطويلة [وهو زوج ماري الأول وهو زواج انعقد لأسباب سياسية وأمنية]، والشيوعي المصري الأشهر هنري كورييل، والكاتب الصحفي الكبير أحمد بهاء الدين، ورسام الكاريكاتير الفذ بهجت عثمان، والصحفية والكاتبة أمينة السعيد، والكاتب الناصري الفلاح صديق الكل محمد عودة، وعاشق الفن الشعبي زكريا الحجاوي، والممثلة زوزو ماضي، وعشرات آخرين.

لو كلفوني بالمساعدة في وضع مناهج التاريخ الحديث لمصر، أو في مدارس عربية، لأخذتُ مقاطع تمرّ خلالها نايلة بيسر من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لكيفية صناعة مربى اللارنج في درب البرابرة للتعامل مع الفلاحين في عزبة حمّاها في الفيوم للقاء ناصر مع تيتو، أو سعد كامل مع مبارك.. وجعلتُ من هذه المقاطع قراءة مقررة على طلبة المرحلة الثانوية.

وبعد أن فاز الكتاب بجائزة ساويرس فرع كبار الأدباء، مناصفة مع رواية سحر الموجي «مسك التل» في يناير 2019، ثار جدل، واندلعت خناقة حول لغة الكتاب العامية. خناقة تشبه كثيرًا خناقات الهويات المجروحة وهي تدافع عن موقعها فوق رمال متحركة، فتغرق فيها، ولكنها تدافع مستميتة عن صلابة متوهمة لوجود أرض تحتها، وتصرخ في وجه مَن يحاول أن ينبهها لوصول الرمال لصدرها.

العامية المكتوبة، رغم انتشارها على «فيسبوك» و«تويتر» ما زالت مستهجنة، وخاصة فيما يُنظر إليه على أنه مجالات الكتابة الجادة (الصحافة والبحث الأكاديمي والكتب غير الأدبية، إلخ)

والناس لا ترى غرابة في هذه الفروق الشاسعة أحيانًا بين المكتوب والمنطوق، سوى الأطفال الذين لم يتعلموا بعد ازدواجية المعايير، بل وتعددها حسب علاقات النفوذ والسلطة. أعرف طفلًا في السابعة، ماهر في تعلم اللغات مثل أقرانه في هذه المرحلة العمرية، قال لي إنه يتحدث أربع لغات، فطلبتُ منه أن يعددها فقال: «إنجليزي وفرنساوي وسوري ومصري». قلت له بضحك: «ما السوري والمصري.. الاتنين عربي! يعني يتحسبوا واحد. وفتح التليفزيون وكان هناك برنامج رسوم متحركة على قناة خليجية، فنظر لي باندهاش من الحوار». قلتُ له: «دي عربية فصحي»، فرد ممتعضًا: «يعني في تلاتة عربي، مصري وسوري وفصحى».

ستواصل العربية الفصحى في الأغلب اختفائها التدريجي من الحياة العامة مع سيطرة الإنترنت والتليفزيونات على انتشار وذيوع مفردات وتعبيرات دون غيرها، وستختلط الأمور أكثر مع غياب أي جهد منتظم وواسع للكتابة والنشر بالعامية. سيتواصل انسحاب الفصحى إلى الكتب والشعائر الدينية وخطابات السلطة ونشرات الأخبار وتستمر في نزف حيويتها وإمكانيات تجددها بينما تظل العامية سجينة الكلام مبعدة عن الكتابة، لنظل نراوح في مكاننا.

في الوقت نفسه، الادعاء بأن العامية (مصرية أو غيرها)، لا يمكن استخدامها في إبداع أعمال أدبية رفيعة هو موقف لا يعكس سوى حب أصحابه للفصحى. وهناك عدد كبير من الأعمال الأدبية والسياسية البديعة بالعامية منها أشعار بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، ومذكرات لويس عوض البديعة «مذكرات طالب بعثة» (1965) عن رحلته لنيّل الدكتوراه في أوروبا في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، ورواية مصطفى مشرفة «قنطرة الذي كفر» (1966) عن فقراء ثورة 1919 ودورهم في صناعة الثورة.

في أبيات شهيرة يقول صلاح جاهين: «عيني رأت مولود على كتف أمه/ يصرخ، تهنن فيه. يصرخ، تضمّه/ يصرخ، تقوله: يا بني ما تنطق كلام/  ده اللى ما يتكلمش يا كُتّر همه.. عجبي!».

وقد نطقت هذه المولودة، في الصفحات الخمسمائة والخمسين الصادرة عن دار «الكرمة» في القاهرة، بدقة ويسر وبساطة عن طريق حكايات وحواديت البشر من الحارة للقصر، ومن الجامع للجامعة، ومن قرى نائية إلى مدن أوروبية، ومن القاهرة إلى تل أبيب، ومن أوديسا، وأبخازيا، وفلورنسا، ثم اسطنبول إلى القاهرة. كتاب إنساني رفيع وحياة غنية عاشتها نايلة بفضول، وشغف، ومحاولة، وتحدي، وصبر، وتواضع، وشوق، ومغامرة، وقبل كل هذا بحب لنفسها وأسرتها والناس دون رومانتيكية مائعة أو نرجسية مزعجة. كانت نايلة تعتقد أنها لم تفعل شيئًا كبيرًا في حياتها، لكن صوتها الذي يحمله كتاب ابنتها سيبقى طويلًا ليؤثر في حيوات كثيرة.

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *