قانون العمل الأهلي في مصر: خطوة للأمام أم خطوتين للخلف؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

(منشور في مدى مصر بتاريخ ٢٣ ديسمبر ٢٠١٨(

بدأت وزارة التضامن الاجتماعي هذا الأسبوع سلسلة اجتماعات مع جمعيات أهلية منتقاة، وعاملين في مجال المجتمع المدني المصري بغرض التشاور حول قانون جديد لتنظيم العمل الأهلي في مصر. وقالت الوزيرة غادة والي إن ألف جمعية ستشارك في ملتقيات الحوار الأربعة في القاهرة والإسكندرية والاسماعيلية والمنيا يتمّ بعدها صياغة مقترح بتعديلات على القانون الحالي وتسليمها لمجلس الوزراء قبل عرضها على مجلس النواب. وفي جلسة القاهرة التي نظمتها مؤسسة «مصر الخير» كان المدعوون للحديث وأعضاء لجنة صياغة التوصيات من ثلاث منظمات فقط إضافة لممثلي وزارة التضامن وخبراء مستقلين.

وانطلقت فورة النشاط هذه بعد أن أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي في منتدى الشباب في شرم الشيخ أوائل نوفمبر الماضي عن تعديل قانون تنظيم العمل الأهلي في مصر، مادحًا منظمات المجتمع المدني التي «تقوم بدور رائع وإحنا محتاجينه..  لأن الدولة فيها 100 مليون مصري وفيها ناس كتيرة جدا تحتاج هذا الدعم.. من جانب منظمات المجتمع المدني التي تنظم جهود المصريين، الفقراء مع الأغنياء». وكلف السيسي رئيس الوزراء بتشكيل لجنة حكومية لإعداد تصور لتعديل القانون.

ودارت عجلات الدولة ونُظمت بعض الندوات، وشُكّلت اللجنة من وزارات العدل والخارجية والتضامن، بينما أُعيد نشر وتداول ونقاش مشاريع عدة مسودات مختلفة للقانون كان آخرها ما نشره نائب رئيس الوزراء السابق زياد بهاء الدين.

وبعد أقل من شهرين من إعلان السيسي تتباين التوقعات، ولكن لا يأمل مَن راقب سياسات الحكومة منذ 2013 في تغيرات جوهرية في القانون، وتتوقع مصادر مطلعة تعديل ما قد يصل إلى عشر مواد في القانون بغرض إسكات انتقادات دولية وتهدئة خواطر منظمات محلية خيرية ضخمة تعطلت بعض أعمالها، بينما قد تستمر مفاوضات داخل أجهزة الدولة لتحديد الجهات التي ستسيطر على مفاصل العمل الأهلي.

وتبدو الانتقادات والضغوط الدولية من حلفاء مهمين مثل الولايات المتحدة، وألمانيا في مقدمة الدوافع لتعديل هذا القانون. ولا توجد دوافع لدى الحكومة أو ضغوط محلية معتبرة من أجل تعديل فلسفة القانون نفسه أو إعادة النظر في علاقة الدولة مع المجتمع المدني، ناهيك عن النظر إلى التجمع وتشكيل هيئات مدنية بصفته حق أصيل للمواطنين ويقتصر دور الدولة على تنظيمه فحسب وليس محاربته أو جعله مجرد منفذ لخطط الدولة التنموية، أو تقديم خدمات اجتماعية تراجعت عنها الدولة في العقود القليلة الماضية. وفي هذا تشبه مصر دولًا مثل روسيا والمجر والهند باتت تسعى للتضييق على عمل منظمات المجتمع المدني في السنوات القليلة الماضية، وإن كانت مصر بأنظمتها الحاكمة المتعاقبة منذ حركة الضباط الأحرار في 1952 تعامل المجتمع المدني وتشكيلاته بريبة وتشكك وتسعى دومًا للسيطرة عليه.

أقرّ مجلس النواب القانون الحالي في نوفمبر 2016، ولكن الرئيس لم يوقع عليه سوى بعد ستة أشهر ومن يومها لم يُطبق القانون تقريبًا حيث لم تصدر لائحته التنفيذية رغم نصّ القانون ذاته على الانتهاء منها بعد شهرين من صدوره. كما لم يتشكّل «الجهاز القومي» لممارسة الرقابة على المنظمات الأجنبية غير الحكومية والبت في أي منح وتبرعات مالية أجنبية. وأدى هذا الوضع إلى بث الخوف والتردد، بل والشلل أحيانًا، في جوانب المجتمع الأهلي في مصر وخاصة للمنظمات المتوسطة والصغيرة أو تلك العاملة في مجالات مثل حقوق الإنسان.

ومن أهم مواد القانون الحالي (القانون 70 لسنة 2017) التي يتركز عليها الجدل الدائر وربما يجري تعديلها، مواد تنظم إنشاء جهاز قومي تشارك فيه مؤسسات أمنية ليتحكم في التمويل الأجنبي وعمل المنظمات الأجنبية أو العلاقات معها كما يتمتع بسلطات تمكنه من التغول على أدق تفاصيل عمل الجمعيات، إضافة إلى مواد خاصة بحق الجمعيات في التأسيس والعمل مباشرة بمجرد إخطار الحكومة، وأخرى بعقوبات بالسجن تصل لخمس سنوات، وغرامات تصل إلى مليون جنيه في حال وقوع مخالفات -المادة 87-، وأخيرًا مادة تنصّ على منح صندوق لدعم العمل الأهلي تسيطر عليه الحكومة 1% من قيمة كل منحة أجنبية.

ويوجد في مصر نحو 50 ألف جمعية ومؤسسة مسجلة لدى الدولة يعمل معظمها في تقديم المساعدات والخدمات مخفضة السعر للفقراء، وهم قرابة 28% من السكان بما يمثل نحو  30 مليون من المصريين. تدير هذه الجمعيات وخاصة الكبرى منها مدارس ومعاهد تعليمية وعيادات طبية وتقدم قروض ميسرة لمشاريع صغيرة وتوزع إعانات مالية وطعام وملابس (تقدم هذه الجمعيات مثلا ما يصل إلى نحو 30% من الخدمات الصحية في الريف). وهناك نحو عشر جمعيات كبرى تسيطر على القطاع الأكبر من هذا المجال منها مؤسسة «مصر الخير» و«بنك الطعام» وجمعية «الأورمان».

«بنك الطعام» مثلًا وهو تقريبًا الوحيد الذي ينشر ميزانياته وتقارير مراجع الحسابات، وتعدت إيراداته 462 مليون جنيه في عام 2017، كانت 80% منها تبرعات نقدية، بينماقال الشيخ على جمعة رئيس مجلس أمناء مؤسسة مصر الخير إن ميزانيتها لعام 2016 كانت 500 مليون جنيه، وقال اللواء ممدوح شعبان رئيس جمعية الأورمان إن ميزانية المنظمة ستقارب المليار جنيه في عام 2018. وإضافة إلى هذه الجمعيات المقربة للدولة هناك مؤسسات خيرية ضخمة ذات وضع خاص وأهمها «بيت الزكاة والصدقات» المصري الذي نشأ بقانون خاص في عام 2014 ويرأسه شيخ الأزهر أحمد الطيب بصفته، وقد تزيد ميزانية «بيت الزكاة» السنوية عن المليار جنيه. وتبدو هذه المؤسسات الخيرية المقربة للدولة أو التي أنشأتها الدولة مباشرة جزءًا من محاولة لسحب بساط العمل الخيري وموارده الضخمة وتأثيره الهائل في مصر من تحت أقدام المنظمات الإسلامية القديمة مثل جمعية «أنصار السنة المحمدية» و«الجمعية الشرعية»، أو تلك المشاريع الخيرية الأحدث التي ظهرت وانتشرت بشدة في الثمانينيات والتسعينيات وتديرها تيارات إسلامية سياسية مباشرة.  

ووفقًا لوزيرة التضامن الاجتماعي غادة والي فإن 60% فقط من الجمعيات المسجلة نشطة، أو نحو 30 ألف جمعية، ولكن عددًا أقل بكثير يحصل على أغلبية التبرعات المالية بحصة تصل إلى 12 مليار جنيه مصري سنويًا.

طالما أدعى المؤيدون لقوانين تضمن سيطرة النظام الحاكم على العمل الأهلي والمدني أنها ضرورية بسبب تدفقات أموال أجنبية لهذه المنظمات. ولكن من إجمالي التدفقات المالية على المنظمات الأهلية في مصر لا تتعدى التمويلات الأجنبية 5% من حجم التمويل السنوي وفقًا لتقديرات بعض العاملين في المجال بينما قالت الوزيرة والي إن متوسط التمويلات الأجنبية بلغت مليار جنيه سنويًا في السنوات الأربعة الماضية دون تفصيل لمواردها أو من تلقاها من المنظمات، وهو أمر مهم حيث تشكو منظمات عديدة منها بعض تلك المقربة للدولة من شبه شلل في تلقي المنح الأجنبية بما فيها، مثلا، منحة من دولة خليجية لمؤسسة خيرية لتقديم خدمات طبية.

ورغم الحجم الصغير نسبيًا للتمويل الأجنبي وسهولة رصده كون معظمه يأتي عن طريق مصارف خاضعة لرقابة الدولة، فقد صار الفزاعة المسؤولة عن سيل لا ينتهي من المؤامرات المزعومة لهدم الدولة والإضرار بالأمن القومي. ويتضح هذا التوجه في تقرير تقصي حقائق حكومي في سبتمبر 2011 رغم أن التمويلات الأجنبية الكبيرة التي رصدها كانت منح وافقت عليها وزارة التضامن ومنها مثلا 300 مليون جنيه تلقتها جمعية أنصار السنة المحمدية بمفردها من قطر والكويت في شهر فبراير 2011، بينما حصلت جمعية محمد علاء مبارك (تحمل اسم الحفيد المتوفى للرئيس الأسبق حسني مبارك) على 86 مليون جنيه من الإمارات وسلطنة عمان في نهاية 2010 وبداية 2011. وأزعج تمويل جمعية أنصار السنة جهات في الدولة ويُعتقد أنه كان السبب الرئيسي في اقتراح لجنة تقصي الحقائق إنشاء هيئة مستقلة تبت في التمويلات الأجنبية للمنظمات الاهلية بل وفي حجمها.

وفعلًا نصّ القانون 70 على إنشاء جهاز قومي مستقل واسع الصلاحيات، رئيسه بدرجة وزير. ويتعين إخطار هذا الجهاز بأي منحة أو تبرع من خارج البلاد وإذا لم يوافق، أو امتنع عن الرد خلال 60 يومًا تعجز الجمعية عن استخدام هذه الأموال. ويملك الجهاز سلطة مراجعة عمل أي جمعية أهلية للتحقق من أنها تنفق أموالها في الأوجه المحددة لها واتخاذ إجراءات لتصحيح أي مخالفات ودخول مقر أي من الجمعيات أو المؤسسات لمتابعة أنشطتها وفحص سجلاتها والاطلاع على حساباتها البنكية. ولو تشكل الجهاز (الذي لم يظهر للنور رغم مرور 19 شهرًا على نشر القانون) فسيضم عشرة أعضاء منهم خمسة من الداخلية والمخابرات العامة والدفاع والرقابة الإدارية ووزارة العدل، ثم خمسة آخرين من وزارات الخارجية والتعاون الدولي والتضامن والبنك المركزي ووحدة غسيل الأموال، وتصدر قراراته بأغلبية الثلثين، مما يمنح حق «الفيتو» للأجهزة الأمنية كما أن امتناعه عن الرد هو رفض دون حاجة لإبداء أسباب.

وتفصح مواد القانون القائم والمفترض تعديله عن فلسفة لم تتغير لدى نظم الحكم المتعاقبة في مصر منذ عام 1952 وهي إحكام السيطرة على أنشطة المجتمع المدني وتحويلها لمجرد أداة طيعة في يد الدولة حتى لو كان الثمن حرمان المجتمع من حيويتها وإضعاف دورها في مجال الخدمات الاجتماعية والمساعدات الخيرية أو سد منفذ صغير أمام الرأي العام للتعبير عن تطلعاته وتخوفاته في بلد كادت تختفي فيه الحياة السياسية بينما تخضع كل وسائل الإعلام تقريبا للنظام الحاكم.

ربما تحصل مصر على قانون جديد لتنظيم العمل الأهلي قبل انتهاء دورة الانعقاد البرلمانية الحالية منتصف 2019، ولكن في أقصى الاحتمالات سيجرى فقط تعديل المواد التي تثير امتعاضًا دوليًا (مثل خصم نسبة ١٪ من المنح الأجنبية لصالح صندوق تسيطر عليه الحكومة) وربما إلغاء أو تخفيف العقوبات الصارخة المفرطة، وأيضا إلغاء الجهاز القومي لتعود أجهزة الأمن إلى دورها المعتاد غير الرسمي، ولكن المؤثر، والذي مارسته لسنوات طويلة.

قد يعني كل هذا خطوة ما إلى الأمام ولكنها في حقيقة الأمر تعود بالمجتمع المدني خطوتين إلى الخلف وتؤكد استمرار فلسفة النظم الحاكمة في مصر التي تشك في أي عمل مستقل نسبيًا عنها وخارج شبكات سيطرتها الزبونية.

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *