حان وقت عودة الأفيال للغابات: عن سياسات الليبرالية الجديدة في بلادنا غير السعيدة

Facebook
Twitter
LinkedIn

نشره موقع المنصة الأربعاء 21 يونيو 2023

تعرض المقال السابق لهيمنة سياسات الليبرالية الجديدة على العالم، بما تعنيه من سيطرة الاقتصاد المالي والنقدي والمتعاملين في البورصات على بقية جوانب الاقتصاد، وتراجع الدولة عن مهامها فيما يتعلق بدعم التعليم والصحة والإسكان للطبقات الأفقر، بحيث يحصلون على الحد الأدنى اللائق لحياة كريمة ويتمكن قطاع أكبر منهم من الخروج من دائرة الفقر والتهميش الجهنمية. وسنركز في هذا المقال على مصر ومنطقتنا.

علام تنفق مصر ما تستدينه؟

وفقًا لـبيانات وزارة المالية في مصر انخفضت مخصصات الدعم والميزات الاجتماعية كنسبة من إجمالي المصروفات الحكومية من حوالي 30% لنحو 13% مقارنة بموازنة 2013/2014 للعام المالي الجاري، ولا تغطي برامج الحماية الاجتماعية نصف عدد الفقراء في البلاد؛ الذين يزيدون عن ثلث التعداد، أو حوالي 35 مليون نسمة، وفقًا للجهاز المركزي للمحاسبات (البنك الدولي يقول إن 60% من المصريين فقراء أو على حافة الفقر).

ولكل ذي عينين متابعتين، تعجز مخصصات التعليم والصحة والإسكان المباشرة للطبقات الأفقر في مصر عن مواجهة الاحتياجات بصورة مُرضية.

في موازنة العام الجاري، على سبيل المثال خصصت الحكومة نحو 230 مليار جنيه للتعليم (70% منها أجور وتعويضات العاملين) وحوالي 148 مليار جنيه للصحة (نحو نصفها أجور وتعويضات العاملين)، وفي الموازنة نفسها خصصت نحو 56% من استخداماتها المالية أو قرابة 2400 مليار دولار لسداد الديون المتزايدة وفوائدها المتراكمة داخليًا ودوليًا، بينما مثّلت القروض حوالي نصف مواردها.

وفي السنوات العشر الماضية زادت ديون مصر العامة لتقترب من 100% من إجمالي ناتجها المحلي هذا العام، بينما زاد دينها الخارجي بأكثر من أربعة أضعاف في الفترة نفسها، تخطت الـ 160 مليار دولار، أو ما يقارب ثلث ناتجها المحلي.

وفي العقد المنصرم 2012-2022، استمرت مصر تعاني من عجز ضخم في ميزانها التجاري، ولم تنجح سياساتها الاقتصادية في خلق ما يكفي من الوظائف، ما يضطر عددًا هائلًا من شبابها للبحث عن عمل حتى في بلدان تعاني حربًا أهلية، مثل ليبيا المجاورة.

وبعيدًا عن الأرقام الواضحة، فهذه دولة تستدين أكثر لتنفق على أولويات تحددها في غرف مغلقة دون مشاركة حقيقية من المجتمع، بينما تنفق أقل بكثير على الأشد فقرًا واحتياجًا من أبناء هذا المجتمع. وهذا ببساطة هو نتاج سياسات الليبرالية الجديدة وأفكارها المهيمنة على العالم، والمدعومة في ذلك البلد بسيطرة فائقة للمؤسسات الأمنية والمختبئين خلف سحابات دخان كثيفة من الوطنية الزائفة، ودعم مستمر من المؤسسات المالية الدولية والعواصم والمصارف الغربية المقرضة.

الهوة المتزايدة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع

في نطاقات الرأسمالية المتقدمة لا يزال الادعاء ممكن بأن التعليم والعمل الشاق يسمحان بالترقي داخل النظام الطبقي، وأنه يمكن لك أن تصير مارك زوكربرج أو ستيف جوبز، وهي ادعاءات يمكن تفكيكها وإظهار مدى استثنائيتها.

ولكن حتى هذه الادعاءات مستحيلة في بلادنا، ولا يلقي لها أحد بالًا، بل تعتصر السياسات متزايدة التوحش، في بلدان مثل مصر، ما تبقى من الطبقة الوسطى وتزيد هوة اللا مساواة، حيث تتذيل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قائمة عدم المساواة في العالم، من حيث سيطرة أغنى عشرة في المئة من السكان على الثروة والدخل.

ففي تلك المنطقة التعسة، وفقًا لتقرير سنوي مهم في نسخته الصادرة العام الماضي، يسيطر 10% من السكان على 50% من الدخل، بينما لا يحصل الـ50% من السكان الأفقر سوى على 10% من الدخل. وتلك الشريحة العليا (واحد من كل عشرة مواطنين) تسيطر على نحو 75% من الثروة، بينما لا يتحكم نصف المواطنين الأفقر سوى في أقل من 2% من الثروة. ويقدم جيلبرت أشقر دراسة شائقة حول الجدل الأكاديمي، ومع البنك الدولي بشأن تطور اللا مساواة وتوزيع الثروة والدخل في مصر.

وهذا الواقع المزري هو إلى حد كبير نتاج السياسات والأفكار النيوليبرالية الاقتصادية.

وتهيمن هذه السياسات والأفكار على عالمنا، باستثناء كتابات نقدية معزولة وأحزاب سياسية ضعيفة واحتجاجات شعبية متقطعة. وفي الوقت نفسه، وللمفارقة المرعبة، يميل قطاع ضخم من ضحايا هذه السياسات لدعم اليمين المحافظ والوطنية الجديدة الزاعقة؛ ترامب وأوربان ومودي وبوتين في أمريكا والمجر والهند وروسيا على الترتيب، يقدمون أمثلة واضحة لهذا التوجه.

وبرزت هذه الهيمنة الفكرية لليبرالية الجديدة أيضًا لدى القوى المعارضة الإسلامية، صاحبة النصيب الأكبر في التحدي السياسي في منطقتنا في العقود القليلة الماضية، فلم يعارض الإخوان المسلمين في مصر وتونس والسودان أسس الليبرالية الجديدة، بل دافعوا عنها، حتى دون ضمانات، وصارت معظم الدول الحديثة تسعى لها.

وها هو حسن مالك، رجل الأعمال الثري والمفكر الاقتصادي للإخوان في مصر، يقول لـرويتر في أكتوبر/تشرين الثاني 2011، إن السياسات الاقتصادية خلال عصر حسني مبارك كانت على الطريق الصحيح، ولكن تأثرت سلبًا بالفساد والمحاباة. يعجز مالك والمعارضة، وربما بسبب صعوبة المعضلة، في وضع أيديهم على الأسباب الأعمق والأضخم التي تنتج عنها مشاكلنا الاقتصادية في مصر أو المنطقة، أو حتى الولايات المتحدة وقلب الليبرالية الجديدة العليل.

ويحدث هذا رغم أن الناس، الأفقر والأقل حظًا بالطبع، وهم أغلبية، يجأرون بالشكوى.

الناس تعرف أسباب معاناتها ولكن ما الحل؟

رغم صعوبة إجراء استطلاعات الرأي، فإن هناك استطلاعان يجريان بصورة سنوية منتظمة ويمكن التعويل عليهما بدرجات مختلفة. أهمهما استطلاع الباروميتر العربي، وتشرف عليه شبكة منظمات وباحثين في المنطقة وخارجها، ثم يليه مسح الشباب العربي (أصداء) وتقوم عليه واحدة من كبرى شركات العلاقات العامة في العالم.

مع انغلاق المجال السياسي تفتقر مصر والمنطقة لنقاشات جادة ومتنوعة حول الحلول الممكنة

وفقًا للباروميتر العربي، يعتقد أغلبية المواطنون أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء، أو معدلات اللا مساواة، ترتفع سنويًا (نحو 83% يؤمنون بهذا في مصر والأردن بينما تصل نسبة المؤيدين لذلك الموقف إلى 60% في الكويت). ويعتقد أغلبية المواطنين المشاركين في الاستطلاع أن هذه الفجوة مشكلة في حد ذاتها. ويعتقد معظم الشباب العربي، وفقًا لأصداء، أن أهم عقبات تواجههم هي البطالة وارتفاع تكلفة المعيشة.

ويعتقد معظم المشاركين في تلك الاستطلاعات أن الحكومات هي المسؤولة عن هذه المشاكل، وأن الحل بيدها. ويخشى قطاع كبير من أن الترقي الاجتماعي، حتى عن طريق التعليم، بات صعبًا للغاية، وأن من يولد غنيًا يظل غنيًا، بينما يرزح الفقراء في فقرهم.

ولحل مشاكل الفقر واللا مساواة دعا المشاركون لتبني سياسات تخلق وظائف وتوفر تعليمًا أفضل وتتحكم في الأسعار ومعدلات التضخم وترفع الرواتب. وقال المشاركون إن الحكومات يجب أن ترفع الإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات، وتكافح التلوث المتزايد.

ولا تزيد نسبة المشاركين المهتمين أكثر بقضايا الأمن القومي عن عشرة في المئة، سوى في بلاد تعاني اضطرابات شديدة مثل ليبيا والسودان.

وعلى عكس ادعاءات مناصري الليبرالية الجديدة بأن القطاع الخاص هو قاطرة التنمية، وأنه الكفيل بانتشال الفقراء من مأساتهم المستمرة، فإن معظم المشاركين ولأسباب متعددة لا يزالوا يعتقدون أن وظائف القطاعات الحكومية أفضل، لأنها توفر استقرارًا مهنيًا ورواتب أفضل ومعاشات تقاعدية وتأمينًا صحيًا، على عكس معظم وظائف القطاع الخاص.

ويعني كل هذا بساطة أن سياسات الليبرالية الجديدة أحد أسباب السخط الناجم عن فشل المعالجات الاقتصادية في حلحلة بعض أكثر المشاكل استعصاءً في المنطقة، وهي البطالة والفقر واتساع هوة اللا مساواة وتردي الأحوال المعيشية عمومًا، وهي المشاكل التي أدت إلى موجات الاحتجاج العارمة التي قلبت نظمًا عدة في المنطقة، أو أغرقت دولًا بعينها في غمار حروب أهلية تعدى عمر بعضها العشر سنوات الآن.

ومع انغلاق المجال السياسي، حيث تسود الليبرالية الجديدة في الاقتصاد فحسب، تفتقر مصر والمنطقة لنقاشات جادة ومتنوعة حول الحلول الممكنة، مما قد يسمح بنمو أفكار وسياسات تتصارع في قنوات سلمية من أجل أن تتماشى أكثر مع رغبات وتطلعات الأغلبية، أو على الأقل تساهم في تبلور هذه الرغبات واتضاح معالم سياسات جديدة.

ولا تفتقر المنطقة والعالم لباحثين أفراد أو مراكز أبحاث تقدم حلول وسياسات متنوعة، ولكنها تفتقر لقوى سياسية واجتماعية تساهم في تطوير هذه الحلول ثم تنقلها إلى مجال الصراع السياسي المجدب في الغرب والمغلق لدينا. وينبغي أن تسعى بعض هذه المراكز والأفراد للتواصل أكثر في الفضاء العام، فربما يساهم حوار بين غير المتخصصين في بلورة السياسات البديلة، أو على الأقل نزع القدسية عن الأفكار السائدة وفضح فشلها والإشارة لإمكانية وجود بديل لها.

ما العمل إذن من أجل البحث عن بدائل واقعية عملية ممكنة؟ هناك عمل طويل وشاق في مجال السياسة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وربما يتعين البدء من نقاط انطلاق مختلفة. لنركز في نهاية هذا المقال على ما يمكن أو ينبغي أن يفعله محللو السياسات والناشطون الاجتماعيون.

يجب أن ينفق الباحثون ومراكزهم المعنية بحلول تقدمية حقيقية وممكنة وقتًا أقل في إقناع محافظي البنك المركزي (وربما أكثر في محاسبتهم مثلما يحدث الآن لرياض سلامة في لبنان) أو وزراء المالية أو من نعرفهم من مسؤولي صندوق النقد الدولي، وأن يركزوا أكثر مع الوصول لقطاعات أوسع من الشعب مباشرة.

ويجب أن يواصل الناشطون الاجتماعيون الراغبون في التغيير من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية عملهم من أجل خلق إرادة سياسية ناجعة للتغيير والإصلاح، وسط الفئات الأكثر تضررًا والطبقات الوسطى المضغوطة بدلًا من التباكي والحزن على غياب هذه الإرادة لدى النخبة الحاكمة.

يحتاج الأمر إلى المزج بين ما يحتج عليه الناس فعلًا وبين ما يرى محللو السياسات ومؤيدو الحقوق والعدالة الاجتماعية أنه وسيلة ناجعة لمواجهة هذا التحالف غير المقدس بين مؤسسات النهب، والليبرالية الجديدة، ومدعيّ الوطنية الزائفة.


ربما كنا شديدي التفاؤل منذ 12 سنة، بل واحتفل بعضنا بهبات الربيع العربي على أنها القطيعة الأكيدة مع الماضي السلطوي الطويل. ونحن الآن نفرط في التشاؤم بشأن مستقبل منطقتنا، وربما ينبغي أن نتفادى كلا الموقفين والإفراط في أي منهما.

لا يجب أن ننتظر وصول رفيق لفيل الليبرالية الجديدة، ليتواصل دهس الناس وأحلامهم كما تقول النسخة الساخرة من الأوبريت الوطني السقيم “أجيال ورا أجيال”، بل نريد أن تعود الأفيال للغابة قبل أن تختفي الغابات ذاتها بسبب تلك السياسات المدمرة!


مراجع للمقالين:

اعتمد هذا المقال، وسابقه، على بيانات وزارة المالية المصرية وعدة تقارير صحفية ودراسات لها روابط داخل المقالين، ولكنها تدين بتوجهها العام لكتابات عدة، ربما أهمها:

  • توماس بيكيتي، “رأس المال في القرن الواحد والعشرين”، وهو مترجم للعربية
  • بول ماسون، “ما بعد الرأسمالية، دليل لمستقبلنا”، وهو بالإنجليزية “Post capitalism: A guide to Our Future” by Paul Mason
  • مارك فيشر، “رغبة ما بعد الرأسمالية”، وهو مترجم للعربية
  • ديفيد جريبر وديفيد وينجرو، “فجر كل شيء”، وهو بالإنجليزية “The Dawn of Everything” by David Graeber and David Wengrow
  • نعومي كلاين، “عقيدة الصدمة”، وهو مترجم للعربية
  • مايكل هارت وأنطوني نيجري، “الإمبراطورية” و “الجمهور: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية”، وهما مترجمان للعربية

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *