الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الخامس)

Facebook
Twitter
LinkedIn
نسخة منقحة يونيو 2021
طائرات عسكرية مصرية دمرتها غارات اسرائيل المفاجئة صباح ٥ يونيو ١٩٦٧

في الساعة الثامنة من صباح الخامس من يونيو أرسلت معطة عجلون للانذار المبكر في الأردن برقية قصيرة عن توجه مقاتلات إسرائيلية نحو مصر. ولم تتعامل القيادة العامة للجيش المصري مع هذه المعلومة المهمة كما ينبغي لأن عريف الاشارة أخطأ وغير تردد الاستقبال أو الشفرة في اليوم السابق فلم يفهم أو لم يتلق الرسالة المشفرة “عنب، عنب، عنب” والتي تعني أن هناك طائرات إسرائيلية أقلعت في طريقها إلى مصر. وتلقى مكتب الوزير شمس بدران نفس الرسالة في نفس الوقت وفهم ما تعنيه ولكن الوزير لم يكن موجوداً بمكتبه وبعد حوالى 45 دقيقة كان أحد ضباط المكتب يتحدث مع زميله في قيادة الدفاع الجوي في منطقة الجيوشي في القاهرة فأبلغه بالرسالة فرد عليه الضابط المناوب متهكما وقائلا:” عنب ايه وبصل ايه؟ دول فوق دماغنا” حيث كانت الطائرات الإسرائيلية قد بدأت بالفعل في عمليات القصف لكل مطارات مصر العسكرية في تحرك حسم في عدة ساعات حربا غيرت شكل المنطقة لعقود قادمة.

وقبل ان تصل الطائرات الإسرائيلية لضرب المطارات والطائرات على الأرض وبين الساعة 8:15 والساعة 8:30 صباحا بتوقيت القاهرة أقلعت طائرتان من قاعدة ألماظة العسكرية في القاهرة الأولي تقل المشير عامر وقائد القوات الجوية صدقي محمود ورئيس هيئة العمليات الفريق أنور القاضي وعدد من كبار ضباطهم في طريقهم إلى بير تمادا في سيناء والثانية تقل رئيس وزراء العراق ونائب رئيس الجمهورية حسين الشافعي في طريقها لقاعدة أبو صوير الجوية قرب الإسماعيلية. ولهذا السبب أُمر بتقييد النيران لدى اسلحة الدفاع الجوي وفي المطارات بين الثامنة والتاسعة صباحا في هذه المنطقة (ومن غير المفهوم لماذا لم ترد قوات الدفاع الجوي على الغارات الاسرائيلية حيث إن أوامر التقييد لا تسري في حالة الهجوم المباشر والحاجة لصده!). وبينما تعبر طائرة المشير من طراز اليوشين-14 الروسية الصنع قناة السويس كانت الطائرات الإسرائيلية قد دكت بالفعل مطارات سيناء وتواصل العمل فوق الأجواء المصرية. كان القادة العسكريين المصريين مصطفين في مطار بير تمادا بانتظار المشير عامر عندما حلقت القاذفات الإسرائيلية فوقها ودكت الممر والطائرات الرابضة. ووفقا لشهادة الفريق مرتجي الذي كان قد صار قائدا للجبهة منذ أيام قليلة: ”في بداية الأمر لم نظن أن الطائرات المقاتلة التي فوق رؤوسنا هي طائرات إسرائيلية… ولم نكن ندري في موضعنا عن ما يحدث للقواعد الجوية الأخرى، وكنا نظن أن الطائرات المصرية المقاتلة لن تلبث أن تظهر سريعا لامتلاك زمام الأمور، وانتزاع السيطرة من العدو. ولكن طال انتظارنا وخاب أملنا، وأصبح لزاما علينا أن نعود بأسرع ما يمكن إلى مركز القيادة بطريق البر بصرف النظر عن الهجوم الجوي وعن الكثافة المستمرة للطيران الإسرائيلي في أجوائنا.”[1] بل ووفقا للجمسي اعتقد مرتجي للحظات عندما رأي الطائرات الإسرائيلية انها طائرات مصرية بل وشك عندما سقطت بعض القنابل ان هناك خيانة او محاولة انقلاب من بعض الطيارين![2]

وعلى بعد عدة كيلو مترات شاهد كمال حسن علي، قائد اللواء الثاني المدرع، المتمركز في منطقة تمادا قصف المطار. وقال في كتاب سيرته الذاتية ان الطائرات الإسرائيلية كانت تطير على ارتفاع منخفض “وهكذا أصبحت صيدًا سهلًا لمدافع كتيبة الدفاع الجوي للواء. ولكن في هذا اليوم كانت الأوامر تقضي لدينا بتقييد النيران وعدم الاشتباك مع أي طائرة في السماء وذلك حتى وصول طائرة المشير … ولكنا سمعنا أصوات انفجار واضحة، ورأينا الطائرات المعادية وهي ترتفع تدريجيا إلى السماء بعد ضربها الممرات، وهكذا لم يكن هناك بد من الاشتباك برغم الأوامر التي تنص على غير ذلك. وهكذا تمكنت مدافع الكتيبة المضادة من إصابة ثلاث طائرات للعدو وأسقطتها. ولكن ما كادت الموجة الأولى للإغارة تنتهي، حتى تلتها مباشرة الموجة الثانية. وجاءت إحدى طائرات العدو… فدمرت أحد المدافع واستشهد فردان … ومع ذلك لم تكف الكتيبة عن الاشتباك واستمرت باقي المدافع توجه نيرانها في ثبات وبسالة. الحقيقة إني لم أستطع بيني وبين نفسي أن أخفي إعجابي بهؤلاء الجنود. ولكني كنت في هذه اللحظة مشغول البال بطائرة المشير…”[3]


وعاد المشير عامر وحاشيته الى مطار القاهرة في حالة اضطراب شديدة حتى أن المشير استقل سيارة تاكسي إلى غرفة العمليات الرئيسية في مدينة نصر فوصلها في العاشرة والنصف صباحا. كان رئيس وزراء العراق أقل حظاً إذ وصلت القاذفات الإسرائيلية بعد دقيقتين من هبوط طائرته وشاهد هو والشافعي تدمير صف كامل من طائرات اليوشن-28 على أرض المطار دون ان تطلق اسلحة الدفاع الجوي في المطار ورشاشاته التي كانت الطائرات المغيرة في مداها طلقة واحدة ربما بسبب ما يصفه الفريق فوزي “بالذهول الذهني وعدم السيطرة.” وقبل ان يصل المشير لغرفة عملياته مستقلا سيارة أجرة من مطار القاهرة كانت إسرائيل قد قصفت مطارات سيناء الأربعة ومطارات القناة الثلاثة ومطار المنصورة ثم قضت الموجة الثانية على باقي مطارات مصر العسكرية رغم ان المخابرات الحربية أكدت من قبل أن مدى الطيران الإسرائيلي لا يتعدى قناة السويس.

 بدأ قصف الطائرات الإسرائيلية في الساعة الثامنة وخمسة واربعين دقيقة تقريبا وبحلول الظهر كانت قد دمرت كل قواعد مصر الجوية وكل قاذفات مصر الثقيلة والخفيفة و85٪ من سلاح الجو عموماً. ولم ترصد وحدات الاستطلاع والإنذار الجوي في قواعد ومطارات مصر اقتراب الطائرات الإسرائيلية لأنها كانت تحلق على ارتفاعات منخفضة ولأن كثيراً من محطات الإنذار والرادار ضُربت في اول الطلعات الجوية الإسرائيلية.[4]

وشاركت 200 طائرة مقاتلة وقاذفة إسرائيلية كلها فرنسية الصنع في الضربة الجوية وانطلقت أولها في الساعة 8:10 صباحا من مطار هاتزور. وقبل الظهر، وفقا لمايكل اورين، كانت مصر قد خسرت 286 طائرة حربية من أصل 420 طائرة كان من المعتقد أنها تملكها وتم تعطيل 13 قاعدة جوية و 23محطة رادار ومواقع دفاع جوي والخريطة اسفله توضح أهداف هذه الضربة التي امتدت من مطار الأقصر جنوبا حتى المنصورة في الشمال الشرقي.[5]

الغارات الجوية الاسرائيلية صباح الخامس من يونيو 1967
Description automatically generated with low confidence
مسار الضربات الجوية الاسرائيلية للمطارات المصرية في صباح 5 يونيو

وفي سيرته الذاتية (ص. 279-286) يرصد عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي، وكان مبعدا عن الدائرة السياسية المسيطرة على البلاد بعد حل هذا المجلس، وقائع اليوم بداية من نشرات اخبار الصباح حينما أخذت الإذاعة المصرية “تذيع من حين لأخر عد الطائرات التي اسقطناها للعدو” بينما كانت إذاعة إسرائيلية، وفقا له، تعلن في نشرة العاشرة صباحا عن تدمير 150 طائرة مصرية على الأرض. وتوجه بغدادي لمبنى القيادة العامة للجيش ومعه عضوان اخران من مجلس قيادة الثورة هما حسن إبراهيم وكمال الدين حسين حيث قال لهم المشير عامر نحو الساعة الواحدة بعد الظهر انهم أسقطوا “73 طائرة” اسرائيلية ولكنه اقر ان مصر خسرت “اغلب” طائراتها.  ويضيف البغدادي: “وفي أثناء وجودنا معه لاحظنا أن محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية كثير الاتصال به، وأنه لا يدير معركة جوية، وإنما على ما يظهر يبكي له في التليفون. ويظهر أن أعصابه انهارت.” وتحجج صدقي ان هناك ما قد يصل الى ألف طائرة منها طائرات انجليزية وامريكية تشارك في الغارات الاسرائيلية ولكن بغدادي يدعي ان حساباته هو ورفاقه آنذاك اشارت لان عدد الطائرات المهاجمة نحو 150 طائرة ولم يكن هناك أي دليل على وجود طائرات غير إسرائيلية حتى ان ناصر نفسه قاطع هذه الادعاءات وطالب بان يحضروا له “طائرة قد تم اسقاطها” تتبع أمريكا او إنجلترا!

ولم يكن عامر يدرك ان قواته الجوية انتهت لأنه في نحو الساعة الثانية والنصف بعد الظهر أصدر امرا للفريق صدقي بان تتصدى الطائرات المصرية لطائرات العدو بل وتعمل “على قذف ومهاجمة مطارات العدو”.

وفي المساء حضر جمال عبد الناصر “وتصافحنا وجلس معنا وقال “والله زمان يا سلاحي”… ثم سأل جمال عبد الحكيم عن خسائرنا في الطائرات ولكن حكيم تهرب من الإجابة… وسكت جمال ولم يعلق بشيء إنما سأله عن الموقف في الجبهة. وكان حكيم يتهرب من الرد بأن يشغل نفسه في الرد على التليفون ويعطي أوامر فرعية وصغيرة جدا لا يصح أن يشغل نفسه بها كقائد عام. ولكن بعد فترة قدم شمس [بدران، وزير الحربية] لجمال تقريرا كان موجودا على مكتب حكيم وقال له “سير العمليات”. وأخذه جمال وجلس على طرف مكتب عبد الحكيم وأخذ يتطلع لما جاء فيه، وبدأت تظهر على وجهه علامات عدم الارتياح التي أعرفها عنه. وفي أثناء اطلاعه عليه نظر إلى عبد الحكيم وقال له “إن خان يونس سقطت، ورفح المدينة محاصرة، والاتصال بها مقطوع، وغزة تهاجم.” ثم قال لعبد الحكيم “لا بد لنا أن نعرف الموقف على حقيقته…” … وطلب منه جمال أكثر من مرة أن يتفرغ له ولو لمدة ربع ساعة ولكن دون فائدة فهو مستمر في الانهماك في الرد على التليفونات وكأنه كقائد عام ليس لديه … مساعدين للقيام بهذه الاعمال البسيطة … وفي النهاية بعد ان فرغ صبر جمال قام ودخل إلى حجرة النوم الملحقة بمكتب عبد الحكيم. وبعد فترة دخلتُ إلى الحجرة للذهاب إلى دورة المياة وهي من داخلها ـ فوجدت جمال نائماً على السرير ضاجعًا، وعلى ما يظهر يفكر في المأزق الذي أصبحنا فيه وكيفية الخروج منه. ……. وبعد وقت قصير خرج جمال من غرفة النوم، وطلب من عبد الحكيم أن يرسل شيئاً للصحف عن المعركة لتعرف الناس الموقف على حد قوله. وذكر: “أن نقول مثلاً أننا توغلنا في أرض العدو وخلافه ـ لأن العدو يذيع بيانات عن المعركة ونحن لا نذيع شيئاً.” وقام عبد الناصر لينصرف وهو يقول: “أظن نروح ننام ونسيب عبد الحكيم يشتغل.” وانهى بغداد تعليقه على هذا اليوم قائلا: “المعركة تُدار بنفس طريقة إدارة المعركة سنة ١٩٥٦ بعد تأميم القناة – عبد الحكيم يهتم بصغائر الأمور وكأنه ليس قائدا عاما – الموقف ينذر بالخطر – سلاحنا الجوي انتهى – الصورة مظلمة – وتشاءمنا من النتائج.”

وكان عبد الناصر محقا في نصيحته الإعلامية لان الموقف كان عجيبا مع تواتر التقارير من الإذاعة الاسرئيلية التي بدأت في بث البيانات والأرقام بما فيها من محطتها الناطقة بالعربية قبل الظهر. وتوالت البيانات المزيفة والمعلومات المضللة من الاعلام المصري ولم تتوقف طوال يومين.


Text

Description automatically generated

كيف سيطرت إسرائيل على سيناء؟

بدأ الهجوم البري الإسرائيلي في حوالي الثامنة والربع صباحاً على وسط سيناء وعبرت أول مدرعات وجنود مشاة الحدود وتحصنت في منطقة أم بسيس على عمق 12 كيلو متر داخل مصر. ولم ترد القيادة العامة للقوات المسلحة رغم أن وحدات مصرية في المنطقة أرسلت بلاغاً في الرابعة صباحاً للعريش حول تحركات للعدو تشير إلى استعدادات هجوم بري. ظل هذا البلاغ في مكتب العريش حتى السابعة صباحاً عندما أُرسل مع فقرة تحليلية تدعو للحذر وتستخلص أن هذه التحركات تبديل للقوات من الاحتياطي. ووصلت الإشارة إلى مكتب وزير الحربية شمس بدران في السابعة صباحا ولكنها لم تغادره إلى قيادة العمليات وهي الجهة القادرة على التحرك ورد الفعل حتى الساعة التاسعة وأربعين صباحا أي بعد بداية الهجوم الاسرائيلي الفعلي بساعة ونصف تقريباً. 

كانت نظم الاتصالات والقيادة والتحكم في حالة يرثى لها في واقع الأمر حتى أن القوات المصرية التي تعرضت للهجوم الإسرائيلي لم تبلغ القيادة العامة بالهجوم إلا بعدها بأكثر من ساعة. كانت القوات المصرية مشتتة ومضطربة تحت اثر التغييرات الكثيرة في الخطط والقيادات في الأسابيع القليلة السابقة على الحرب. ويقول كمال حسن علي الذي كان يقود لواء مدرع تابع للفرقة الرابعة آنذاك: “خلال الفترة من 25 مايو حتى 5 يونيو لم يتوقف  … اللواء المدرع عن استطلاع المهام والتحضير للعمليات العسكرية … وبلغ عدد المهام الذي كلف بها هذا اللواء حوالي 14 مهمة … وفي 29 مايو نقلت إلينا الإذاعة خطاب عبد الناصر الذي قال فيه إنه قد تمت الاستعدادات، و”نحن على استعداد لمواجهة إسرائيل”.”… خليط من التشنجات والمغالطات، ونحن ندرك حقيقة ما يفصل الصورة عن الواقع.”[6]

واخترق الهجوم الإسرائيلي سيناء على محورين رئيسين الأول من رفح والثاني من ناحية أم القطف. في الشمال كانت هناك قوات الجنرال إسرائيل تال المقرر لها ان تأخذ الطريق البحري عبر غزة ثم رفح نحو العريش حتى تصل للقنطرة وكان لديه ثلاثمائة دبابة ومائة سيارة نصف مجنزرة وخمسين مدفعا. وللجنوب في اتجاه ام القطف ثم أبو عجيلة كانت هناك قوات الجنرال ارييل شارون المقرر لها ان تدمر التحصينات المصرية في طريقها ثم تتوجه لمضايق متلا والجدي وهي الحاجز الاستراتيجي البري الرئيسي في شبه جزيرة سيناء، ودون السيطرة عليها يستحيل العبور نحو القناة من الشرق. وضمت قوات شارون مائتي دبابة ومائة سيارة نصف مجنزرة ومائة مدفع. وبين قوات شارون وتال وخلفهما كانت هناك قوات الجنرال افراهام يوفي وضمت جنود احتياط ومائتي دبابة ومائة مدرعة وكانت مهمتها الرئيسية أن توفر الحماية للقوات المتقدمة وان يعبر الكثبان الرملية الصعبة في هذه المنطقة وتسيطر عليها. 

ومنذ الساعة 11 صباحاً في يوم الإثنين المشهود هذا توالت طلبات القوات البرية من سيناء بتوفير الغطاء الجوي ولكن الاتصالات تقطعت وتباعدت مع مرور الوقت حيث أن الإسرائيليين تمكنوا في وقت مبكر من قطع خط الاتصالات الرئيسي الى سيناء عن طريق طائرة هليكوبتر تحمل طاقم تدمير نزلت في منطقة الخاتمية حيث يمر الكابل المحوري لكل نظم الاتصالات. ويقول الفريق فوزي أن طاقم التدمير الإسرائيلي قام بعمله “أمام نظر وأعين جنودنا الذين كانوا يتحركون بعرباتهم على نفس الطريق ولم يبلغوا حتى قياداتهم بما يحدث. أعتقد انه الجهل وعدم الفهم.”[7]

واخترقت قوات تال وشارون شمال سيناء بسهولة نسبية بعد تمهيد من نيران المدفعية والطيران حتى وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى الشيخ زويد في التاسعة صباحاً وتقدمت حتى العريش التي دخلتها في الساعة 6:40 مساء، وتكررت الهجمات الاسرائيلية على كل المواقع المصرية في الأربع والعشرين ساعة التالية ولم يصمد سوى موقع القسيمة في وسط شرق سيناء حتى صدرت له أوامر الانسحاب من القاهرة، بينما قاتل الجنود المصريون ببسالة في أبو عجيلة وعلى مشارف العريش خاصة من مواقعهم الثابتة ولكن جمود القيادات الوسيطة عن تغيير التكتيكات في وسط القتال مع تغير الظروف وغياب القيادات العليا جعل القوات المصرية اقل مرونة وثقيلة الحركة وحسم المعركة البرية لصالح الإسرائيليين.

Diagram, map

Description automatically generated
تمركز القوات المصرية والاسرائيلية في الرابع من يونيو 1967

وفي صحراء النقب كانت هناك قوات برية تحت سيطرة الجنرال البرت مندلر ولكن دورها كان خداعيا حيث كانت تتحرك بشكل مكشوف وضوضاء مقصودة بمحاذاة الحدود في الأيام السابقة على الحرب لتوحي بان إسرائيل تنوي تكرار ما فعلته في 1956. ويقول الضابط يحيي سعد باشا من وحدة الاستطلاع المصرية عبر الحدود في الكونتيلا في شهادة أوردها عصام دراز في كتابه، “ضباط يونيو يتكلمون” (ص. 51-54) انه تلقى معلومات عن تقدم بعض دبابات مندلر من طراز شيرمان نحو الحدود في صباح الخامس من يونيو، وعندما وقعت المواجهات ، قاتلت وحدة سعد ببسالة ولكن تسليحها كان اضعف بكثير من القوات المعادية ولم يكن لديهم سوى قنابل صاروخية (ار بي جيه) لكنها لم تنطلق لان القاذفات التي تسلموها قبل ساعات لم تكن تعمل مع الذخيرة المتاحة، ودهست الدبابات جنودا كانوا يسعون للاقتراب من الدبابات كي تكون تسديداتهم اكثر تدميرا، وأصيب سعد بصدمة وهو يرى أشلاء الجنود متناثرة من حوله وقذائف الار بي جيه ترفض الانطلاق من مدفعه، وتعجب ما اذا كانت “أسلحة فاسدة …؟ أم ذخيرة فاسدة …؟ أم قيادة فاسدة؟” وطرح سلاحه العاجز وسار على قدميه نحو الغرب مثلما سيفعل الاف الجنود المصريين في الأيام التالية حتى وجد سيارة تقله. ويتذكر سعد باشا كيف كان الدمار كاملا “والطريق مفروش بجثث جنود داست عليهم الدبابات الإسرائيلية … وعندما وصلت إلى نخل كان الطيران الإسرائيلي يقصفها قصفا مركزا … والقوات التي بها ارتدت إلى الخلف أو دُمرت. على الطريق إلي ممر متلا كانت عربيات المدفعية المضادة للطائرات محترقة  وعلر مدافعها رجال الدفاع الجوي محترقون  على مدافعهم وكأنهم احياء … منظر بشع لا أنساه. كان الجيش قد انهار انهيارا كاملا بعد مقاومة باسلة  … ولم ينسحب احد خوفا او جبنا.”

وفي قاعدة بير تمادا حيث اختفى القادة الذين كانوا ينتظرون المشير عامر في الصباح سادت الفوضى انتظر سائق مجند عمره آنذاك 19 عاما ويُدعى علي محمد الأوامر عدة ساعات ثم قرر ان ينجو بنفسه مثلما كان باقي الجنود والضباط يفعلون. وقال محمد في لقاء مع صحفي انجليزي اجراه في عام 2002  ان الغارات الاسرائيلية توالت وبدأت شاحنات الجند تفر بمن تستطيع نحو الغرب بعيدا عن القنابل الإسرائيلية في طريق سيء بات مزدحما بالشاحنات والسيارات العسكرية المتجهة بسرعة فائقة غربا، وشاهد عدة حوادث أدت لمصرع بعض الجنود، حتى وصل للسويس في المساء.[8]

Calendar

Description automatically generated with medium confidence

وقام المشير عامر بمحاولة أخيرة من وجهة نظره لإيقاف الهزيمة المروّعة عندما استدعى السفير السوفيتي في القاهرة في مساء السادس من يونيو وطالبه بتنفيذ وعود موسكو لوزير الدفاع شمس بدران والتدخل عسكرياً  فاستفسر السفير عما إذا كانت هناك أي أدلة على تدخل الولايات المتحدة لجوار إسرائيل فرد عامر  بالإيجاب ولكنه لم يستطع تقديم هذه المستندات، وطلب في نهاية الاجتماع من السفير المساعدة في ايقاف القتال.[9]  وبدأت مأساة سحب القوات المصرية البرية من سيناء رغم ان عامر كان قد ادعى لزملائه من الضباط الاحرار قبلها بساعات ان المدرعات والمشاة المصريين محميين ولا يحتاجون غطاء جويا يحميهم.

ورغم ان الخطة “قاهر” التي كانت الخطة الرئيسية التي تدرب عليها الجيش المصري واقرها خطة دفاعية لمواجهة هجوم إسرائيلي على سيناء إلا انه لم يجر تدريب جدي عليها كما انها فعليا لم تعد مناسبة في ضوء التغييرات الفعلية الكثيرة على الأرض من ارسال وحدات غير مخطط لها وتغيير المهام والخطط الفرعية كثيرا. ويرى خالد فهمي ان هذه الخطة “فقدت معناها أثناء مرحلة الحشد التعبوي التي امتدت من يوم 14 مايو، تاريخ بداية الأزمة، وحتي يوم 5 يونيو، تاريخ اندلاع الحرب … [حيث] أن القرارات الأربعة التي اتخذت في شهر مايو – أي قرار الاعتماد على الاحتياط، وقرار تغيير قادة الفرق والتشكيلات، وقرار إضافة قيادة جديدة، والقرارات العديدة التي أدخلت تغييرات على أوضاع القوات ومهامها في الخطة – كل هذه القرارات قتلت الخطة “قاهر” حتى قبل أن يبدأ القتال.”


الانسحاب: وصمة العار في جبين القيادة ونوط الشجاعة والتحمل للجنود

لم يكن السبب الرئيسي لهزيمة مصر الساحقة في ١٩٦٧ التخطيط الأفضل والتفوق النسبي في الأسلحة والمعدات للجانب الإسرائيلي فحسب، بل تخبط المؤسسة العسكرية المصرية بداية من التعبئة السيئة التي قامت بها للقوات، والخطط المتضاربة للقتال، ونهاية بالمأساة التي ستظل نقطة سوداء في تاريخ كل مسؤول عنها وهي الانسحاب غير الضروري تماماً وغير المنظم لعشرات الآلاف من جنود مصر بطريقة مفككة.

ويسرد الفريق فوزي كيف اُتخذ هذا القرار: “طلبني المشير بعد ظهر السادس من يونيو 1967 قائلا لي: عاوزك تحط لي خطة سرية لانسحاب القوات من سيناء إلى غرب قناة السويس ثم اضاف: امامك عشرين دقيقة فقط … فوجئت بهذا الطلب إذ أنه أول أمر يصدر إليّ شخصياً من المشير الذي كانت حالته النفسية والعصبية منهارة … كانت القوات البرية في سيناء عدا قوات الفرقة السابعة مشاة متماسكة حتى هذا الوقت ولم يكن هناك ما يستدعي إطلاقاً التفكير في انسحابها.” وقدم فوزي خطة انسحاب تتم في أربعة ايام وثلاث ليال فرد عليه المشير عامر قائلا: ٤ ايام و ٣ ليالي يا فوزي، أنا أعطيت أمر الانسحاب خلاص. ثم دخل المشير الى غرفة نومه التي تقع خلف المكتب مباشرة بطريقة هيستيرية بعد أن كان وجهه قد زاد احمراراً أثناء توجيه الحديث. ووصلت الأخبار من سيناء أن المشير قد أصدر أمره إلى قائد قوات العريش بانسحاب قواته بأسلحتها الشخصية فقط إلى غرب القناة في ليلة واحدة … وقد قام هذا القائد بتنفيذ الأمر بالنسبة لشخصه وفرقته فقط دون أن يخطر قيادته العليا والقوات التي تجاوره وهذا عمل من الأعمال التي تحاكم عسكرياً في جميع القوانين العسكرية إذ أنه يمس أمن وسلامة بقية القوات مساً مباشراً.”  ولم يعلم قائد الجبهة الفريق عبد المحسن مرتجي بأمر الانسحاب من قيادته أي من المشير عامر او رئيس الأركان بل “من القوات المنسحبة نفسها … أي لم يتم إخطاره لا من القيادة العليا ولا من قيادة الجيش الميداني … أما (قائد الجيش الميداني) الفريق صلاح محسن فاتصل رأساً بالمشير يوم ٦ يونيو، ثم في السابعة مساء نفس اليوم اتصل باللواء صدقي الغول قائد الفرقة الرابعة المدرعة وأخبره أن المشير عامر أصدر أوامره بالانسحاب إلى غرب القناة وأنه على الفرقة الرابعة المدرعة احتلال المضايق حتى الساعة ١٢ ظهراً من يوم ٧ يونيو لحماية انسحاب القوات ثم تنسحب الفرقة الرابعة بعد ذلك  … (وكانت) سيطرة الفريق صلاح محسن على قوات الجيش مفقودة أصلاً نتيجة تدخل المشير في أعماله حتى الصغيرة منها وإصداره لأوامر كثيرة وصلت إلى حد نقل سرية لدعم مكان اخر مطلوب له قوات علاوة على التغييرات ذات الحجم الكبير في الأعداد والتي كانت تتوالى عليه يومياً خلال الأيام العشرة الاخيرة قبل بدء المعركة ثم  شلل المواصلات الداخلية بين تشكيلاته بل وقطعها نهائيا” مما أكتمل معه ان قائد القوات المصرية كلها في الميدان فقد سيطرته عليها واتصاله بها نتيجة تدخلات المشير ومن حولة المباشرة.[10]

ويحاول فوزي وضع خط زمني معقول لما حدث في ذلك اليوم العصيب السادس من يونيو ليكشف أكثر مدى تهاوي قيادة المؤسسة العسكرية وانعدام روح المبادرة والنقاش الصريح بين قياداتها:

  • في الساعة ٣٠ر١١ صباحا اقترح قائد الجبهة الفريق مرتجي أن تنسحب القوات من شرق سيناء وحتى خط المضايق
  •  في الرابعة مساء اصدر المشير عامر أمراً شفوياً بالانسحاب إلى غرب القناة، ولا يوجد أي مستند أو أثر لهذا الأمر غير أنه وصل لبعض القادة الميدانيين، وفقا لسيّرهم وأحاديثهم الصحفية فيما بعد، ونفذوه فرادى.
  • في الساعة 4:30 كلف المشير عامر الفريق فوزي بوضع خطة انسحاب (بعد صدور الامر الفعلي الشفوي).    
  • سادت حالة من الفوضى والتضارب في الاربع وعشرين ساعة التالية بين قوات تنسحب دون ابلاغ المستويات الأعلى وقوات تحاول العودة وقوات تشتبك مع العدو منفردة.
  • بحلول مساء السابع من يونيو كانت معظم القوات قد انسحبت وانتهت فرص القتال الفعلي من الجانب المصري.

وبرر وزير الحربية بدران[11] الانسحاب في حوار لصحيفة الحوادث اللبنانية قائلا أنه بحلول السادس من يونيو كانت إسرائيل تسيطر على سماء الجبهة واتصل المشير عامر بالرئيس وأبلغه بتطورات الموقف واتفق الأثنان على سحب
القوات لغرب القناة. وادعى بدران أن عبد الناصر طلب من المشير أن يستطلع رأي كبار القادة العسكريين أولاً وأعضاء مجلس قيادة الثورة المتاحين له، وأيد الموجودون في مكتب عامر سحب القوات. وبعد الانسحاب، وفقا لبدران، طلب الرئيس من المشير عامر أن تعود الفرقة المدرعة الرابعة إلى شرق القناة حتى خط المضايق. ولا يتسق هذا مع معظم روايات الشهود الأخرين وأهمهم الفريق محمد فوزي ووزير الحربية، فيما بعد، أمين هويدي. ويشير الفريق فوزي إلى حديث تليفوني بين المشير عامر والرئيس عبد الناصر يطلب فيه الأول رأي الثاني في إمكانية الصمود في المضايق بدلا من الانسحاب لغرب القناة فلم يتلق رداً من الرئيس سوى جملة مُرّة وهي: “يعني كنت أخدت رأيي في الانسحاب الأول وجاي دلوقتي تسألني رأيي في المضايق.”[12]ولأنه لم يكن هناك أمر انسحاب مكتوب وخطة موضوعة، تصرف كبار القادة ومرؤوسيهم بل والجنود وفقا لفهمهم الخاص فحدثت بلبلة واسعة وانهارت القوات معنوياً وانقلب الانسحاب غير المنظم الى فوضى “فتعارضت اماكن تمركز المنسحبين وطرق انسحابهم مرة الى غرب القناة ومرة الى وسط الدلتا دون تحديد مكان معين مرة الى هايكستيب ومرة الى دهشور وكانت كل هذه الأوامر صادرة من ضباط وضباط صف الشرطة العسكرية التي كانت تتلقاها من ضباط وافراد مكاتب المخابرات الحربية … ووصل الحال إلى أن اصبح عريف الشرطة العسكرية الواقع على مخرج المعبر رقم ٦ بالاسماعيلية المصدر الرئيسي للمعلومات عن عملية انسحاب القوات من سيناء أي التي عبرت قناة السويس.” وكل هذه الفوضى لا تفسير لها سوى أن المشير اصدر قراراً شفوياً غير محدد وغير مفصل بسحب أكثر من مائة الف ضابط وجندي لغرب القناة . وفسر الجنود أمر الانسحاب بأسلحتهم الشخصية على أنه بغرض تأمين سلامتهم لا لمقاتلة العدو فسار معظمهم على الأقدام او بأي وسيلة مواصلات في اتجاه واحد معين وهو قراهم ومنازلهم، وبعد عدة أيام انضم معظمهم لوحداتهم الاصلية.

واكتمل انهيار عامر الذي لزم غرفة نومه في مقر القيادة عدا ثلاث مرات خرج فيها ليتحدث مع الرئيس عبد الناصر ثم مع السفارة السوفيتية وثالثة وأخيرة مع وزارة الخارجية وهي المكالمات التي أدت لمحاولة لم تكتمل للعودة للتمسك بالمضايق تبين أنها مستحيلة إذ أن القوات كانت قد تشرذمت وبدأ بعضهافي عبور القناة غربا، والأهم ان القادة المجتمعين في معسكر الجلاء في الاسماعيلية حيث التقاهم الفريق فوزي بأوامر من المشير رفضوا بقاء اي جنود في سيناء للتمسك بالمضايق.

وتجادل الفريق فوزي مع الفريق مرتجي فاتصل الأخير بالمشير عامر وبعد حوار مرّر الهاتف للفريق فوزي الذي سمع أوامر عامر:” خلاص يا فوزي إرجع انت القاهرة.” وبهذه البساطة انتهى دور العسكرية المصرية تماما خلال أقل من ٧٢ ساعة من بداية الحرب، دون مقاومة تذكر من جانب القادة.[13]  وفي حساب ختامي لم يتم استخدام أي من المدرعات او المدافع المصرية في أي قتال يذكر في سيناء، ودمرت معظمها دون قتال، بينما دُمر ٨٥٪من القوات الجوية معظمها على الأرض وخسرت القوات البرية ١٧٪ من افرادها و ٨٥٪ من معداتها.

لم تكن الروح السلبية لدى الجنود سوى انعكاسا لانعدام مسؤولية ومهنية القادة بشكل مريع. لماذا يضحي الجنود وقد فر الضباط، فخلال رحلته بالسيارة من الاسماعيلية إلى السويس يوم ٧ يونيو لم يجد الفريق فوزي في أي وحدة او جماعة ضابطا واحداً بين مجموعة جنوده إطلاقاً. وعندما شاهد خمس دبابات جديدة طراز تي ٥٥ تركها الجنود المصريون أثناء انسحابهم المضطرب طلب من قائد المنطقة استعادتهم ولكن القائد عجز عن أن يجد سائقين أو وقوداً ، فاقترح الفريق فوزي أن يتم تدمير الدبابات بمدافع هاون وخاصة أن جنوداً اسرائيليين بدأوا يقتربون منها ولكن ضابط المدفعية رد على قائد المنطقة قائلاً: “بلاش يا فندم لحسن طيارات العدو تشوفنا وتضرب مواقعنا.”[14] وأثناء تنظيمه لشؤون الدفاع عن بورسعيد عقب وقف إطلاق النار التقى نائب رئيس المخابرات الحربية عبد الفتاح أبو الفضل مع أحد كبار الضباط “الذين حضروا شاردين من سيناء ولما سألته عن السبب في عدم التحامهم مع الجيش الإسرائيلي … قال لم يكن لدينا كضباط الدافع لبذل أي مجهود لأننا لو انتصرنا كنا سننتصر لأجل أن يصل شمس بدران فتي القيادة المدلل لأعلى المناصب … فهل كنت تريدنا ان ننتصر لأجل أن يصل الانتهازيون إلى أعلى المراكز؟”[15]

A close up of a newspaper

Description automatically generated with medium confidence

وتوقفت القوات الاسرائيلية عن أسر الجنود المصريين لأن أعدادهم كانت كبيرة ولم تكن هناك وسائل نقل كافية لنقلهم للخطوط الخلفية، واقتصر الأسر على الضباط المتبقين في شرق القناة بينما سُمح للجنود بعد إلقاء أسلحتهم الشخصية بعبور القناة بمراكب مدنية. وقال أسرى مصريون عديدون خلال إستجوابهم أنهم وصلوا إلى سيناء دون أي فكرة واضحة عن المطلوب منهم وأماكن تركزهم وأن خطوط الإمداد كانت يرثى لها وفي حالة فوضى.[16]

لم يكن عبد الناصر حتى بعد ظهر السابع من يونيو يدرك فداحة الهزيمة إذ لم يعرف حتى ذلك الوقت أن المشير عامر أصدر أمر الانسحاب العاجل والسريع. وخلال اجتماعه مع وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بعد ظهر ٧ يونيو كان عبد الناصر ما زال يقود حرباً كانت قد أنتهت على الأرض. أكد عبد الناصر لبوتفليقة أن قوات مصرية ستعيد التمركز  في خط الدفاع الطبيعي عند الممرات شرق القناة وتوقف تقدم القوات الاسرائيلية بينما كان عشرات الآلاف من الجنود يسيرون بصعوبة على رمال سيناء ويعبرون القناة في مراكب مدنية ويمشون الى قراهم ومدنهم عائدين من حرب لم يقاتلوا فيها بمعنى الكلمة عاجزين عن اصطحاب كل معداتهم من دبابات ومدافع.

ويقول قائد قوات شرم الشيخ عبد المنعم خليل انه “لما صدر لي أمر بالانسحاب، لم استطع انقاذ [دورية ثابتة وضعتها على جزيرة تيران للإنذار والمراقبة] لعدم وصول الطائرة الهليكوبتر من يوم 4 يونيو 1967 ولم تستطع أيّ من لنشات البحرية وحتى قوارب الصيد الاقتراب منهم والوصول إلى شاطئ الجزيرة … وللأسف وقعوا جميعا في الأسر بعد انسحاب قواتي من المنطقة برغم أني علمت ان القيادة العامة اخطرت السلطات السعودية لنقلهم قبل وصول الإسرائيليين إليهم.” وكانت القوة المؤلفة من عشرة الاف جندي وضباطهم في شرم الشيخ خارج نطاق الاعمال القتالية طوال صباح الخامس من يونيو بل علمت به من الإذاعات حتى وصل لخليل برقية من المشير عامر بعد الظهر ان “موقف الطيران سيء” ثم مرت ٢٤ ساعة قبل ان تصل له أوامر القيادة العامة في السادسة مساء السادس من يونيو بان يقوم بالانسحاب قبل فجر السابع من يونيو على مرحلتين نحو الطور ثم نحو قناة السويس. ويصف خليل فوضى شديدة وتضارب في قرارات القيادة وغياب للاستعداد والخطط حتى وصل للسويس وهناك بعد يومين وفي صباح العاشر من يونيو كان “العدو الإسرائيلي امامنا على الضفة الشرقية يتحرك بحرية ويظهر عضلاته وجنودنا وضباطنا العائدون يعبرون القناة سباحة بدون ملابس واخرون يتجولون في الشرق بحثا عن منفذ للعبور غربا وبعض قوارب اهالي السويس تغامر في العبور شرقا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه … منظر رهيب.” (ص. 146-161)  

""

ويقدم أحد ضباط المظلات العاملين مع اللواء خليل صورة مغايرة قليلا في شهادته الواردة في كتاب دراز حول ضباط يونيو. ويقول الضابط محمد عبد الحفيظ انه وبعض الضباط الاخرين اقترحوا التوجه الى ميناء ايلات الاسرائيلي القريب بدلا من القيادة مسافة ٤٠٠ كيلومتر حتى السويس وليس معهم وقود كاف ولا سيارات كافية وسيضطرون لتدمير كمية كبيرة من الذخائر والمعدات قبل الانسحاب المفاجئ، “فلنهاجم ايلات وإذا نجحنا نخترق إسرائيل … وهذا وحده سوف يخفف الضغط على باقي القوات المصرية التي تقاتل … وإذا حدث وفشل هذا الهجوم …  من الممكن ان نتجه الي ميناء العقبة الأردني … وفي رأيي ان الانسحاب كان خطأ جسيما من القيادة العسكرية والسياسية … لا أستطيع ان أصف لك شعورنا اثناء الانسحاب من شرم الشيخ كلنا نكاد نبكي ولا نصدق ما يحدث … ولم نشاهد أي جندي إسرائيلي طوال انسحابنا.” ويصف عبد الحفيظ اضطرار الجنود المنسحبين للتخلي عن مدافع ثقيلة او دفعها في مياه القناة بسبب سوء التخطيط وحالة الذعر واوامر متضاربة من القيادة حاولت بها في مسعى أخير إعادة احتلال مضايق متلا والجدي دون جدوى بل وتسبب بصورة غير مباشرة في خسائر في الأرواح وسقوط اسرى في يد العدو الإسرائيلي.  (دراز، ص. 135-146) 

Text

Description automatically generated

وتؤكد تفاصيل خطط وأوامر وعمليات التعبئة والانتشار ثم الانسحاب التي تمت بين 15  مايو والتاسع من يونيو المدى العميق لاضطراب الخطط على صعيد القيادة العسكرية، وضعف القدرات والمهارات والخبرات والتسليح والتدريب، والتدخلات السياسية من عبد الناصر أحيانا (ليس لضمان تناسق الجهود فحسب بل لاقتراح خطط او تحركات عسكرية هو الأخر بدوره مما زاد من الفوضى القائمة).

ويحكي نائب مدير المخابرات عن زيارة قام بها أثناء عملية التعبئة في أواخر مايو لمحطة مدينة القنطرة حيث وصل قطار يحمل الجنود المستدعين لخدمة الاحتياط. ويقول أبو الفضل: “فوجئت في المحطة بحالة من الفوضى لقوات الإحتياط يعجز الإنسان عن وصفها والمفروض أنها على وشك الاشتراك في القتال في الجبهة. كان الكل في ملابس مدنية ومعظمهم بجلاليبهم الريفية ويحملون بنادقهم وليس هناك أي زي عسكري، جُمعوا من قراهم على عجل ودون أي ترتيبات إدارية. وتسلموا أسلحتهم فقط وهم بجلاليبهم المدنية وشُحنوا في السكة الحديد كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل او مشرب أو راحة. كانوا يتدافعون لشراء طعامهم من الباعة الجائلين بالمحطة في فوضى شاملة لا يتعدى مظهرهم خفر الريف إن لم يكونوا أقل مستوى من ذلك. حشدهائل من الشباب والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بأدميتهم وإنسانيتهم … وسألت نفسي هل هذه هي حالة قواتنا التي سنواجه بها جنود عدوتنا إسرائيل؟ وفي المقابل – هل عدوتنا إسرائيل عندما أعلنت التعبئة عاملت شبابها بهذا الأسلوب غير الآدمي؟”[17]

في خضم كل هذا التخبط والسلبية كانت هناك نماذج لجنود وضباط تحلوا بشجاعة فائقة رغم انها أتت في ظل مناخ لم يكن يكافىء الشجاعة بالضرورة. ففي اثناء الضربة الجوية تمكن ٣٠ طياراً من الإقلاع وسط الهجمة الجوية والإشتباك مع المقاتلات الإسرائيلية وأُستشهد منهم ١٢ طيارا، كما قاتلت وحدات برية بشراسة واستبسال في شمال ووسط سيناء ولو لم يكن عامر وقياداته قد انهاروا سريعاً وفقدوا السيطرة والتحكم كان من الممكن أن تتمسك القوات المصرية بالمضايق. [18]

وكان اجمالي من تم حصرهم من الشهداء الفين فقط بينما كان عدد المفقودين 9,800 فرد تم قيدهم في عداد الشهداء في عام 1971 ليصبح عدد ضحايا مصر في هذه الحرب التي لم تقاتل فيها نحو 12 ألف قتيل بينما أسرت القوات الاسرائيلية 13,600 فرد. واستولت اسرائيل على حوالي 848 مدرعة دون قتال على ارض سيناء.[19]


ذهل الإسرائيليون لانسحاب مصر السريع إذ كان يمكنها مواصلة القتال البري في سيناء في الليل على الأقل عندما تعجز الطائرات الإسرائيلية عن قصفهم بسهولة وكانت هناك تحصينات كثيرة يمكن التمترس بها نهاراً، ولكن القاهرة قررت الانسحاب حتى دون ان تمنح فرصة للدبلوماسية الدولية عن طريق طلب وقف إطلاق نار في نهاية الخامس من يونيو او في صباح السادس من يونيو حيث رفض المبعوث المصري في نيويورك السفير محمد عوض القوني أن يتم فرض وقف لاطلاق النار، وهكذا ساعد السفير المصري نظيره الإسرائيلي الذي كانت اوامره من القدس هو التسويف والمماطلة لمنح وقت للجيش الإسرائيلي لإنهاء خططه في سيناء.

كان الهدف السياسي من الهجوم الإسرائيلي عموماً هو قصم ظهر العسكرية المصرية و”اذلالها” بغرض فرض حل سياسي عليها ووضع نهاية لمشروع القومية العربية الثورية والمعادي لوجود اسرائيل، وتحقق الجزء العسكري من هذا الهدف في اليوم الاول وتأكد نجاحه في اليوم الثاني مع قرار المشير عامر المآساوي بالانسحاب والتنفيذ الفائق الاضطراب له. وبعدها التفتت اسرائيل الى حلمها القومي الديني وجائزتها المنشودة فاستولت على القدس والضفة الغربية وأخيراً في اليوم السادس والأخير تخلصت من مصدر التنغيص الذي بدأ كل الحرب من وجهة نظر البعض وهو إطلال سوريا وتحكمها في شمال إسرائيل من أعلى مرتفعات الجولان السورية.

كان لدى اسرائيل خطة واضحة ومحددة ونفذتها وبنجاح. وفي اليوم الخامس للحرب صار مناسباً لاسرائيل ان تقبل وقفاً لإطلاق النار. وصدر قرار مجلس الأمن بإيقاف النار دون النص على عودة القوات المتحاربة إلى أماكنها الاصلية كما هو متبع، وقبلته مصر مضطرة.

 لا شك ان رؤية الأمور بعد ٤٨ عاما قد تكون أوضح لنا بالمقارنة بمن كانوا في قلب ضباب الاحداث ولكن معظم هذا الضباب لم يكن مفروضاً على مصر وقيادتها بل كان من اختيارهم وصنعهم بفعل نظام سياسي قائم على الثقة وأمن الحاكم وجماعته يفتقر إلى آليات للمحاسبة والمساءلة وفاقد لفهم واضح ومدعوم شعبياً لأولويات الأمن القومي وكيفية
دعمها بناء على القدرات الفعلية للمؤسسات العسكرية والاقتصادية. لقد هُزمت قيادة مصر ونظامها بيدها قبل أن تهزمها إسرائيل.


الأجزاء الأخرى في الدراسة:

الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الأول)

الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثاني)

الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثالث)

الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الرابع)


هوامش:

[1]  عبد المحسن مرتجي، “الفريق مرتجي يروي الحقائق”، ص. 144

[2] مقتبس في بوين، “ايام ستة” ص. 108

Jeremy Bowen, “Six Days: How the 1967 War Shaped the Middle East”

[3]  كمال حسن علي، “مشاوير العمر”، ص. 228

[4]  أمين هويدي، “الفرص الضائعة”، ص 79، وفوزي، حرب الثلاث سنوات” ص  131-133

[5]  اورين، ص. 176

Michael Oren, “Six Days of War”

[6]  كمال حسن علي، مشاوير العمر، ص. 215-218

[7]   فوزي، ص. 141

[8]  بوين، ص. 117

[9] باستثناء بعض الحكايات المرسلة عن دور الأسطول الأمريكي السادس والتعاون في توجيه الطائرات الإسرائيلية وكلها
حكايات من مصادر مصرية او من كتاب ستيفن جرين Stephen Greene، “الإنحياز” “Taking Sides: America’s Secret Relations with Israel” الذي يستند  إلى مصادر لم يسميها ولكنه يقدم معلومات تفصيلية تستحق البحث، فلا أدلة هناك على نطاق وعمق المساعدات العسكرية الأمريكية المباشرة لإسرائيل خلال الحرب وإن كان من شبه المؤكد انه كان هناك بعض التبادل لتحليلات اجهزة المخابرات عموما في الفترة السابقة على الحرب. وهذه نقطة مهمة تستحق بحثاً مطولاً ولكنها ما زالت في مرحلة لا يمكن فيها تأييد موقف المشير عامر او عبد الناصر فيما بعد وهو أن واشنطن فعلياً وعن طريق الأسطول السادس دخلت الحرب إلى جوار إسرائيل في 1967.

[10]  فوزي، ص (151-153) وهناك تفصيلات في سيّر  الفريق مرتجي وحوارات مع صلاح محسن وأنور القاضي وغيره من القادة الميدانيين من مستويات مختلفة في صحف ومجلات متناثرة وبعضها في كتاب “ضباط يونيو يتكلمون” لعصام دراز و كتاب “الطريق إلى النكسة: مذكرات قادة العسكرية المصرية 1967” لمحمد الجوّادي، وهناك ايضا محاضر محاكمات قادة الطيران.

[11] أفرج الرئيس أنور السادات عن بدران في ١٩٧٤ وأمره بمغادرة البلاد بعد ان مُنح جواز سفر دبلوماسي فتوجه لبريطانيا وعاش هناك حتى وفاته في نوفمبر 2020 عن 91 عاما. 

[12] حديث شمس بدران لصحيفة الحوادث مقتبسا في كتاب ريتشارد باركر، ص 87، وتعليق عبد الناصر جاء في كتاب فوزي، ص 156.

[13] فوزي، ص ١٥٥

[14] فوزي، ١٥٨.

[15] عبد الفتاح أبو الفضل، “كنت نائبا لرئيس المخابرات”، ص  ٢٦٦.

[16] باركر، ص  ٩٤

Richard Parker, “The Politics of Miscalculation”

[17]  أبو الفضل، ص  251

[18] فوزي، ص. 141                                       

[19] فوزي، ص 161، و هويدي، ص  109

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *