نسخة منقحة يونيو 2021
بنهاية يوم 11 يونيو كانت مساحة الأراضي التي تحتكم عليها إسرائيل قد تضاعفت ثلاث مرات ونصف، وبعد أن كانت المدن الإسرائيلية في مرمى النيران العربية، صارت دمشق وعمان والقاهرة كلها على بعد عشرات الكيلومترات من القدرات العسكرية الإسرائيلية، فقد غيّرت هزيمة 1967 خريطة الشرق الأوسط فعليا واستراتيجياً، وكانت بداية نهاية المشروع الناصري، بل واضمحلال الطموحات السياسية للقومية العربية. وكانت الخسائر المباشرة في أيام الحرب الستة فادحة، والمقارنة بين خسائر العرب وإسرائيل أكثر من موجعة. أقسى الخسائر كانت أرواح الجنود والضباط الذين سقط منهم عشرة آلاف قتيل على الأقل في صفوف الجيش المصري، بينما خسر الأردن 700 جندي، وقُتل 450 جنديا سوريا، أما إسرائيل فاعترفت بمقتل نحو 800 جندي. ويعني هذا أن إسرائيل قتلت 14 جنديا عربيا على الأقل، معظمهم من المصريين، مقابل كل جندي واحد سقط في صفوفها.
وقضت الحرب مؤقتا على قدرة الدول العربية المجاورة على القتال، فقد فقدت مصر 85٪ من كل عتادها تقريبا بقيمة قد تصل إلى ملياري دولار بأسعار 1967 حيث استولت إسرائيل على، أو دمرت، نحو 450 دبابة (من أصل 900 دبابة) ونحو 480 مدفعا (من أصل ألف مدفع) وبطاريتي صواريخ أرض جو (سام) وقرابة عشرة آلاف عربة، أما الأردن فخسر 179 دبابة و53 مدرعة و1,062 مدفعاً و 3,166 عربة، وكانت خسائر الجيش السوري هي الأقل، فلم يفقد سوى 470 مدفعاً و 118 دبابة و 1,200 عربة، بينما غنم الإسرائيليون اربعين دبابة سورية سليمة. ودمر الاسرائيليون 469 طائرة معظمها مصرية منها خمسين في اشتباكات جوية، بينما خسرت إسرائيل 36 طائرة وقُتل لها 18 طياراً.
وقدر الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري آنذاك عدد الأسرى المصريين بحوالي 13,600 أسير، لكن المؤرخ والدبلوماسي الإسرائيلي السابق مايكل أورين، مستندا على إحصائيات الحكومة الإسرائيلية، ادعي أن إسرائيل أسرت خمسة آلاف جندي مصري فقط و365 سورياً و550 أردنياً. وكان عدد الأسرى الإسرائيليين خمسة عشر فقط. ويعني هذا أنه أمام كل أسير اسرائيلي كان هناك على الأقل أربعمائة أسير عربي، معظمهم مصريون.
وعلى الصعيد الاقتصادي خسرت مصر كل دخلها من قناة السويس (وكان يقدر بنحو 250 مليون دولار سنويا) وصارت إسرائيل تسيطر على كل آبار البترول في سيناء، والتي كانت تزوّد مصر بنصف احتياجاتها من النفط. وهبطت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي إلى مائة مليون دولار فقط، بينما ارتفعت ديونها في الأشهر القليلة التالية إلى 1,5 مليار دولار، وبينما نزح نحو ربع مليون مصري من منطقة القناة للداخل المصري توقفت هجرة اليهود من إسرائيل التي تدفقت عليها التبرعات المالية والعينية وبدأ نسج أسس العلاقات الاستراتيجية بينها وبين والولايات المتحدة.[1]
وأعمق بكثير من الخسائر العسكرية المباشرة كانت الخسائر الاستراتيجية التي خلقت آليات وحدود الصراع حتى اليوم. بداية، نقلت هزيمة 1967 الصراع من طموح عربي للقضاء على دولة إسرائيل وتأسيس دولة فلسطينية إلى صيغة “الأرض مقابل السلام” التي ظهرت بوضوح للمرة الأولى في قرار مجلس الأمن 242. وصار من “حق” إسرائيل في عالم السياسة الواقعية بعد أن انتصرت واحتلت كل هذه الأراضي أن تتضمن أي صيغة للتسوية بقاءها كدولة داخل حدود أمنة مقابل إعادة الأرض، وهو ما حدث خلال العقد التالي مع مصر ثم بعد ربع قرن مع الأردن.
وكان الشعب الفلسطيني أكبر الخاسرين، إذ صارت دول المواجهة العربية معنية أكثر، بغض النظر عن تصريحاتها القومية العربية وخطب قادتها السياسية لسنوات تالية، بعودة أراضيها هي ذاتها، أو حتى، خصوصا في حال سوريا، بالحفاظ على بقاء انظمتها السياسية الحاكمة دون حتى كبير اهتمام بعودة أراضيها المحتلة.
واقر عبد الناصر بهذا التحول المهم في اجتماع مع كبار رجال الدولة في 20 يونيو قائلا: “النهارده الحقيقة القضية اللي امامنا ليست قضية قومية … ما بقتش عودة حقوق شعب فلسطين، بقت قضية وطنية … اللي هي تحرير الأرض المحتلة عندنا وبالنسبة للسوريين والاردنيين.”[2]
ودفع لبنان ثمنا باهظا كونه صار مع الوقت الدولة الوحيدة التي سمحت بنشاط فدائي مسلح ضد إسرائيل، أو عجزت عن إيقافه، وبينما عملت دمشق على ألا تنطلق رصاصة واحدة عبر حدودها نحو إسرائيل أو حتى مرتفعات الجولات السورية المحتلة، دعم النظام البعثي جماعات فلسطينية وشيعية مسلحة في لبنان واستغلها في حربه بالوكالة. وستسيطر هذه الديناميات على النضال الفلسطيني حتى أوائل التسعينيات عندما انعقدت اتفاقيات أوسلو التي غيرت طبيعة المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني الاستعماري مرة أخرى، وستمر ثلاثون سنة تقريبا قبل ان يوشك مشروع أوسلو وحل الدولتين على الإنهيار، ولكن هذا خارج نطاق هذه الدراسة.
انتصرت إسرائيل عسكرياً وضمنت بقاء الدولة التي كان عمرها اقل من عشرين عاما في 1967 ولن تواجهها بعد تلك الحرب أي تهديدات وجودية حقيقية بل وبدأت مشروعا طويل الاجل لتطبيع علاقاتها (او نقلها من مستوى السرية) مع النخب الحاكمة في عدة دول عربية. ولكن احتلال قطاع غزة والضفة الغربية حول إسرائيل في نفس الوقت من دولة تنازع دول الجوار في شرعية قيامها وحقوق السكان الأصليين الذين هُجّروا أو نزحوا أو باتوا يعيشون مواطنين من الدرجة الثانية تحت ظلها إلى دولة احتلال فعلي تسيطر على عدة ملايين من الفلسطينيين الذين لا تريدهم، ولكن تريد الأرض التي يعيشون عليها.
صارت إسرائيل الجديدة ربما أكثر أمنا، لكنها تحولت من دولة بها بعض الممارسات العنصرية في نظر القانون الدولي والأمم المتحدة، إلى دولة محتلة لأراضي دول مجاورة، وإلى دولة تمارس سياسات التمييز والقمع والفصل العنصري ضد الفلسطينيين الخاضعين لسلطتها وترفض إعادة الحقوق السليبة لمن اُضطروا للنزوح، ومنهم من أُجبر على الرحيل للمرة الثانية في أقل من عشرين سنة، وقد تدفق ما يصل إلى 250 ألف لاجئ من الضفة الغربية، التي صارت محتلة، إلى بقية المملكة الهاشمية شرق نهر الأردن (ويصر الإسرائيليون على أن العدد كان 175 ألف فقط)، بينما صار 1,2 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة خاضعين للاحتلال الإسرائيلي. وستتضاعف كل هذه الاعداد في العقود التالية، وعلى سبيل المثال يقارب عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين نحو خمسة ملايين شخص يعيشون منتقصي الحقوق تحت الاحتلال والحصار الإسرائيلي وفقا لإحصائيات الأمم المتحدةفي 2019 بينما يصل عدد اللاجئين الفلسطينيين عموما (وعدد كبير منهم في الضفة والقطاع هُجّروا هم أو أهاليهم من مناطق أخرى في فلسطين التاريخية) إلى 5,6 مليون شخص.
من يتحمل مسؤولية الهزيمة في مصر؟
تبادل القادة العسكريون والسياسيون المصريون الاتهامات في محاولتهم تحديد مسؤولية الهزيمة، وأشارت قلة منهم إلى ظواهر أخطر وأكثر عمقا في بنية وممارسات المؤسسة العسكرية لا يمكن علاجها عن طريق تغيير مئات من الضباط وعشرات من القادة كما حدث في الأشهر التالية للهزيمة.
وللمفارقة، فشلت المؤسسة العسكرية التي صارت مسيطرة تماما على إدارة شؤون البلاد بعد 15 عاما من وصول الجيش للسلطة في يوليو 1952 في القيام بعملها الأساسي وهو حماية البلاد من الاعتداءات الخارجية. ونجت هذه المؤسسة من الانتقاد وربما الإصلاح في عام 1956 رغم هزيمتها العسكرية في هذه الحرب بسبب النجاح السياسي في نفس هذه الحرب والدور الأمريكي والسوفييتي في إجبار إسرائيل وحليفيها على الانسحاب، لكن الهزيمة في 1967 كانت ساحقة، حتى لو أُطلق عليها أسم النكسة.
لم تكن معظم قيادات البلاد السياسية من المؤسسة العسكرية فحسب، بل تحكم الجيش في أجهزة الأمن تماما بحلول منتصف الستينيات وقام بتعقب واعتقال ومحاكمة المعارضين أو المهددين لأمن النظام من بين مواطني البلد. وبينما كان مدير السجن الحربي حمزة البسيوني يشرف شخصيا على تعذيب المعتقلين السياسيين، والمشير عبد الحكيم عامر يقود لجنة تصفية الإقطاع وضباط آخرون يقودون أجهزة الأمن ووزارات متعددة ومحافظات عديدة، عجزت مؤسسات الجيش عن جمع استخبارات عسكرية جيدة عن الجيش الإسرائيلي أو تنفيذ عملية تعبئة فعالة، أو تدريب القوات بشكل منتظم وحقيقي وفق خطط متماسكة، أو حتى التحلي برباطة الجأش والشجاعة اللازمة عند بعض كبار القادة الذين انهاروا بعد ساعات قليلة من الهجوم الإسرائيلي.
ادعى بعض القادة وأهمهم الفريق عبد المحسن مرتجي قائد الجبهة أن تفوق إسرائيل في المعدات والأسلحة والتنظيم والتخطيط هو سبب هزيمة مصر، بينما وجه رئيس الأركان الفريق فوزي اللوم إلى المشير عامر وتدني قدراته العسكرية وأسلوب قيادته العشوائي واهتراء نظم القيادة والمعلومات والاتصالات تحت إشرافه، وقال نائب رئيس الجمهورية زكريا محيي الدين، الذي أنشأ جهاز المخابرات العامة وتولى قبله رئاسة جهاز المخابرات الحربية، أن الفشل الاستخباراتي المصري كان السبب الرئيسي، حيث كانت المخابرات الإسرائيلية تعرف “اسم كل ضابط مصري بل واسم زوجته، بينما لم تكن المخابرات المصرية تعرف أين يسكن وزير الدفاع موشى ديان”.[3] ووجه وزير الحربية شمس بدران كل اللوم إلى عبد الناصر متهما إياه بأنه قاد مصر إلى كمين نصبته إسرائيل وأمريكا في مؤامرة غامضة لم يفصّلها أو يقدم أي أدلة عليها.[4] وتحدث الفريق صدقي محمود قائد سلاح الطيران عن كيف أخطأ عبد الناصر في قرارات متتالية منها طرد قوات الطوارئ والانتشار في شرم الشيخ وعدم شن الضربة الأولى، لكن معظم الوقائع تشير إلى أن بدران ومحمود ومجموعة المشير عامر عموما كانت مشغولة أكثر بالدفاع عن نفسها وليس بتقديم تفسير فعلي للهزيمة، وهو الأمر الذي يوضحه علي صبري، نائب رئيس الجمهورية ورئيس المخابرات العامة السابق، عندما يلقي بالمسؤولية على أكتاف هؤلاء الضباط. وحمّل صبري المسؤولية الأساسية لكبار مسؤولي الدولة الذين تقاعسوا عن التحقيق في الفشل العسكري في 1956 وفي حملة اليمن، وبالتالي عدم طرد الضباط المسؤولين عن هذا الفشل والذين ظلوا في مناصب قيادية مهمة في الجيش مثل رئيس سلاح الطيران الفريق صدقي محمود نفسه.
لم تتعلم المؤسسة العسكرية المصرية أي دروس مما حدث في 1956 بشأن ضعف مستوى القيادة ونظم إصدار الأوامر وتلقيها ونظم الاتصالات، وكان من المستبعد أن تتعلم المؤسسة، لأن علاقات القوة والترقي والتراتبية داخلها كانت خاضعة لاعتبارات الثقة الشخصية والولاء والشللية، ويكفي أن قائد القوات الجوية الفريق صدقي لم يستجب لطلب من الرئيس عبد الناصر بإرسال قاذفات لوقف القوات الاسرائيلية التي دخلت الكونتيلا ورأس النقب ونخل في أول أيام العدوان الثلاثي (29 أكتوبر 1956) وقال إنه لم يتم تخزين وقود كاف في القاعدة الجوية الرئيسية في مطار غرب القاهرة. وكما سيحدث في 1967 ،سيطرت إسرائيل على معظم سيناء في أقل من ثلاثة أيام في حرب 1956 وصدر أمر بسحب القوات المصرية كلها لغرب القناة خلال يوم واحد كما سيحدث بعد ذلك بـ 11 عاماً.[5]
وأي دراسة منصفة لأوضاع القوات المسلحة المصرية قبل الحرب كانت ستنتهي إلى أن الجيش المصري يمكن أن يواجه وقتا عصيبا أو يُهزم في مواجهة الجيش الإسرائيلي، خصوصا لو تلقت مصر الضربة الأولى فحُرمت من التفوق في العتاد والطائرات. ويحكي وزير الحربية أمين هويدي عن زيارة تفقدية قام بها مع الفريق عبد المنعم رياض لأحد التشكيلات المنوط بها واجب رئيسي في خطة الدفاع عن القاهرة في 1967 بعد الهزيمة، ويقول هويدي: “وجدت أن أكثر من 60٪ من الأفراد لم يستلموا مرتباتهم منذ شهور طويلة قبل النكسة، بحجة ضياع أوراقهم في اليمن وأن أكثر من 80٪ من القوة مصابين بالأنكلستوما والبلهارسيا لتعذر نقلهم إلى الخلف للعلاج وأن العشرات مصابون بالفتاق وأن ملابس الجنود غير لائقة، وأن أكل الجنود لا يكاد يكفي إلا العدد القليل منهم، وقد أمرت بإخراج الفرقة من خطة الدفاع حتى يعاد بناؤها من جديد، وأحلت الضباط المسؤولين عن الشؤون المالية للاستيداع.”[6]
كان مستوى تدريب الجنود المصريين مزريا وعتيقا يعتمد على كسر إرادة الأفراد وإخضاعهم لقواعد التراتبية والطاعة العمياء، وبعضها قد يكون أمور لازمة في العمل العسكري، وخصوصا أثناء الحرب، لكنها تأتي في الأهمية بعد المهارات العسكرية الحيوية المتعلقة بالتدريبات البدنية والقتالية وتنمية المهارات الفكرية وقيم الشجاعة والكرامة والعدالة ومكافأة التميّز، والتي هي جميعا في النهاية ما تقاتل من أجله الجيوش، ويقول أحد الجنود عن تجربة وصوله إلى معسكر تدريب دفعة جديدة في الجيش بعد تخرجه من الجامعة، حيث كان منخرطا في أنشطة الاتحاد الاشتراكي: “ذهبت إلى معسكر الاستقبال في منطقة الاسكندرية، وكان ذلك في سبتمبر 1966 وكانت أول تجربة لي للاحتكاك بالقوات المسلحة من الداخل، وجدت فيها ما راعني وفجّر لدي مشاعر القهر التي أحملها كابن فلاح مصري، فقد تصادف حضوري مع دفعة من شباب الفلاحين القادمين من محافظة الغربية وشاهدت هؤلاء الشباب من الفلاحين يُعاملون وكأنهم بقايا عبيد الأرض أو جيش السخرة الذي بنى الأهرامات وحفر قناة السويس، فالضرب والإهانات بلا سبب والإرغام على مزاولة بعض حركات القردة دونما مبرر، هي الأساليب التي شاهدتها في يومي الأول في هذا المعسكر.. مر اليوم الأول بهدوء خارجي وغليان يجري بداخلي، وجاء اليوم الثاني ونفذت طاقة احتمالي أمام فجاجة ما أراه وبشاعته، فتقدمت لوقف إجراءات الضرب بمحاولة التفاهم مع صف الضابط، موجها كلامي لهم بأنهم إما إخوة لأمثال هؤلاء الشباب الفلاحين وإما هم أبناء فقراء المدن والحال لا يختلف كثيرا، ولكنهما أحالاني على ضباط برتبة ملازم أول، وبدلا من أن يفهم ما أطلبه قام وصفعني وانفجرت.”[7]
لم يكن الجنود جاهزين، لكن الشجاعة لم تنقصهم، بينما كان القادة غير مستعدين وافتقروا إلى الشجاعة اللازمة لاتخاذ قرارات ضرورية، وإن تمسكوا بالسلطة قدر استطاعتهم، ولا يوجد قائد عسكري أو سياسي مصري أو عربي استقال وتمسك باستقالته بسبب الهزيمة المروّعة في 1967، بل سلك بعضهم في الاتجاه المعاكس تماما وظلوا في مواقعهم او واصلوا تسلق هرم السلطة كما فعل حافظ الأسد، وزير الدفاع المهزوم دون قتال، وكما حاول المشير عامر وفشل.
نهاية أسطورة المشير عامر
كانت كفاءة المشير عامر وقدراته العسكرية محل شك عميق، منذ فشله في حرب 1956 وفي إدارة الوحدة مع سوريا. تحكم الرجل بمفرده في القرارات السياسية والعسكرية للجيش، ولم يكن مسؤولا أمام وزير سياسي ولا حتى أمام عبد الناصر الذي كان يخشى المشير ويعجز عن إزاحته حتى بعد مأساة 1967 بعدة اسابيع، إلى أن بدأ عامر فعليا في تدبير انقلاب عسكري في صيف 1967، عندما بدأ في تخزين أسلحة وقنابل يدوية وذخيرة في منزله بمعاونة عدد من الضباط المستفيدين ماديا وأدبيا من وجوده على رأس السلطة العسكرية. وكان عامر قد تراجع عن استقالة قدمها في الثامن من يونيو بعد أن اتضحت أبعاد الهزيمة المروعة، وقرر مع كبار رجاله في الجيش إلصاق مسؤولية الهزيمة بالقيادة السياسية، التي كانت تتحمل نصيبا كبيرا من المسؤولية بما فيها تعيين وإبقاء مثل هذه القيادات في أماكنها.
واضطر عبد الناصر إلى استعمال القوة في اعتقال المشير عامر وكبار مؤيديه، بعد أن تمادى الرجل ووضع عربات مصفحة حول منزله، الذي تحول لقلعة مسلحة، وتضاعفت قوة وحدة الشرطة العسكرية التي تحرسه، بعد أن ضم لها 300 فردا مسلحا استدعاهم من قريته أسطال بالمنيا، وبدأ توزيع منشورات تلقي بتبعة الهزيمة على عبد الناصر، بينما أعاد طباعة استقالته التي قدمها في 1962 بدعوى مطالبته بالتحول للديمقراطية، وتحركت بعض الوحدات بضباطها في مظاهرات مطالبة بعودة المشير.
وأخيرا بعد أكثر من 11 عاماً من تأكده من ضعف مؤهلات وفشل المشير من الناحية العسكرية، تغلب عبد الناصر على مخاوفه من أن يرتب المشير انقلابا ضده، وعلى مشاعر الصداقة القديمة والثقة الشخصية، وقرر الإطاحة بالرجل، ومدعوما من كل كبار رجال الدولة المحيطين به أصدر عبد الناصر أوامره بإيقاف المشير قبل أن ينعقد اجتماع قمة عربي مهم في الخرطوم. ودعا عبد الناصر المشير عامر إلى جلسة خاصة في منزله في 25 اغسطس ليجد هناك زكريا محيي الدين وحسين الشافعي وأنور السادات، بينما كانت قوة خاصة تهاجم منزله وتعتقل انصاره، ثم تقبض على وزير الحربية بدران ورئيس المخابرات العامة صلاح نصر. وتحول الأمر بعد ذلك من مؤامرة خطيرة تهدد وجود عبد الناصر وتنذر بانقسام في الجيش إلى ميلودراما انتهت بانتحار (أو قتل) عامر عن طريق السم، وبدأت الميلودراما في هذا الاجتماع المشهود في منزل عبد الناصر حيث شعر عامر بهدف الاجتماع الحقيقي عندما طلب منه عبد الناصر أن يتوقف عما يفعل ويجلس في منزله دون إثارة مشاكل، فغضب المشير وانفعل بشدة وقال للرئيس: ”قطع لسانك”. لكن خلال ساعات كان لسان عامر الطويل هو الذي قُطع بعد أن تم تجريده من كل أنصاره وسلاحه ووضعه قيد الإقامة الجبرية.[8]
وفتحت هذه الخطوة الباب أمام عبد الناصر للتخلص من جمهورية الأمن الموازية التي اقامها عامر وبدران، واختصت بأمن القوات المسلحة ثم أمن الثورة ثم أمن الدولة ثم أمن القائد، كما يقول الفريق فوزي في مذكراته، حيث “دخل موضوع الأمن ليطغى على كل شئ انتاجي أو فكري أو إعداد وتدريب في القوات المسلحة حتى عام 1967”. وانقسمت الدولة إلى قسمين: سياسة خارجية تفرغ لها ناصر، وشؤون عسكرية وأمن وقضايا داخلية كبرى سيطر عليها عامر ورجاله وبينهم صلاح نصر. ومن هذه القضايا التي استغرقت عامر ورجاله أكثر من المؤسسة العسكرية التي كلفوا بقيادتها أمور مثل لجان تصفية الإقطاع وقضية الإخوان المسلمين الكبرى عام 1965 وإصلاح مرفق النقل العام والسيطرة على الجمارك. وكانت جمهورية الأمن هذه مسؤولة بشكل أساسي عن الهزيمة، حيث عانت القوات المسلحة من تخطيط غير ملائم لمقتضيات الحرب وقيادة متدنية في الجبهة وعجز عن استغلال التفوق في العتاد والأعداد، فقد كان النظام الذي يتسيّده الجيش غير معني بالدرجة الأولى بحماية حدود البلاد وإظهار قوته للخارج، بقدر ما كان منشغلا بتسيير الحياة في البلاد وضمان السيطرة الداخلية. لا شك أن الجيش المصري كان لديه عدد من القادة الأكفاء الذين بذلوا أقصى ما في وسعهم خلال الحرب، لكن المناخ السياسي السائد وأوجه القصور المتعددة للقوات لم تمّكن قادة من أمثال محمد فوزي وعبد المنعم رياض من إدارة الحرب بشكل أفضل.[9]
هل تجاهل عبد الناصر ودائرته المقربة مشاكل الجيش؟
ادعى عبد الناصر لخلصائه عقب الهزيمة أنه لو كان يعرف مدى تدني الاستعداد العسكري في القوات المسلحة المصرية “ما كنت أقدمت على العمل العسكري، لكن واجهت الموقف بالتحرك السياسي فقط، لكن المشكلة أن عبد الحكيم أكد لي عدة مرات أن القوات المسلحة جاهزة تماما لخوض معركة عسكرية مع إسرائيل وأن الضباط والجنود على درجة عالية من الكفاءة والتدريب متطلعين للدخول فورا في معركة رئيسية مع إسرائيل.”[10]
هل من المعقول أن يكون عبد الناصر قد اتخذ قراراته المتتالية (او تماشى مع قرارات عامر) بنشر قرابة مائة ألف جندي إضافي في سيناء، ثم طلب سحب قوات الطوارئ الدولية المتمركزة على الحدود بين مصر وإسرائيل، ثم إغلاق مضايق تيران، دون أن يكون متيقنا أن الجيش المصري قادر على ضرب إسرائيل هجوميا أو، على الأقل، امتصاص الضربة الأولى، ثم الرد عليها؟
يقدم السياسيون والعسكريون المصريون في تلك الفترة إجابتين رئيسيتين حول مدى معرفة عبد الناصر بقدرات الجيش الفعلية: الأولى ترى أن المشير عامر أخفى عن ناصر قدرات الجيش الحقيقية، والثانية أنه كان يعرف مدى ضعف هذه القدرات النسبية مقارنة بالجيش الإسرائيلي، لكنه تمادي في تحركاته بغرض التخويف والتهويش، وينتمي زكريا محيي الدين للمعسكر الثاني، لكنه يلوم عبد الناصر ويعتقد أنه أخطأ وتخلى عن حذره المعتاد وتمادى في تهويش خصم يعرف قدراته الحقيقية، بينما ينتمي وزير الخارجية محمد رياض إلى المعسكر الأول، مؤكدا في كتابه “أمريكا والعرب” أن عامر خدع عبد الناصر، وهو ما يبدو أن هيكل يوحي به أيضاً في كتاباته.[11]
في النهاية كان لعبد الناصر مسؤولية رئيسية عن القراءة الخاطئة للأوضاع الاستراتيجية في 1967، والتي اختلفت كثيراً عن 1956 عندما تدخلت أمريكا لإيقاف العدوان الثلاثي وإجبار إسرائيل على سحب قواتها التي احتلت سيناء كلها آنذاك. وكان عبد الناصر مسؤولا أيضا عن ثقته المفرطة في قدرات ومصداقية المشير عامر أو خوفه المبرر من انقلاب الرجل عليه، خصوصا منذ المواجهة بينهما في 1962 مما جعله لا يرى أو يتجاهل الأثر السلبي المدمر على مختلف جوانب القيادة والتحكم والاستخبارات في الجيش. وبالنظر لمجمل تطورات الأحداث المؤدية لهزيمة 1967 فإن مصر كانت تصنع قراراتها بناء على أوهام وأشباح منذ “تصاعدت الأزمة بسبب تقارير عن قوات غير موجودة وتعمقت نفس الأزمة بسبب تصريحات لم يدل بها رئيس الأركان الإسرائيلي، ثم أحتدت هذه الأزمة بسبب الإيمان بمؤامرة أمريكية غير قائمة ضد الثورة المصرية، تشمل حلفا إسلاميا لم يكن له وجود سوى في بعض التقارير الصحفية.”[12].
هل تغيرت المؤسسة العسكرية بسبب هزيمة 1967؟
تحسنت المؤسسة العسكرية المصرية في الأعوام القليلة التالية وحتى 1973 إلى حد كبير بسبب تغييرات واسعة في القيادات والتقليل من تدخل الجيش في السياسة بصورة مباشرة، لكنها لم تتطور هيكليا وظلت من خلف ستار تمسك بمفاتيح السلطة، وبالتالي تفتقر إلى آليات مستقرة تخضع قياداتها واستراتيجياتها وعملياتها لمحاسبة فوق قيادتها ذات نفسها. وعلى سبيل المثال لم يتم فصل مسؤوليات وزير الدفاع عن مسؤوليات القيادة العسكرية التي يجب أن تخضع للسيطرة السياسية المدنية مثلما هو الأمر في كل الدول الديمقراطية متشابهة الظروف مثل الهند آنذاك أو البرازيل والأرجنتين فيما بعد. لم تقترب مصر أبدا من هذا المسار سوى لفترة قصيرة في ظرف استثنائي عندما عين عبد الناصر رجلا عسكريا، لكن من خارج الجيش آنذاك وهو أمين هويدي وزيرا للحربية في يوليو 1967. وأوضح عبد الناصر أن الغرض من تعيين هويدي هو “لإشراف الكامل على كل ما يخص شؤون الدفاع، على أن يكون الهدف ذو الاسبقية إدخال القوات المسلحة ضمن إطار الدولة بعد أن ظلت ورما ينمو خارج هذا الإطار.” ويعتقد هويدي أن “خلل العلاقة بين القيادتين السياسية والعسكرية كان من أهم أسباب الهزيمة.” لكن هويدي لم يستمر سوى نحو ثمانية أشهر، لتعود “ريما” لعادتها القديمة ويولّي عبد الناصر الفريق محمد فوزي رئيس الأركان السابق وزارة الحربية والقيادة العامة للقوات المسلحة، وهو جمع للوظيفتين السياسية والعسكرية، الامر الذي لم يحدث حتى في عهد عامر رغم الخلل المريع في توزيع السلطات العسكرية.[13]
في الحقيقة لا توجد في الدول المستقرة وظيفة القائد العام للجيش، إذ هناك ثلاث وظائف رئيسية تخص المؤسسة العسكرية: القائد الأعلى وهو رئيس البلاد، وزير الدفاع (الحربية) وهو منصب سياسي يعينه الرئيس والبرلمان من بين المدنيين عادة، ثم رئيس أركان الجيش، وهو منصب عسكري مقتصر على الجانب العسكري التقني.
ولو نظرنا الى تنظيم القيادة والسيطرة على المؤسسة العسكرية في إسرائيل في نفس الفترة، لرأينا اختلافا مهما عن مصر، كان له دور فعال في حرب 1967، ففي إسرائيل تخضع القوات المسلحة للسيطرة الكاملة للحكومة المدنية من خلال وزير الدفاع، لكن سلطة الوزير لا تتعدى القرارات الخاصة بالسياسة إلى قرارات العمليات، فعلى سبيل المثال، كما يشرح وزير الدفاع آنذاك موشي ديان في مذكراته، تعطي “الحكومة، وعادة من خلال وزير الدفاع، أوامر باختراق الحدود اللبنانية كما يمكنني بصفتي وزيرا للدفاع إعطاء الأوامر بضرب القواعد بالقرب من دمشق، لكن ليس في استطاعتي أن أخبر الجيش كيف ينفذ ذلك، إذ أن العمليات اختصاص رئيس الأركان. وزير الدفاع هو القائد السياسي للمؤسسة العسكرية وهو ليس رئيسا للأركان، حتى لو كان يتمتع بالمعرفة الفنية، فالسلطة الفنية هي ملك لهيئة الأركان، التي يرأسها رئيس الأركان وله مساعدون عسكريون عليهم التخطيط.”[14]
وماذا بعد أن سكتت المدافع؟
انتهزت إسرائيل فرصة الحرب التي قدمها لها عبد الناصر لتحقيق ما كانت تريده، ولذا لم تنتظر سوى أسبوعا واحدا بعد وقف إطلاق النار ليوافق مجلس الوزراء على خطة لإعادة سيناء والجولان لمصر وسوريا على الترتيب، مقابل معاهدات سلام مع الاحتفاظ بقطاع غزة والقدس الشرقية، بينما ظل مصير الضفة الغربية معلقا. وفاز هذا المشروع في اجتماع مجلس الوزراء يوم 19 يونيو بأغلبية صوت واحد، لكن الخطة لم تر النور أبدا، لأن الدول العربية كانت تعلم أن أي اتفاق مع إسرائيل بعد الهزيمة الساحقة لن يحقق لها الحد الأدنى المطلوب وسيستحيل عليها مهما كانت درجة قمعها لشعوبها أن تقنع تلك الشعوب بعد عقود من الصراع مع العدو الإسرائيلي (بل وحتى رفض لفظ اسم هذه الدولة، مستعيضين عنها بكلمة الكيان الصهيوني) أنه يمكن عقد معاهدات سلام منفردة معها.
ومن ناحيته رفض عبد الناصر الحديث عن السياسة مصرا على الاستمرار في المواجهة العسكرية لتحسين شروط التفاوض، وعندما طلبت مصر مئات الطائرات والدبابات والمدرعات من الرئيس السوفييتي نيكولاي بودجورني في اجتماع في القاهرة في 22 يونيو، رد بودجورني بطلب تخصيص ميناء للبحرية السوفييتية، ثم طلب أن يستعرض عبد الناصر الخطوط العريضة لحل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي، ورفض عبد الناصر الحديث في أي أفق سياسي للأزمة، وكرر الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف نفس الطلب في اجتماعات مع زعماء عرب آخرين في موسكو، ونصح مصر بأن تقبل صفقة تحصل فيها على الأرض مقابل اتفاق عدم اعتداء، وقال بريجينيف وهو يحث القاهرة على عقد اتفاق عدم اعتداء مقابل استعادة سيناء: “دعوا إسرائيل تنسحب، ثم فسروا الاتفاقية كما تحبون، وعندما تصيرون أقوى افعلوا ما تريدون”. ولكن عبد الناصر أصر على أن “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”، ورضخ السوفييت لاعتبارات عديدة ومنحوه السلاح.
نهاية القومية العربية
قبل 1967 كان هدف القاهرة المعلن هو إنهاء وجود دولة إسرائيل وضمان عودة الاتصال الجغرافي بين عرب المشرق والمغرب، وإقامة دولة للفلسطينيين يمكن أن يعيش فيها اليهود بشروط، وبعد 1967، كما يقول هيكل، كان تقدير عبد الناصر “أن المطالب العربية الكبرى عليها أن تنزوي في الانتظار، فلم تعد هذه المرحلة مهيأة للكلام عن امتداد الاتصال الجغرافي بين أرض الأمة العربية، ولا عن حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطن له كيان وله حدود، والموقف الآن يقتضي العمل على مرحلتين: مرحلة أولى من أجل إزالة آثار عدوان 5 يونيو بالنسبة لأراضي مصر وسوريا والأردن، وإذا تحقق ذلك فإنه قد يفتح الباب لمرحلة ثانية يصعب التخطيط لها إلا بإتمام مهام المرحلة الأولى.”[15]
وبمعنى آخر يدعي هيكل أن موقف عبد الناصر المبدئي لم يتبدل، لكنه من باب التقيّة والخداع الاستراتيجي كان يريد العودة الى وضع ما قبل الرابع من يونيو حتى يتمكن من استئناف الحلم القومي العربي.
ما لم يدركه هيكل وما تبقى من أنصار القومية العربية كأيدولوجية سياسية عابرة لحدود الدول في الإقليم، أن هذه الايدولوجية بدأت نزيفا سيستمر عدة سنوات حتى تنتهي تماما في التسعينيات مفسحة المجال لايدولوجية احيائية أخرى سيتزعمها الإسلاميون. وفي نفس الوقت صارت دولة إسرائيل واقعا يستحيل نقضه عسكريا.
وتحولت السياسة الخارجية المصرية والعربية عموما، حتى لو لم تقر بهذا صراحة، من الطنطنة حول إزالة إسرائيل، إلى العمل من أجل إزالة آثار العدوان، وصار مصير الفلسطينيين غامضا، وبدأ دق أول مسمار في نعش القومية العربية أو على الأقل في الحلم الطوباوي بتأسيس كيان سياسي أو حتى اقتصادي فعال يضم دول المنطقة، وأكدت قمة الخرطوم في أغسطس 1967 نهاية طموحات عبد الناصر الإقليمية واعترافه بتقلص زعامة مصر الإقليمية لمساحة أقل كثيرا من أحلامه في نهايات الخمسينيات. وهكذا وصلت القاهرة سريعا إلى اتفاق مع السعودية وممالك النفط الأخرى من أجل انقاذ مصر من التبعات الكارثية للهزيمة. ومقابل التخلي عن دعم أي مشاريع ثورية فيما كان يدعوه الممالك الرجعية، حصل عبد الناصر على وعود عربية بدعم سنوي يزيد عن 265 مليون دولار (بما يعوض دخل مصر المفقود من قناة السويس) وكان قرابة ستين في المائة من هذه الأموال تعهدات من السعودية بمفردها، ولم يكن من الصعب على القاهرة تأمين الدعم السياسي العربي لموقف ناصر الذي اشتهر فيما بعد باللاءات الثلاث: لا للاعتراف ولا للصلح ولا للتفاوض.
تشوهت مسارات الأنظمة القومية العربية سريعا بعد حرب 1967 وتحولت، خاصة في نسختها البعثية (في سوريا والعراق سواء)، إلى أنظمة دموية قمعية فارغة من الأيدولوجيا ومن أي مفاهيم واضحة للأمن القومي، وعلى صعيد العمل السياسي الفعلي تحولت الأنظمة لقبول التعاون الاقليمي بديلا عن أفكار الوحدة المستحيلة، وكان السقوط البطيء للقومية العربية كأيدولوجيا محركة للسياسة موازيا للتصاعد السريع في دور الإسلام السياسي بنسخه المختلفة، بينما لم يتبلور أي تيار سياسي ديمقراطي علماني قوي. كانت هناك فرصة ما أن تؤدي الهزيمة في 1967 لمراجعة شاملة للنظم السياسية المسيطرة، لكنها، على العكس، وخاصة في حالة سوريا، مكّنت هذه النظم أكثر عن طريق استغلال وجود إسرائيل كعدو خارجي يتعين معه ألا يعلو أي صوت فوق صوت المعركة.
ففي مصر، لم يتمسك عبد الناصر بعرضه للتنحي عن السلطة سوى لساعات، وعاد بعد أيام ليتنصل من مسؤوليته عن الهزيمة ويلقيها على عاتق المشير عبد الحكيم عامر والمؤامرة المزعومة من بريطانيا وأمريكا، بينما واسى العاهل الأردني الملك حسين شعبه بخطب بلاغية قال في أحدها إنه ينتمي لعائلة عانت كثيرا وضحت من أجل بلدها دون حدود، وأن ما حدث هو مشيئة الله. واستمرت القيادة السورية، التي لعبت الدور الأكبر في إشعال نار الحرب والدور الأصغر في خوضها، عندما اندلعت، في حالة إنكار تام، فقال رئيس أركان الجيش اللواء أحمد سويداني إن إسرائيل أرادت إسقاط الأنظمة التقدمية وفشلت في هذا، ولذا فنحن الفائزون في هذه الحرب. وأضاف وزير الخارجية إبراهيم الماخوس أنه لا يهم لو سقطت دمشق أو حتى حلب، “فهذه ليست سوى أراضي يمكن استرجاعها وأبنية يمكن بناؤها، لكن حزب البعث، أمل الأمة العربية، إذا سقط، فلا يمكن استرجاعه”، وأعلن حافظ الأسد وزير الدفاع والمسؤول الرئيسي عن الفشل أن سوريا حاربت بمفردها طوال ستة أيام بلا هوادة، وهو تصريح أقل ما فيه أنه كاذب لبلد عانت هزيمة ساحقة في حرب لم تكد تخضها وأعلنت سقوط أراضيها قبل ان يستولي عليها الخصم فعليا!
ورغم تصريحاتها العلنية ودعمها لعبد الناصر في مؤتمر الخرطوم في أغسطس، ابتهجت السعودية بهزيمة عبد الناصر، حيث قال الملك فيصل لسفير بريطانيا –آنذاك- “لو كنت في مكان اليهود لقمت بما فعلوه بالضبط.. ناصر متآمر ضليع وزعيم مزيف.”[16]
نهاية الناصرية: “يا جمال للصبر حدود.. عشرة يونيو مش ح تعود”:
نجا عبد الناصر من المحاسبة والمساءلة الحقيقية بعد أن خرجت الجماهير في التاسع من يونيو عقب عرضه الاستقالة، وتظاهر الملايين في يومين متتالين مطالبة ببقاء القائد الذي صار يؤطر حياتها السياسية ويلعب دور الأب الذي بدونه يخشى الشعب/أبناؤه من مصير مظلم، لكن بعد شهور قليلة خرجت قطاعات واسعة من هذه الجماهير، خصوصا من بين العمال والطلبة في مظاهرات عارمة ضد عبد الناصر وضد سيطرة الأجهزة الأمنية على البلاد. وفي شهري فبراير ونوفمبر ١٩٦٨ سارت احتجاجات للعمال وللطلبة، وهتفت ضد عبد الناصر: “يا خالد قول لأبوك، تلاتين مليون كرهوك، دي مش عزبة أبوك”، و“غيّر غيّر يا جمال.”[17]
ربما كان عبد الناصر يعي أن مظاهرات رفض التنحي كانت في جانب منها مطالبة له بتحمل المسؤولية عن طريق إصلاح الخطأ وليس عن طريق الفرار من موقعه، لكنه كان يعلم في الأغلب أن الشعب لم يعرف بعد عمق وفداحة الهزيمة بعد أيام قليلة من وقوعها، كونه أسير وسائل الإعلام التي تسيّرها الدولة بالكامل. ويقول عبد المجيد فريد إن عبد الناصر كان يخشى في نهاية يونيو أن استقرار الجبهة الداخلية لن يدوم طويلا وأن الشعب لن يتحمل الصدمة أكثر من ستة إلى تسعة أشهر، وفعلا تفجرت المظاهرات الشعبية في فبراير 1968 وشارك فيها آلاف من العمال وطلبة الجامعات الكبرى في القاهرة والاسكندرية. وفي مواجهات مع الشرطة لقي أثنان من العمال مصرعهما، وأصيب 77 شخصا وأُعتقل 635 أخرين، ورغم أن شرارة انطلاق المظاهرات كانت الأحكام المخففة على قادة سلاح الطيران، لكن الهتافات والمطالب المرفوعة ربطت بين الهزيمة وبين غياب الديمقراطية والمحاسبة عموما، فتضمن بيان طلبة كلية الهندسة المعتصمين مطالب مثل “حرية الرأي الصحافة ومجلس حر يمارس الحياة النيابية السليمة وإبعاد المخابرات والمباحث عن الجامعات وإلغاء القوانين المقيدة للحريات”، وكتب الطلبة شعارات على جدران كلية الهندسة منها “تسقط دولة المباحث” و”يجب إنهاء حكم المباحث والمخابرات” و”تسقط صحافة هيكل الكاذبة” و”القضية ليست قضية الطيران، بل قضية الحريات”، ورفع المشاركون في مؤتمر طلابي بالاسكندرية شعارات مثل “تسقط دولة العسكريين” و”هيكل هيكل يا كداب بطل كدب يا نصاب” و”يا جمال للصبر حدود عشرة يونيو مش ح تعود” و”تسعة يونيو أيدناك والنهارده عارضناك”. ولخص الكاتب المصري فؤاد زكريا المسألة قائلا إن التحرك الطلابي كان “في الواقع تعبيرا عن عدم الرضا عن أسلوب كامل في الحكم.” وعادت المظاهرات في نوفمبر 1968 بدءا من المنصورة، حيث قُتل ثلاثة طلبة وفلاح وجُرح 32 متظاهرا، وامتدت الاحتجاجات إلى الاسكندرية، حيث لقي 16 شخصا مصرعهم وأُصيب مئات أخرين.[18]
كان عبد الناصر زعيما سلطويا شعبويا مدفوعا بميول وطنية وقومية جياشة فيما يتعلق بسياسته الخارجية. وفي سياسته الداخلية تبنى نظامه سياسات اشتراكية الدولة، ونجح في رفع مستوى معيشة الطبقات الدنيا في مصر، لكنه قتل كل فرص السياسة والمشاركة الشعبية الحقيقية في مصر، وانسجمت مواقف النظام ومساعيه على الصعيدين الداخلي والخارجي مع عصره الذي سعت فيه نخب جديدة صاعدة في دول ما بعد الاستعمار من أجل توطيد استقلال دولها وأمن النظم الحاكمة فيها. وسنة بعد الأخرى صار أمن النظام أهم من أهدافه، ثم اندمج أمن النظام في أمن الشبكة المتحكمة في السلطة، وهو الطريق الذي انتهت إليه دول عديدة في العالم الثالث، ولم ينج منه سوى قلة، بعضها ناضل طويلا للتغلب على تحكم العسكر وشلل فساد النخب الجديدة في بلدان مثل الهند وأندونيسيا وماليزيا وتركيا والبرازيل والأرجنتين.
حقق الضباط الأحرار نجاحا سياسيا مشروطا، لكن النظام الذي خلقوه وتزعمه عبد الناصر فشل عسكريا أكثر من عشرين سنة وحتى حرب أكتوبر، وحتى تلك ما زالت لم تلق الدراسة والنقد الضروري في المجال العام في مصر، لأن مؤسسات الدولة بما فيها الجيش كانت معظمها مشغولة بتأمين النظام داخليا، وافتقرت إلى الكفاءة والمهنية واستشرى فيها الفساد والمحسوبية، ولم تكن مصر مستعدة أو قادرة على الحرب عسكريا سواء في 1956 أو في 1967، لكنها نجت سياسيا في الأولى بفضل تدخل الأمريكان والسوفييت، بينما تُركت لمصيرها في الثانية.
حاولت موسكو وواشنطن إقناع القاهرة بالتراجع عن خطوة إغلاق المضايق التي منحت إسرائيل على طبق من فضة كل ما تريده أحزابها المختلفة، لكن دون جدوى. وحصل الإسرائيليون على ما أرادوا: فمن يريد القضاء عسكريا على الدول المجاورة غير المستعدة، قام بهذا، ومن يريد ضم الضفة الغربية والقدس، حصل عليهما، ومن يريد إسقاط أسطورة عبد الناصر، نجح في ذلك. وكان نجاحا مذلا، ربما لم تتعاف منه مصر حتى الآن، حيث فقدت دولة يوليو قدرتها على التمتع بدعم شعبي واسع، واضطرت النظم المتعاقبة مع السادات ومبارك وحتى الآن إلى اللجوء الى مزيج من القمع والمحسوبية والفساد لضمان استمرار سيطرة الطوائف الحاكمة على بقية المجتمع.
وختاما، فهذا هو نهاية دراسة حاولت أن تستنطق عددا محدودا من الكتب والمذكرات والوثائق العربية والإنجليزية في مسعى لتشريح الظروف المحيطة بحرب 1967، وخاصة فيما يتعلق بمصر. حسمت اسرائيل مصير تلك الحرب في أقل من يوم بل خلال عدة ساعات ثم هزمت مصر وسوريا والأردن وانتزعت مساحات شاسعة من الاراضي منها في أقل من بضعة أيام. يستحق الأمر بحثا أطول وأكثر استفاضة، لا شك، حتى لو كان يعكس في الأغلب ما تتيحه لنا الأرشيفات الأمريكية والبريطانية والروسية والإسرائيلية، طالما ظل أرشيف الوثائق المصري مغلقا، أو ربما غير موجود. هناك مصادر مصرية مما نشرته الصحف آنذاك وكتب ومذكرات/ذكريات القادة والسياسيين المصريين المشاركين في تلك الحرب، لكن هذه المصادر تفتقر كلها تقريبا إلى أرشيف المحاضر والاجتماعات الداخلية، فلا تعكس في أحوال كثيرة سوى ما قاله كتابها ورؤيتهم فيما قاله الآخرون، وكل هذه المصادر لا تعكس سوى ومضات بسيطة من التجربة المباشرة للجنود المصريين، أولئك الذين عانوا أكثر من أي طرف آخر في هذه الحرب قتلا وجراحا وأسرا وخيبة أمل طاحنة، وعندما نعثر على قصص هؤلاء الجنود، وعندما تفتح دولتنا، التي مازالت تخضع لسيطرة المؤسسة العسكرية، أرشيفها حقا، سنتمكن ساعتها من كتابة تاريخ غني لما حدث، وربما يوما ما ستسمح الظروف السياسية والنخبة المسيطرة في بلادنا أن نكتب أيضا تاريخا مفصلا وليس احتفاليا وتبريريا لحرب أكتوبر 1973 المُختلف على مجرياتها وخواتيمها.
الأجزاء الأخرى في الدراسة:
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الأول)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثاني)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثالث)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الرابع)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الخامس)
هوامش:
[1] تعتمد أرقام القتلي والجرحي والأسرى والخسائر العسكرية والاقتصادية على المصادر التالية: محمد فوزي، “حرب الثلاث سنوات”، ص. 161، أمين هويدي، “الفرص الضائعة”، ص. 109، Michael Oren, “The Six Day War”, pp. 305-306، Stephen Cook, “The Struggle for Egypt”, pp. 92-93
[2] مصطفى بكري، “ناصر 67: هزيمة الهزيمة، من النكسة إلى الازمة”، ص. 46
[3] جاءت ملاحظة زكريا محي الدين في تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية موجود في مكتبة ليندون جونسون الرئاسية، الصندوق 20، مذكرة للرئيس بتاريخ 31 يوليو 1967.
[4] ظل بدران مقيما في بريطانيا منذ وصلها عام 1974 مزودا بجواز سفر دبلوماسي منحه إياه الرئيس الراحل أنور السادات مقابل رحيله وصمته، وهو ما التزم به معظم الوقت باستثناءات قليلة ووضيعة، مثل تهديده منذ عدة سنوات بفضح العلاقات الجنسية لعبد الناصر، حتى مات في أواخر 2020.
[5] نسخة قرار القائد العام بالإنسحاب في عام ١٩٥٦ في كتاب سامي شرف، “سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر”، الجزء الأول ص 242، بينما تعذر العثور على نص رسمي لقرار الانسحاب في عام 1967 ومن المحتمل ألا يكون المشير عامر قد وقع قراراً مكتوباً وأكتفى بإدارة الإنسحاب بطريقته العشوائية على الهاتف.
[6] هويدي، مرجع سابق، ص 95
[7] أحمد عبد الحميد شرف، “الحائط العظيم: ذكريات جندي في حرب الاستنزاف”، ص. 16-17.
[8] فوزي، مرجع سابق 174-175 وهناك مصادر عديدة حول تطورات الأسابيع الأخيرة في حياة المشير عامر منها كتاب هيكل، “الانفجار”، وكتابسامي شرف، “سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر”، وكتاب أمين هويدي، “الفرص الضائعة” ومحاضر اجتماعات كبار رجال الدولة في بكري “ناصر 67”
[9] ستيفن كوك، مرجع سابق، ص 100 ومحمد فوزي، مرجع سابق، ص 41-42.
[10] حوار بين عبد الناصر وعبد المجيد فريد الأمين العام لرئاسة الجمهورية مقتبس في كتاب أمين هويدي، “الفرص الضائعة”، ص 82، ولمن لديهم جلد يمكن الاطلاع على محاضر مذهلة لاجتماعات ناصر مع كبار رجال الدولة بعد الهزيمة في الجزء الأول من كتاب مصطفى بكري، “ناصر 67: هزيمة الهزيمة، من النكسة إلى الازمة”، وان لم يوضح بكري كيف حصل على هذه المحاضر بصفة رسمية مكتفيا بالإشارة لدور مهم لعبته الدكتورة هدى عبد الناصر، ابنة الزعيم الراحل.
[11]يلخص ريتشارد باركر وجهات نظر السياسييين والعسكريين المصريين المتعارضة بناء على مقابلات مع بعضهم وكتابات أخرين أو اجتماعاتهم مع مسؤولين أمريكيين. Richard Parker, “The Politics of Miscalculation in the Middle East”, pp. 79-82
[12] باركر، مرجع سابق، ص 98
[13] هويدي، مرجع سابق، ص 80-83.
[14] Moshe Dayan, “Story of My Life”, pp. 508
[15] محمد حسنين هيكل، “عواصف الحرب وعواصف السلام”، ص. 137.
[16]وردت في أورين، مرجع سابق، ص 310. وبرقية السفيرالبريطاني في الرياض متاحة في الأرشيف البريطاني بتاريخ 26 يونيو 1967 ومقتبسة في اورين، مرجع سابق، ص ٣١٨. وجاءت مقتبسات القادة السوريين من كتاب مصطفي خليل “سقوط الجولان” ص. 190-192
[17] أحمد عبد الله، “الجيش والديمقراطية في مصر”، ص 27.
[18] عبد الله، مرجع سابق، ص. 29-43.
محمد سليم
السادات قرار تطوير الهجوم هو السبب فيه لولا قرار تطوير الهجوم لما حدثت حصار الجيش الثالث قرار سياسي تطوير الهجوم خارج مظله سام 6
محمد سليم
يا استاذ من فضلك اقرا كتاب ماضي وحاضر ومستقبل الفعالية العسكريه العربيه لكنيث بولاك أصدار 2019 بلاش القديم إصدار 2002. ب لاضافه الي كتاب ابراهام رابنفويتش حرب يوم الغفران المواجهه الملحميه التي أحدثت تغيرا كبيرا في الشرق الأوسط
محمد سليم
وفيه اعترافات إسرائيليه بالهزائم عليي قناه مجموعه مورخين 73 من فضلك تابعها