نسخة محدثة ومنقحة، يونيو 2021
يتذكر كبار السن من المصريين والعرب، وخاصة في الخليج والمشرق، إذاعة صوت العرب المصرية في الستينيات وعملها من أجل نشر أفكار القومية العربية من القاهرة وفضح النظم “الرجعية العميلة للاستعمار”، لكنهم ربما لا يتذكرون الإذاعات والتصريحات الإعلامية الموجهة من السعودية والأردن، والتي كانت تنتقد حكم عبد الناصر، وعجز مصر عن تحرير فلسطين ومواجهة إسرائيل. وفي العامين السابقين على الحرب، تحولت هذه الانتقادات اللاذعة إلى حملات مكثفة للاستفزاز والشتائم والتجريس ضد عبد الناصر ونظامه بشكل موجع احيانا للقيادات السياسية في القاهرة، بل ومزعج أحيانا لواشنطن التي كانت تخشى من أن تدفع المبالغة في هذه الحملات مصر وعبد الناصر إلى رد فعل قوي. لم تصدر هذه الحملات من الرياض وعمّان، بل شاركت فيها دمشق مشاركة فعالة ولسنوات بعد انهيار مشروع الوحدة بين مصر ،سوريا في عام ١٩٦١، كما شاركت فيها أنظمة عربية أخرى – بعض الوقت – مثل العراق، وكان لبنان في الأغلب مسرحا للصراع السياسي بالوكالة بعض الوقت وسوقا لبيع الصحف والأبواق الإعلامية لهذه النظم أو للنظام المصري طول الوقت.
المفارقة أن كل هذه الدول لم تكن تريد أن تحارب إسرائيل، بل تواصلت السعودية والأردن مع إسرائيل بأشكال مباشرة أو غير مباشرة خدمة لمصالحها أو للحصول على تطمينات وتبادل معلومات، ووصل الأمر للتعاون العسكري غير المباشر بين السعودية وإسرائيل لدعم الإمام محمد البدر في اليمن ضد الجيش المصري في النصف الأول من الستينيات.[1]
وكانت البرامج المعدة خصيصا للنيّل من عبد الناصر تكرر وتعيد أن الزعيم المصري وجيشه يختبئان وراء قوات الطوارئ الدولية المرابطة في نقاط محددة حول القناة وفي شرم الشيخ جنوبا، وعلى حدود الهدنة وداخل قطاع غزة الفلسطيني الذي تديره مصر منذ ١٩٤٨، كانت هذه القوات الدولية، التي لم يزِد قوامها عن ٤٠٠ر٣ جندي من عدة دول، منتشرة على الجانب المصري فقط من الحدود مع إسرائيل منذ أواخر ١٩٥٦ في إطار ترتيبات إنهاء حرب السويس أو ما عُرف في مصر بالعدوان الثلاثي (الفرنسي الإنجليزي الإسرائيلي)، وتضمنت الترتيبات منح إسرائيل حق العبور الآمن في مضايق تيران نحو ميناء إيلات حيث وصلت بانتظام شحنات نفط إيرانية وقسما من تجارة اسرائيل استيرادا وتصديرا. وفي عامي ١٩٦٥-١٩٦٦، رست في ميناء إيلات ٥٠٠ سفينة استوردت ٥٤ ألف طن وصدرت ٢٠٧ ألف طن سلع مختلفة.
وكانت السعودية والأردن بل وإسرائيل والولايات المتحدة كلها تعتقد أن مصر تفضل فعلا الاحتفاظ بقوات الطوارئ على الحدود، لأنها توفر ذريعة لعدم شن عمليات عسكرية ضد إسرائيل من الجانب المصري، كما أنها تحمي مصر من أي مغامرات إسرائيلية، واعتقد الأمريكيون أن عنف الانتقاد العلني من الإذاعات العربية الموجهة ساهم في دفع عبد الناصر لقرار التصعيد وطلب سحب القوات في ١٦ مايو بغض النظر عما إذا كان قد فعل هذا بنية التهويش أم كان يعتزم خوض الحرب فعلا.
أثّرت هذه الإذاعات والحملات الإعلامية الموجهة ولغتها الوضيعة على عبد الناصر خاصة، ولم يوفر الزعيم جهدا في مواجهة هذه الحملات وعلى نفس المستوى من البذاءة احيانا.
في خطاب له في فبراير ١٩٦٧ سبّ عبد الناصر قادة السعودية والأردن وسوريا وتونس مستخدما ألفاظا مقذعة ومتهما إياهم بالعمالة والخيانة والتجارة بالشعارات والدين، وتظهر هذه المقتطفات، التي ينبغي للمهتمين الاستماع إليها للتعرف أكثر على قدرات ناصر الخطابية وتأثيره الفعلي، وضاعة الحملات المتبادلة.
وتسمع إذاعة الأردن يقولوا يا جعانين يا اللى مش لاقيين تاكلوا .. ياللى مش فاهم إيه، وتسمع إذاعة السعودية بيقولوا إن المصريين الاشتراكية جوعتهم وعرتهم والاشتراكية عملت وسوت! وطبعا طول الليل والنهار الملك فيصل عمال يسب ويشتم.. الملك حسين.. ما هو بقى ملك فاجر.. عاهر الأردن – زى ما بيقولوا عليه الإنجليز – واخد الصنعة عن جده فى سنة ٤٨!
مقتطف من خطبة لعبد الناصر في فبراير ١٩٦٧
ولا يتوانى عبد الناصر عن اتهام السعودية والأردن وسوريا وتونس بأنهم أسوأ من الاستعمار ويضحون بكل شىء من أجل بقائهم في السلطة.
بورقيبة خرج وطالب بالتفاوض مع إسرائيل، والصلح مع إسرائيل، وهو بهذا كان يتبنى مخططات أمريكا، وبورقيبة كعميل استعمار قال إنه يعمل إنه شجاع ويطلع بهذه الآراء وتنشر عنه الصحافة الغربية ويستطيع بهذا أن يضمن عون أمريكا، إذن بدأت تصفية وحدة العمل ببورقيبة، ثم بدأ الملك فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامي .. حلف إسلامى لخدمة مصالح أمريكا وخدمة مصالح إنجلترا. وبعدين بيطلع الملك حسين وينضم إلى فيصل في هذا الطريق. همه بيشتغلوا بالدسائس، وهمه بيشتغلوا بالأموال، إحنا دعامتنا الأساسية كلامنا؛ إن إحنا نقف نتكلم وإذاعتنا تتكلم وصحافتنا تتكلم، مش دعامتنا الأموال ولا دعامتنا التآمر. الأمريكان زعلوا جدا، ليه زعلوا؟ إزاى نهاجم الملك فيصل، وإزاى نهاجم الملك حسين، وإزاى نهاجم إسرائيل؟ مطلوب مننا إن إحنا نحل هذه المواضيع بالديبلوماسية الهادية، ومفيش داعي إن إحنا نعلنها. طب يا جماعة والجماعة دول طب ما هم بيهاجمونا! بيهاجمونا في جرايدهم وبيهاجمونا في إذاعاتهم، إشمعني هذا الهجوم ما انتوش زعلانين منه؟! إذا إحنا هاجمناهم تزعلوا، إذا هم هاجمونا تتبسطوا! معنى ده إيه؟!
من خطبة الرئيس عبد الناصر في فبراير ١٩٦٧
وأقر وزير الخارجية المصري –آنذاك- محمود رياض أن هذه الإذاعات الموجهة أثرت كثيرا على عبد الناصر، خصوصا “بادعائها المتكرر أن ناصر يحتفظ بقوات الطوارئ في سيناء ليبرر تقاعسه عن نجدة الفلسطينيين كما كانت البرامج في الإذاعات التابعة للسعودية تجتزئ من حديث لناصر قوله لمجموعة من الفلسطينيين إن مصر لن تعيد لهم وطنهم السليب.”[3]
كان هذا مستوى الخطاب بين الزعماء العرب، وهو مما ساهم في إذكاء الغضب والكراهية المتبادلة بين الحكام وقطاعات من الشعوب العربية وبعضهم البعض في نفس الوقت الذي كانوا فيه جميعا يتشدقون بأهمية الوحدة العربية والعمل المشترك. واقتات هذا الخطاب على عجز هذه الأنظمة عن خلق علاقات تعاون في حدها الأدنى وانشغالها المطلق بدوافع الحفاظ على بقائها في السلطة بالدرجة الأولى، وهو أمر كان يهدده بالنسبة للرياض وعمّان، على الأقل، مساعي ناصر لنشر الثورة وشعاراته القريبة من الاشتراكية والمعادية للحكم الملكي وطرد كل ما تبقى من آثار للنفوذ البريطاني.
فيه ناس قالوا بورقيبة ده ملحوس، يعني الواحد ما يحاسبوش على كلامه، وده ساعات بتيجي له لحسه ويطلع بيقول أي كلام، وأنا فعلا بعد بورقيبة ما اتكلم، قلت استنى شوية، والراجل ده معروف إنه راجل عصبي وساعات بيقول أي كلام، لكن بورقيبة أكد هذا الكلام. باين إن هو واحد بيقول شكل للبيع! وأنا عايز اتخانق معاكم، قلنا له خلاص إذا كنت عايز تتخانق معانا بنتخانق معاك وبنقول رأينا فيك بصراحة، والرأي إن اللي بيقول هذا الكلام لازم يا يكون اليهود اشتروه، يا الأمريكان اشتروه، يا إما يكون اتلحس أو اتجنن. لا يمكن أن نفصل الرجعية العربية بأي حال من الأحوال عن الاستعمار، عن إنجلترا، عن أمريكا؛ الموجه أمريكا، وإنجلترا فى جيب أمريكا، والتلاتة خدام لأمريكا وخدام لإنجلترا: ملك الأردن، ملك السعودية، والخواجة بورقيبة، التلاتة ماشيين لتحقيق أهداف الاستعمار، اللي بيرتب واحد، والخبر اللي تذيعه إذاعة السعودية، بعد يومين يذيعه بورقيبة، التعليق اللي تذيعه إذاعة السعودية بعد يوم يذيعه بورقيبة، وبعدين بيذيعه الملك حسين، وباين إن المخابرات الأمريكي بتشتغل معاهم هم التلاتة، وبتنسق بينهم هم التلاتة.”[2]
من خطبة الرئيس عبد الناصر في فبراير ١٩٦٧
في نهاية الأمر كان ناصر ومن حوله، خصوصا هيكل، لا يرون في السعودية والأردن سوى نشأتها في نهاية الحرب العالمية الأولي على يد الاستعمار الانجليزي وبقائها على علاقات وثيقة أمنية وعسكرية مع انجلترا ثم الولايات المتحدة. ومع تراجع الإنجليز والفرنسيين للخلف كدول استعمارية تفرض مصالحها بالقوة على الأرض، تمددت الهيمنة والقوة الأمريكية شيئا فشيئا عن طريق الاقتصاد والسياسة، وبالتوازي فقدت الحركة الوطنية التي قادت الاجنحة السياسة المعارضة للاستعمار في العالم العربي منذ أوائل القرن العشرين زخمها، ولم تعد بحلول منتصف الستينيات سوى شعارات فارغة حتى في أعين مؤسسات الدولة وأجهزة أمنها، وباتت الأولوية لبقاء وتأمين النظم العسكرية والملكية، الرجعية والثورية على حد سواء، وحمايتها، ليس من الاستعمار وأجهزة مخابراته فحسب، بل من جيرانهم، وحتى من شعوبهم ومن بعض ضباط جيوشهم نفسها التي بدأت في التذمر أو في موجة الانقلابات العسكرية التي شملت السودان (١٩٥٨) واليمن (١٩٦٢) وسوريا (١٩٦٣) والجزائر (١٩٦٥) والعراق (١٩٥٨ و ١٩٦٣).
كان الأردنيون قد ساهموا على مدى سنوات في تهييج الرأي العام ضد عبد الناصر بشدة واتهموه بالتقاعس عن المواجهة مع إسرائيل، حتى أدركوا أن هذا الموقف قد يؤذيهم، فتوقفوا في حوالي ٢١ مايو بعد طلب مباشر من واشنطن التي خشت أن هذه الحملات التشهيرية، التي لابد كانت تعجبها بعض الشئ قد تدفع الأمور لمنزلقات وعرة يصعب السيطرة عليها. كان ربيعا ساخنا في الأردن تزايد فيه الضغط الداخلي من شعب ثلثاه فلسطيني الهوية والانتماء داعما لنداءات وتحركات عبد الناصر لكبح جماح إسرائيل ومنعها من ضرب أي دولة عربية. وكانت المملكة الأردنية الهاشمية رغم مرور ٤٥ عاما على نشأتها آنذاك، وما زالت، دولة تعاني من ضعف اقتصادي هيكلي وتعتمد على دعم ورعاية مصالح رعاة غربيين في لندن وواشنطن. وطالما سارت عمّان بمهارة، يعود الفضل فيها للملك حسين والنظام السياسي المنفتح نسبيا، على حبل مشدود. من ناحية كان هناك الضغط المستمر من اغلبية من سكان الأقليم الراغبة في العودة لوطنها السليب، ومن ناحية اخرى كان هناك عدو شرس وتوسعي لم يتوقف عن الحلم باحتلال القدس والسيطرة على ما صار يسميه يهودا والسامرة أو الضفة الغربية، التي كانت كلها حتى يونيو ١٩٦٧ أراض خاضعة لسيطرة الأردن. وكان النظام الاردني عاجزا عن مصارحة شعبه بحقيقة قدراته العسكرية والاقتصادية وتنغص عليه الحملات الاعلامية القادمة من اذاعة صوت العرب لأنها تؤجج مشاعر الفلسطينيين اللاجئين في الأردن. كان القصر الملكي يعلم بناء على خبرة السنوات الماضية أنه قد يخسر نصف الأراضي التي يسيطر عليها في أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولذا كان حنقه على ناصر كبيرا لأنه الزعيم المصري الذي كان يداعب أحلام وأمال كل الفلسطينيين، بل والعرب الطامعين في استعادة الشعور بالكرامة والقوة.
وشكا مسؤولون أردنيون – آنذاك – للسفير الامريكي فندلي بيرنز أنهم لا يستطيعون تحمل مزيد من الضغط الشعبي، وأن صورتهم في العالم العربي كحليف للولايات المتحدة صار ثمنها أبهظ مما يمكن تحمله، وبدأ الأردنيون في أواخر مايو النظر في خطوات محددة، وفقا لتقرير أرسله بيرنز إلى واشنطن، ومنها “استضافة قوات عربية، مع ضمان أن تكون هذه القوات سعودية أو عراقية، وليست مصرية أو فلسطينية.”
ويقول السفير الأمريكي في عمّان إنه كان متوجها للقاء رئيس الوزراء الأردني سعد جمعة في العشرين من مايو، وبعد أن دخل مكتبه وجد عنده الملك حسين ونائب القائد العام للجيش الجنرال الشريف ناصر ورئيس الأركان عامر خماش. وكان الأردنيون قلقين من أي انفجار للأعمال العسكرية سيورطهم حتما، وقال بيرنز: “هم لا يرغبون في المشاركة في أي أعمال عسكرية، وأبلغني الملك أنه قرر عدم تنظيم عرض عسكري في مطار القدس حتى لا يستفز الإسرائيليين في القدس الغربية فيما يبدو. والقلق الأردني الأشد هو أن يطلب عبد الناصر مساعدتهم إذا قرر إغلاق خليج العقبة ويحاول وضع قوات مصرية في ميناء العقبة الأردني.”
كان عبد الناصر قد أعلن سحب قوات الطوارئ الدولية، لكنه لم يقرر بعد غلق مضايق تيران وخليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، وأوضحت برقية من واشنطن موجهة إلى السفير بيرنز في عمّان أن “إسرائيل أبلغتنا أن راديو رام الله –الأردني- في نشرة أخبار الظهيرة اليوم وفي التعليق الإخباري هاجم القاهرة وتحدى المصريين أن يظهروا جديتهم عن طريق إغلاق خليج العقبة.. إذا كان هذا التقرير صحيحا يجب أن تؤكدوا لرئيس الوزراء جمعة والآخرين أن هذا التحريض والخط الإعلامي الخطير يمكن أن يؤدي إلى تدهور الأوضاع، وفي الموقف المتفجر الراهن، فإن مثل هذه الأنشطة في مؤسسات المملكة الأردنية تتصف بالرعونة ويجب إيقافها.”[4]
بين الثورة والاستقرار: “الملك حسين بيعيط هو وأمه”
كان عبد الناصر مؤمنا بحتمية وأهمية الوحدة العربية، ويعتقد أن مصالح الشعوب وثقافتها المشتركة تعلو فوق الأنظمة السياسية والاجتماعية الحاكمة لها، وربما كان يرى في نفسه الزعيم الموّحد للأمة والملهم لها، خصوصا في النصف الثاني من الخمسينيات وبعد إحرازه عدة نجاحات متتالية في وجه الإنجليز والإسرائيليين والفرنسيين، بل ومناوشاته الدبلوماسية مع الأمريكيين.
كان عبد الناصر قد وطد مكانة عالمية عن طريق حركة عدم الانحياز بداية من عام ١٩٥٥، وهو نفس العام الذي تم فيه القضاء على كل منافسيه داخليا من الإخوان المسلمين وحتى بقايا حزب الوفد وكبار ملاك الأراضي. كان فقر مصر وضعفها العسكري النسبي يغلّ طموحات عبد الناصر، الذي لابد أنه، ومن حوله، كانوا يتحسرون على افتقارهم إلى ثروة نفطية، وجاءت الوحدة مع سوريا خطوة لم يسع إليها ناصر من أجل اختبار فرضيات القومية العربية، لكن انهيارها السريع ثم تورطه في حرب اليمن ونهاية فترة الانتعاش الاقتصادي في منتصف الستينيات كلها، جعلت الرجل أكثر استعدادا للمقامرة وأكثر غضبا على الولايات المتحدة التي رأى أنها العقبة الرئيسية في وجه مشروعه التاريخي.
بيد أن أحلام ناصر وطموحاته بذاتها بدأت تتفكك في أوائل الستينيات. وجه تفكك الوحدة السورية المصرية الهشة في ١٩٦١ ضربة قوية للمشروع الناصري، وآمال القوميين العرب عموما، ويقول السياسي المصري سيد مرعي إنه لكي نفهم قرارات وتحركات عبد الناصر في ١٩٦٧ “يلزم أن نعود إلى عام ١٩٦١ وتفكك الوحدة مع سوريا، والتي صار عبد الناصر بعدها منشغلا للغاية بهيبته وسمعته في العالم العربي.” ويتفق زكريا محيي الدين، الذي يرى أن قرار دعم ثورة المشير السلال في اليمن أتت من نفس المنطلق، حيث “بالنسبة لعبد الناصر كانت ثورة اليمن هدية من السماء ليتمكن من استعادة نفوذه وهيبته”.[5]
ولكن النظرة الى حرب اليمن وسط بعض الشباب المصريين غير المنخرطين في دوائر السياسة الضيقة كانت بعيدة كل البعد عن هذه الاحلام والاوهام الاستراتيجية. في كتابه، “خطوات على الأرض المحبوسة” الذي وضعه في شكل روائي يقول محمد حسين يونس أن البطل لم يفهم سؤال قائد الكتيبة بشأن التطوع للذهاب لليمن ورد قائلا:” ولماذا!؟ ليس لدي أولاد في سن الزواج أو زوجة مريضة أريد علاجها أو منزل لم يتم بناؤه واريد استكمال.” وسافر البطل لليمن حيث تعلم “كيف أصبح الاهتمام الأكبر للرجال هو جمع أكبر قدر من الأموال من خلال بدلات السفر وتهريب العملة واستجلاب البضائع المستوردة .. وكيف انحطت الكفاءة القتالية للجيش.” (“صفحات على الأرض المحبوسة”، دار المستقبل العربي، ١٩٨٣، ص. ١٤)
ولابد أن عبد الناصر ورفاقه من المعسكر الثوري العربي نظروا بحسرة وغضب إلى كبرى الدول العربية المنتجة للنفط، والتي قارب دخلها في عام ١٩٦٥ ألفي مليون دولار سنويا، وفي مقدمتها دول تقود معسكر “الرجعية” مثل السعودية والكويت. وفي ذلك الوقت بدأ موسم الهجرة العربية إلى الخليج، حيث انتقل مئات الآلاف من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، ومعهم افكار ناصر والبعث وأحلام الفلسطينيين في استعادة وطنهم، بينما بدأ في نفس الوقت عمل السعودية الدؤوب على استغلال ثروتها في مكافحة كل تلك الافكار “التقدمية والثورية” التي كانت ترغب في أن يستغل العرب نفط العرب من أجل حل مشاكل العرب بزعامة ناصر.
بالنسبة للخليج كان هذا نفطهم ويمكن أن يعمل مهنيون (أطباء ومدرسون ومحاسبون ومترجمون) عرب من دول أخرى لديهم، لكنهم لا يريدون انتشارا للأفكار الثورية في بلادهم، ولا يرغبون في أي تورط عسكري، ولا سيما وأن أمن الأنظمة والحكومات الناشئة في تلك المنطقة كان هشا، بل ومعتمدا في الأساس على مظلة تمدها لندن وواشنطن. وهكذا بات عبد الناصر وأفكاره وما اعتقدوا أنه محاولته للسيطرة على ثرواتهم، مشكلة رئيسية تؤرق هذه الأنظمة.[6]
آمن عبد الناصر أن الأمريكان خلف المحاولات العربية الحثيثة لمحاصرته عن طريق الأحلاف أو الضغط باستعمال صفقات القمح والمساعدات الاقتصادية، وزاد توجسه بعد رحيل الرئيس كنيدي وزيادة وتيرة التشهير بناصر وسياساته في الإذاعات العربية الموجهة، وفي خطابه في عيد العمال في ٢ مايو ١٩٦٧ قال: “الملك فيصل والملك حسين بيشغلوهم الأمريكان وبيشغلّوهم الإنجليز، والإنجليز طبعا وأمريكا أيضا قرروا من الأول في المرحلة الأخيرة إنهم ما يدخلوش مع الأمة العربية ولا الثورة العربية في مواجهة، لكن يدخلوا عن طريق العملاء، ولقوا عميل من الأسرة الهاشمية، وعميل في المملكة العربية ومشيوا معاهم، خطة أمريكا كانت إنها توجههم، وفي نفس الوقت مبنية على إن إحنا نسكت.. طيب هل ننفذ لها خطتها ونسكت؟ مش ممكن ننفذ الخطة ونسكت”
ولم يقبل عبد الناصر ومؤيدوه قط أن عداء الأسرتين الملكيتين، السعودية والهاشمية، ينبع إلى حد كبير من مصالحهم الخاصة حيث كانت سياسة النظام المصري الخارجية الثورية خصوصا في سوريا والعراق واليمن، تمثل تهديدا لأنظمة الحكم هذه نفسها. لم يحتاج الملكان، حسين أو فيصل، لتشجيع أو عمالة أمريكية فقد كان عدائهما لعبد الناصر نابعا من مصالحهم الشخصية المباشرة، حيث كان الزعيم المصري ينخر بلا هوادة في أسس شرعية هذه الأسر الحاكمة. وكان ناصر، الذي وعد بمساعدة أي دولة عربية تواجه هجوما إسرائيليا، لاذعا في انتقاداته للملكين فيصل وحسين:
والخطة الامريكية الانجليزية دعاية في العالم العربي .. ويقول بقه ان عبد الناصر ضد الاسلام وضد الدين … وفيصل يطلع .. فيصل طبعا بيتكلم على الدين ببقه، وقلبه ما فيه أي دين، ولا فيه أي حاجة. كلام يعني وتمثيل، ويطلعوا الناس ويوزعوا كتب، كتب ورق حلو. أنا باقرا الكتب دي، وبييجي لي نسخ منها، ورق جميل وطباعة كويسة جدا، وكله شتيمة. والله هذه الأمور ما هياش جديدة علينا، ياما اتشتمنا قبل كده، وياما اتقال علينا قبل كده، وكان علينا محطات إذاعة لا أول لها ولا آخر.. تطلع إذاعة.. طبعا إذاعة الملك حسين بتشتغل للمخابرات الأمريكية للـ سي آي أيه، لأن هو الملك حسين نفسه بيشغل فى ال سي آي أيه … بتطلع الإذاعة، ويشتموا بقى كلام سافل وكلام وسخ، وطبعا أنا باقرا الكلام اللي بتقوله إذاعة الملك حسين واقول كلام عيال ولا الواحد يعبره بحاجة … ما هو مش معقول طبعا أرد على العيال دول، لأن يعنى آخرتهم معروفة، وأنا وهمه والزمان طويل! مش ح نسكت.
من خطبة الرئيس عبد الناصر في عيد العمال، أول مايو، ١٩٦٧
ثم يصل ناصر لبيت القصيد، والذي ربما كان أحد أسباب بعض تحركاته التالية خلال أسابيع للضغط على إسرائيل عقب تقارير عن حشود قرب الحدود الصهيونية مع سوريا:
أيام ما حصل العدوان الإسرائيلى على سوريا (كان يقصد هجوما جويا إسرائيليا اسقط عدة طائرات سورية في المجال الجوي السوري قرب دمشق وذلك في اعقاب قصف مدفعي سوري) طلعت إذاعة العيال في الأردن، إذاعة الملك حسين تقول إيه؟ إن اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا ما اتنفذتش، والملك حسين زعلان بقى وبيعيط هو وأمه على الاتفاقية إنها ما اتنفذتش.. جرى إيه؟ إيه الحكاية؟! محزنة في الأسرة الهاشمية في عمّان.. إيه الحكاية؟ قالوا مصر ما قامتش تساعد سوريا.. الملك حسين هو وعيلته زعلانين قوي، وطيب خدوا بقى موضوع للدعاية، وإزاي مصر.. طيارات مصر ما راحتش تساعد الطيران السوري.. طبعا معروف إن الطيارات المقاتلة مداها محدود، وطياراتنا المقاتلة ما توصلش إلى حدود سوريا … إحنا عملنا اتفاقية دفاع مع سوريا، وقلنا إن إحنا مستعدين … إن إحنا ننفذ هذه الاتفاقية وبنقف مع سوريا، وبنقف مع الشعب السوري.. الشعب السوري زي الشعب المصري، وأي شعب عربي زي الشعب المصري، ولا يمكن بأي حال من الأحوال إن إحنا نفرط في هذا، لكن إذا حصل اشتباك في الجو بين سوريا وإسرائيل ما نقدرش نطلع من مصر نساعد. … الطريقة الوحيدة عشان نساعد سوريا إن يكون لنا طيارات في سوريا ومن أول ما وقعنا هذه الاتفاقية قلنا لاخواننا السوريين احنا مستعدين لأي مساعدة، إذا عايزين طيارات أو عايزين طيارين .. واخواننا السوريين قالوا إن عندهم كفاية ولهذا اطمأنينا
من خطبة عبد الناصر في اول مايو ١٩٦٧
وينتهي عبد الناصر إلى القول إن العاهل الأردني يجب أن يرحل أو “يطير” لأنه: “بيبص لنا إحنا كأعدائه، وبيبص لإسرائيل كأصدقائه، وإسرائيل بتقول إنها لا توافق على تغيير النظام اللي موجود في الأردن – اللي هو نظام الملك حسين – والثوار العرب بأفكارهم الثورية ونداءاتهم الثورية لازم بيطير الملك حسين، يبقى بالطبيعة أن الملك حسين قلبا وقالبا بيكون موجود مع إسرائيل.”[7]
وتطورت الأحداث بعد خطبة ناصر في عيد العمال سريعا، حتى أوقف الأردن كل الحملات الدعائية ضد مصر، بسبب الضغط الشعبي، واستجابة أيضا لنصائح السفير الأمريكي الذي ابلغ واشنطن في ٢١ مايو ١٩٦٧ أن رئيس الوزراء جمعة “استدعى وزير الإعلام في وقت مبكر صباح اليوم وابلغه أنه يتعين على الصحافة والإذاعة الأردنية من الآن فصاعدا الامتناع عن حث ناصر على شن أعمال عسكرية ضد إسرائيل أو أغلاق خليج العقبة.”[8]
وأضاف السفير في تقرير بعد يومين أن الأردن توقف عن دفع “ناصر إلى مهاجمة إسرائيل وإغلاق خليج العقبة بسبب رغبة الأردن في عدم إثارة غضب ناصر في الوقت الحالي.. حكومة الأردن تشعر بضرورة أن تتخذ خطوات تهدف -على الأقل ظاهريا- إلى إنهاء عزلتها والانضمام إلى صفوف الدول العربية الأخرى خصوصا مصر، ويعتقد المسؤولون الأردنيون أن ناصر استعاد هيبته بصورة درامية بسبب تطورات الأحداث في الأيام الأخيرة.” [9]
توقفت الحملات الدعائية الأردنية الداعية لإغلاق خليج العقبة وحرمان إسرائيل من استعمال مينائها الوحيد في البحر الأحمر، في اليوم ذاته الذي قام فيه عبد الناصر بهذه الخطوة نفسها، وبات الملك حسين مجبرا على الدخول في حرب طالما دعت إليها أجهزة إعلامه وتحاشاها هو وجيشه عارفا أنه سيخسرها بسبب ضعفه العسكري. ودعا الملك حسين إلى حرب لإنه كان يعتقد أن هذه الدعوة قد تحرج ناصر الذي كان من وجهة نظر عمّان يتحاشى حرباً قد يُهزم فيها، لكن معظم الشعب الأردني الفلسطيني الأصل كان يريد حربا بحق على أمل أن يضع نهاية لمأساة تدخل عامها العشرين. وصار الملك حسين في موقف حرج بعد غارة السموع الاسرائيلية المهينة في نوفمبر 1966 خاصة وان بعض رجال قواته المسلحة وخاصة القوة الجوية الصغيرة لانهم مضطرون للقتال بمعدات لا تصلح وطائرات قديمة متهالك من طراز هوكر هنتر الانجليزية البطيئة حتى ان خيارهم صار إما البقاء عاجزين على الارض او الانتحار في مواجهات في السماء مع الطائرات الاسرائيلية. وفي جناز احد الطيارين الاردنيين الشجعان الذي كانت طائرته واحدة من اربع طائرات اردنية سقطت بعد غارة السموع في مواجهات مع الاسرائيليين سُمعت انتقادات موجهة للملك والميزانية المخصصة لنفقاته الشخصية واهتمامه بعرشه اكثر من وطنه، ووصلت هذه التقارير للعاهل الأردني وهو سياسي محنك. وفي مدينة الخليل القريبة من قرية السموع خرجت مظاهرات تهتف ضد الملك حسين وضد امريكا وضد سوريا ومصر لانها لم ترسل طائراتها لحماية الفلسطينيين، وانتشرت المظاهرات الى نابلس والقدس، وفرض الملك الاحكام العرفية.
وهكذا أضطر الملك حسين للقفز في قارب الحرب متأخرا حتى لا يخسر على كل الجبهات، فوصل القاهرة في نهاية شهر مايو ليعقد معاهدة دفاع مشترك مع مصر بعد أسابيع قليلة من إهانات مقذعة وجهها له الرئيس عبد الناصر.
ظاهريًا توحّد الصف العربي قبل الحرب بأيام قليلة، على الأقل تحت تأثير الدعم الشعبي المتصاعد لموقف عبد الناصر، الذي أدى إلى تصاعد الضغط على عمَّان والرياض. ففي 21 مايو طردت دمشق اثنين من الدبلوماسيين السعوديين وسط اتهامات للرجعية العربية. ثم انفجرت سيارة مفخخة في الرمثا بالأردن قرب الحدود السورية، فقتلت 21 أردنيًا وجرحت نحو 15 آخرين. اتهمت عمَّان دمشق بتورط أجهزة مخابرات سورية في حادث الرمثا، وطردت السفير السوري واستدعت القائم بالأعمال الأردني من دمشق. لكن سريعًا، وتحت الضغط، عدّلت عمّان والرياض المسار، ودعت الرياض العالم العربي كله إلى الاحتشاد خلف دمشق والقاهرة. ساهم هذا التوحد شبه الإجباري (إذ لم تغيّر الأردن والسعودية مواقفهما الأصلية المعادية لسياسات عبد الناصر في اليمن وللعمل الفدائي الذي بات يهدد استقرار الأردن كدولة) في تعميق حدة الانتقادات الإسرائيلية لرئيس الوزراء والضغط عليه للتحرك عسكريًا لإجهاض الضربة المصرية المتوقعة.
وصل الملك حسين الى القاهرة في يوم ٣٠ مايو ومعه رئيس الحكومة جمعة ورئيس الأركان اللواء عامر قاسم وقائد الطيران اللواء صالح الكردي، وكان الملك يرتدي زيا عسكريا ويحمل على خصره مسدس بينما استقبله عبد الناصر في بذلة مدنية، وبادره بالمزاح قائلا انه يمكن ان يعتقله في الحال خاصة وان الزيارة سرية. وفي قصر القبة انضم اليهما المشير عامر الذي بادر الملك بالقول ان مصر لا تحتاج اي دعم عسكري من الاردن، ومن ناحيته طلب الملك حسين نسخة من معاهدة الدفاع المصرية السورية ثم وقع على معاهدة مماثلة. ويقول الملك في مذكراته، “حربنا مع اسرائيل”، انه اكتفى بقراءة سريعة لهذه المعاهدة “وقلت لبعد الناصر اعطني نسخة اخرى لنضع كلمة الأردن محل كلمة سوريا، وينتهي الأمر، ووافق عبد الناصر ووقعت … ودخل علينا عبد المنعم رياض مساعد رئيس هيئة اركان حرب القيادة العربية الموحدة ليدير العمليات الحربية في الأردن، وعند عودته إلى عمّان صار علينا أن نحاول الإرتجال ردًا على العمليات العسكرية الاسرائيلية المتوقعة ، فلم يكن للعرب خطة عمليات موحدة.”
وانضم رياض إلى نائب رئيس الجمهورية زكريا محي الدين ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء أمين هويدي في وفد قام بزيارة الكويت والعراق وسوريا والجزائر من ٣١ مايو حتى الثاني من يونيو. وأيد المسؤولون في كل هذه البلاد موقف القاهرة ووعدوها بالمساعدات بل وقال الرئيس الجزائري هواري بومدين أن الوقت قد حان “لإزالة رأس الدبوس” أي اسرائيل، إلا أن “عدم الثقة المتبادل كان أعمق من ان تزيله التهديدات القائمة، كما ظهر أيضا أنه لا جدوي حقيقية لهذ النوع من التنسيق الذي يتم بشكل عابر وبلا تخطيط مسبق. (أمين هويدي، “حرب ١٩٦٧: أسرار وخبايا”، ص. ٦٥).
فيصل وحسين و”الملحوس” وشاه إيران أدوات في يد أمريكا
ورغم أن عبد الناصر كان يركز في شتائمه على الزعماء والقادة العرب فيما كان يسميه بالنظم الرجعية، حتى أواخر مايو عندما لاحت نذر الحرب جدية واصطفت الحكومات العربية ورائه، فإنه كان يرى يد واشنطن فوق أيديهم. ويختتم الزعيم المصري خطاب عيد العمال المهم في ١٩٦٧ قبل خمسة أسابيع من هزيمة يونيو، مشيرا إلى الخطة الأمريكية الكبرى التي تقف وراء كل هذه النظم ووراء إسرائيل:
“المعركة اللي إحنا بنحاربها معركة مش سهلة .. معركة كبيرة ومعركة تقودها أو تشارك فيها أمريكا؛ أكبر قوة في العالم، والحقيقة إن معركتنا ماهياش مع فيصل ولا مع حسين، ولا مع الملحوس بورقيبه.. أبدا بأي حال من الأحوال، ولا مع شاه إيران، دول كلهم أدوات.. أدوات بيشغلّوهم الأمريكان.”[10]
خطبة عبد الناصر في عيد العمال، أول مايو ١٩٦٧
وجاءت خطبة ناصر في نفس الوقت الذي نشر فيه هيكل سلسلة مقالات في الأهرام تنتقد أمريكا وتتهمها بالوقوف خلف مشاكل مصر. وكان ناصر وهيكل يعبران عن نظرية منتشرة بين كبار رجال الحكم في مصر، مدنيين وعسكريين، وكررها عدد منهم في كتبه ومذكراته، وهي تجعل الولايات المتحدة السبب الجذري والأصيل لكل التحديات التي تواجه مصر. وظلت المشكلة في هذه الخطبة وتلك المقالات هي اغفال عدة مستويات انطلاقا من مقدمات معقولة وحقيقية بشأن العداء الامريكي للانظمة اليسارية الميالة للتقارب مع عدوها السوفيتي ووصولا لتورط واشنطن في اعمال عدائية ضد هذه الانظمة. واهمل اصحاب هذه النظرية التفاصيل وتعقيدات بعض المواقف الدولية وفضلوا وجهة نظر ثنائية، ربما تأثرا بالحرب الباردة، تصبح معها أمريكا ضدنا على طول الخط، إن لم تقف جانبنا طول الوقت.
وكانت واشنطن وعدد وافر من كبار مسؤوليها في إدارة جونسون، تقف منذ أواخر ١٩٦٣ ضد سياسات مصر الخارجية، خصوصا في اليمن وتجاه السعودية وإسرائيل والأردن وفي أفريقيا، لكن ليس طوال الوقت، ولا توجد أي أدلة معقولة أو موثقة على أن جونسون نفسه وافق على أو سعى إلى اغتيال ناصر أو أنه منح إسرائيل ضوء أخضر لضرب مصر. كان هناك شعورًا معاديًا لناصر بين بعض كبار المسؤولين الأمريكيين المؤثرين على رسم السياسة الخارجية، لكن السياسة الرسمية للحكومة تجاه النظام الناصري كانت تقوم على الحياد بمعنى أنها غير معنية بما يحدث داخل مصر ومن يسيطر على السلطة فيها طالما كان الوضع مستقرا. وتركزت خلافات واشنطن مع القاهرة على سياسات مصر الإقليمية و“مغامرات ناصر في الخارج، خصوصا أنشطته في شبه الجزيرة العربية”.[11]
سعت سياسات مصر تحت حكم ناصر لتثوير الوضع القائم في المنطقة، بل والعالم، بينما رغبت امريكا معظم الوقت في الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط ومنع دخول الاتحاد السوفيتي له، وعاش الطرفان فترة وفاق صارت هشة مع رفض واشنطن تزويد مصر بأسلحة طلبتها، ورغم التدخل الأمريكي الذي ساهم بشكل رئيسي في إخراج مصر من براثن العدوان الثلاثي في ١٩٥٦، جاء اعتراف مصر بالصين ومعارضة واشنطن لتمويل البنك الدولي للسد العالي ليحطم الآمال الوليدة في بناء علاقات ودية.
وفاقم من التوجس المشترك إقرار مبدأ ايزنهاور للعمل ضد الدول الشيوعية وحماية الدول المحافظة، والذي في ضوئه نظرت واشنطن بمزيد من الشك والارتياب لدعم مصر للقوى الثورية في المنطقة ضد نظم محافظة في العراق ولبنان والسعودية، وكانت فرصة القاهرة وواشنطن الأخيرة هي وصول كنيدي للحكم في ١٩٦١ والعلاقة الودية التي نشأت بينه وبين ناصر، لكن الأشخاص بمفردهم لا يحركون التاريخ، إذا لم تكن هناك تغيرات حقيقية في المؤسسات والسياسات التي خلقت التوتر الأساسي في العلاقات.
ساهم وجود كنيدي في تغاضي واشنطن طوال سنتين عن التدخل المصري في اليمن رغم الانزعاج السعودي الشديد، لكن اغتيال كنيدي أنهى هذه الفترة الودية ونزع عنها العامل الشخصي، بل عكسها إذ لم يكن لدى الرئيس الجديد جونسون صبرا على بلد كان يتلقى مساعدات أمريكية ليست بالقليلة وصفقات قمح تفضيلية، وفي نفس الوقت يشاكس حلفائه ويهدد إسرائيل.
وكانت أمام القاهرة فرصة أخيرة لتغيير سياستها أو تهدئتها (في اليمن أو غيرها) في عامي 1964 و1965، لكنها مضت معظم الوقت في طريقها، خصوصا على صعيد التصريحات والجهود الدبلوماسية، ولم تحاول القاهرة كسب ود واشنطن التي كانت منحازة لحد ما (أقل بكثير من الوضع الراهن) إلى إسرائيل، ولم يكن المدهش هو أن واشنطن بدأت في الضغط على مصر في 1965، بل إنها لم تبدأ هذا الضغط في السنوات السابقة.
وفي هذين العامين بدأت واشنطن في الضغط المتزايد على القاهرة وتقليل المساعدات والمعاملة التفضيلية في صفقات القمح الأمريكي، الذي كان يمثل أكثر من نصف استهلاك مصر، وبالتوازي بدأت في تسليح إسرائيل – مباشرة- بصواريخ مضادة للطائرات، ثم حثت ألمانيا على بيع دبابات لإسرائيل في عام ١٩٦٥ وبعدها باعت طائرات سكاي هوك لتل أبيب.
كانت العلاقات المصرية الأمريكية في نفس الوقت تتعرض لهزات ثانوية، لكنها متتالية ومريبة مع حريق السفارة الأمريكية أواخر ١٩٦٤ على يد متظاهرين (إما أن أجهزة الأمن المصرية حركتهم أو تغاضت عنهم) ثم اسقاط طائرة رجل نفط أمريكي صديق للرئيس جونسون بعد ذلك بأسابيع (لم يكن الرجل على متنها) وتصريحات ناصر العنيفة في خطبه والتي منحت المعادين لمصر في الإدارة الأمريكية ذخيرة إضافية من أجل سياساتهم التي كانت تدعو لتصعيد الضغط على القاهرة.[12]
يمكن الاطلاع على الوثائق الأمريكية الرسمية في مبنى الأرشيف الوطني الأمريكي في حي كوليدج بارك بالقرب من جامعة ميريلاند على بعد ٤٠ دقيقة بالمواصلات العامة من قلب العاصمة واشنطن. وتوجد هناك ملايين البرقيات السرية ومحاضر الاجتماعات والخطابات المرسلة من الديبلوماسيين الأمريكيين وعملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وخبراء وزارة الدفاع الأمريكية وغيرهم. الجزء الذي يهمنا هنا يوجد في السجل العام رقم 59، وهو الذي يضم وثائق وخرائط وصور وزارة الخارجية الامريكية وجزء كبير منه متاح فعليا على الانترنت هنا. والأرشيف مفتوح لأي شخص يملك وثيقة هوية رسمية (رخصة قيادة، هوية طالب، جواز سفر) بغض النظر عن الجنسية، ووفقا للقانون يجب نشر كل الوثائق بعد 25 سنة على الأكثر من صدورها، بعد أن تقوم لجنة رسمية بالنظر فيها وحذف بعض الأجزاء والفقرات بدعوى اعتبارات حماية الأمن القومي الأمريكي، ويظل من حق أي مواطن بمقتضى قانون حرية المعلومات أن يطلب الإفصاح عن هذه الاجزاء المحذوفة أو عن وثائق لم يفرج عنها بعد، بناء على طلب يقدم إلى إدارة حرية المعلومات في كل هيئة حكومية. غير أن هذه المسالة تنطوي على عملية قانونية معقدة، وتحتاج – أحيانا- إلى محامين وتستغرق وقتا طويلا، وإن كانت نتائجها في أحيان كثيرة إيجابية للغاية، وإضافة إلى الأرشيف الوطني، فالبحث عن مرحلة حرب ١٩٦٧ وما قبلها وبعدها، تقتضي أيضا زيارات إلى مكتبة الرئيس لندون جونسون في مدينة أوستن بولاية تكساس، إذ تضم مجموعة منتقاة من برقيات الخارجية، إضافة إلى مذكرات البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي.
مصادر الوثائق الرسمية الامريكية
الأجزاء الأخرى في الدراسة:
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الأول)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثاني)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الرابع)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الخامس)
هوامش:
[1] نظمت إسرائيل جسراً جوياً لمدة عامين شمل ١٤ طلعة بطائرات نقل ضخمة لإسقاط أسلحة وذخائر وأدوية وأموال للأمام محمد البدر وقواته لمساعدته ضد القوات المصرية المؤيدة للضابط اليمني القومي الميول المشير عبد الله السلال الذي انقلب على حكم الائمة في اليمن. وتم الاتفاق على الجسر مع بريطانيا والسعودية في عملية سمّوها “القنفذ” وفيها حلقت الطائرات الإسرائيلية فوق الاراضي السعودية تفاديا لكشفها أو تعرضها لنيران الطائرات المصرية. لمزيد من التفاصيل انظر Oren Kessler, “When Israel Helped Yemen’s Shiites”, Politico Magazine (April 21, 2015). Retrieved on May 28, 2015 at http://www.politico.com/magazine/story/2015/04/israel-yemen-shiites-117208.html#ixzz3bQImuLL1
[2] خطابات عبد الناصر على موقع مكتبة الإسكندرية والخطاب الرئيسي المقتبس هنا القاه الرئيس في فبراير ١٩٦٧، ومتاح على nasser.bibalex.org/Data/website%20html/Nasser/Nasser–Protect/website/0024/0053/0069/670222.htm
[3] Richard Parker, “The Politics of Miscalculations in the Middle East”, p. 80
[4] البرقيات المتبادلة بين عمان وواشنطن في تلك الفترة محفوظة في الأرشيف القومي الأمريكي. وبرقية الوزارة المشار إليها تحمل رقم 198923 بتاريخ ٢٠ مايو في ملفات الخارجية الأمريكية في المجموعة ٥٩ في الأرشيف الوطني وهي مرسلة من قسم الشرق الأدنى بوزارة الخارجية إلى السفارة في عمان بينما تحمل برقية السفير بيرنز رقم 021472 بتاريخ ٢١ مايو.
[5] Parker, pp. 50
[6] Albert Hourani, “A History of the Arab Peoples”, pp. 408-413
[7] الخطبة المشار اليها في فبراير 1967 في الهامش أعلاه من أرشيف مكتبة الاسكندرية
[8] برقية مرسلة من السفير الامريكي في عمان إلى وزارة الخارجية بتاريخ 21 مايو 1967 وتحمل رقم 021670 في الأرشيف القومي الأمريكي.
[9] برقية مرسلة من السفير الامريكي في عمان إلى وزارة الخارجية بتاريخ ٢٣ مايو ١٩٦٧ وتحمل رقم 023277 في الأرشيف القومي الأمريكي.
[10] خطبة عبد الناصر في عيد العمال ٢ مايو ١٩٦٧ ومتاحة على http://nasser.bibalex.org/Speeches/browser.aspx?SID=1214&lang=ar
[11] Parker, pp. 100
[12] نفس الكتاب، ص ١٠٤-١٠٦
[13] يعتمد الجزء الخاص بإسرائيل في هذا الفصل كثيرًا على كتاب مايكل أورين ووثائق الأرشيف والأمريكي. لمزيد من التفاصيل يمكن الاستعانة بمذكرات قادة إسرائيل إبّان حرب 1967 مثل رئيس الوزراء آشكول، ووزير الدفاع موشي دايان، ورئيس الأركان إسحق رابين، ورئيس المخابرات مائير أميت، ورئيس المخابرات الحربية أهارون يارييف، والقادة العسكريين حاييم بارليف وآرييل شارون ورفائيل إيتان.
[14] Richard Parker, The politics of Miscalculation, pp.112-115.
[15] Michael Brecher, Decisions in Crisis: Israel 1967 and 1973 (Berkeley & Los Angeles: University of California Press, 1980).
[16] Michael Oren, Six Days of War, p.77.
[17] Michael Oren, Six Days of War, pp.80-81.
نادر
” أما تعداد مصر فكان يفوق إسرائيل بنحو 12 مرة، ولكنها كانت أضعف اقتصاديًا. إذ كان متوسط دخل الفرد في إسرائيل يقترب من تسعة أضعاف نفس المتوسط في مصر. ”
كان واضح من ساعتها الاتجاه رايح فين!