الثورة في ذكراها التاسعة.. كيف نقرأ ما حدث؟ (1-3)

Facebook
Twitter
LinkedIn

نُشر في مدى مصر بتاريخ ٢١ يناير ٢٠٢٠

(مع الذكرى التاسعة لثورة يناير 2011 أقدم اشتباكًا مع سياق الثورة العام ومحطاتها الأساسية ومآلاتها يتخذ من كتاب «ثورة يناير: رؤية نقدية» (دار المرايا – 2020) مدخلًا للمناقشة. الكتاب شارك فيه عمرو عادلي وعلي الرجّال ومحمود هدهود، وحرره عمرو عبدالرحمن)

بعد أيام تأتي الذكرى التاسعة لاندلاع أكبر احتجاجات وأوسعها تأثيرًا في تاريخ مصر الحديث، عندما خرج الملايين للشوارع احتجاجًا، في بداية الأمر، على العنف والقمع والسيطرة البوليسية المفرطة، ثم ضد حسني مبارك الذي تولى السلطة قبل تلك الانتفاضة بثلاثين سنة. كان خروج مئات الآلاف من الأشخاص في 25 يناير 2011 إلى شوارع القاهرة ثم شوارع عديد من المدن المصرية مفاجئًا لمن أطلقوا دعوة للاحتجاج على صفحة فيسبوك لم يكن عدد معجبيها يزيد عن 350 ألف شخص. أراد أصحاب صفحة «كلنا خالد سعيد»، المسماة نسبة للشاب الذي قتله رجال أمن بشراسة في ربيع 2010، أن يخرج الناس للتنديد بالتعذيب المستشري والذي زرع الخوف وعمّق شعورًا بالذل بين المواطنين.

وكان مقتل سعيد، الشاب العشريني ابن الطبقة الوسطى، شرارة أشعلت مشاعر غضب تضخم في سنوات بفعل الإحباطات الاجتماعية والاقتصادية وتآكل شرعية النظام الحاكم، وخاصة مع ازدياد التأثير السلبي لسياسات رفع الدعم والخصخصة.

كانت الشرطة تحكم غطاء هذا البرميل المتفجر وتبدو مسؤولة عن تردي الأوضاع حيث كان جهاز أمن الدولة، آنذاك، يتدخل في كل السياسات والقرارات المهمة، من حصص التموين المدعم إلى تعيين رؤساء تحرير وأساتذة جامعة وترتيب الانتخابات المحلية وترشيح أعضاء البرلمان.

لم تكن مصادفة أن وافق يوم المظاهرة نفس يوم عيد الشرطة المصرية.

هذا العيد، الذي أصبح عطلة رسمية في مصر منذ 2009، يكرس أهمية جهاز شرطة، كانت مهامه منذ نشأته، وبصفة خاصة منذ منتصف الخمسينيات، تضم الحفاظ على أمن النظام، وتعقب المعارضة السياسية، وضبط المجتمع والشارع. وكان المثال الأوضح على هذا يتجلى في عمل مباحث أمن الدولة وقوات الأمن المركزي، التي نشأت بعد هزيمة 1967 ثم تضخمت أدوارها وصارت ملمحًا ثابتًا في الشارع المصري، بشاحناتهم المتوقفة في المواقع المفصلية في المدنية وأمام بوابات الجامعات ونقاط تفتيش الشرطة في مداخل المدن، وعند الأبنية الضخمة شديدة الحراسة لأمن الدولة، ومعسكرات الأمن المركزي على أطراف المناطق حضرية.

ورغم تصاعد الاحتجاجات العمالية والاجتماعية منذ 2003 لم تستطع، أو ترغب، أي قوة سياسية منظمة بما فيها الإخوان المسلمين تفجير احتجاج واسع النطاق مثلما فعلت صفحة خالد سعيد التي أطلقها وائل غنيم وعبدالرحمن منصور في يونيو 2010. وسرعان ما انضم يساريون وليبراليون وشباب من الإسلاميين للاحتجاجات في يوم الجمعة 28 يناير، وفي وقت متأخر تلك الليلة قرر مكتب الإرشاد أن ينضم الإخوان المسلمين كجماعة للاحتجاجات.

احترقت القاهرة في 26 يناير 1952 بعد ساعات من مقتل 41 رجل شرطة في الإسماعيلية بعد مقاومة باسلة لحصار شارك فيه ثمانية آلاف جندي بريطاني. وفي ذلك اليوم التهمت الحرائق نحو 700 محل وسينما وفندق ونادي ومكتب خاصة في وسط العاصمة. واشتعلت القاهرة في 28 يناير 2011 وسرى فيها وفي مدن كبرى أخرى غضب شعبي عارم حيث أُحرقت وهوجمت عديد من أقسام الشرطة ومقار مباحث أمن الدولة في ذلك اليوم والأيام التالية حتى أوائل فبراير.

كل هذا بات تاريخًا مهددًا حيث تختفي أرشيفات مواقع ومدونات وصحف وبرامج تلفزيونية على الإنترنت، بل ويجري خلق تاريخ بديل زائف مشوه الوقائع بات يجد طريقه إلى الكتب المدرسية وموقع ويكيبيديا وتعليقات الصحف.. التاريخ وفهمه في نهاية المطاف هو نفسه صراع سياسي واجتماعي، وليس مجرد تطبيق لقواعد أكاديمية فحسب.

استجاب عشرات الآلاف من المعجبين بصفحة غنيم ومنصور لدعوة لفعالية سماها منصور «عيد الشرطة في مصر» في أواخر ديسمبر 2010، ثم غير غنيم اسمها في منتصف يناير بعد سقوط الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي إلى «ثورة على التعذيب والبطالة والفساد والظلم».

لم يتوقع الاثنان أن يشارك مئات الآلاف ثم الملايين في اﻷيام القليلة التالية، وأن يتغير وجه مصر السياسي.

لا شك أن صفحة «كلنا خالد سعيد» بلورت وأطرت وقدمت تكتيكات تلقفها الشارع العريض. ولكن لماذا كان الشارع جاهزًا للانتفاض؟ وماذا نعني عندما نقول «الشارع»؟ ولماذا فعل الإخوان ما فعلوه؟ وما هي تلك التيارات المدنية التي تجمعت مرة تحت رايات «كفاية» ومرة أخرى تحت راية «الجمعية الوطنية للتغيير» ثم تحت راية «جبهة الإنقاذ» ثم احتلت مقاعد عدة في أول حكومة عقب الإطاحة بحكم الإخوان قصير العمر في يوليو 2013؟

من هذه الأسئلة تنبع أهمية كتاب «ثورة يناير .. رؤية نقدية»، الذي صدر هذا الشهر عن دار المرايا في القاهرة ويشمل أربع دراسات مهمة تحليلًا ووصفًا لما حدث في السنوات القليلة السابقة والتالية على الثورة. تضافرت عوامل كثيرة يفصّلها الكتاب لخروج الاحتجاجات، ثم لإعادة تفنيط أوراق النظام وسياساته دون تغيير جذري فيهما، ثم وضع المؤسسة العسكرية في قلب إدارة العملية السياسية مرة أخرى بعد أعوام طويلة في الكواليس.

يشرح الكتاب خيارات ثلاث مجموعات ساهمت في تشكيل مسار الثورة وهي: الطبقة الرأسمالية العليا والإخوان المسلمين وما يسمى بالقوى المدنية، ولكنه لا يتعرض بوضوح لخيارات ومواقف واستراتيجيات المؤسستين العسكرية والأمنية المسيطرتين على مقاليد العنف «القانوني».

يغوص عمرو عادلي في خيارات الطبقة الرأسمالية التي ضمت عائلات راكمت سلعًا وخدمات حقيقية مثل ساويرس ومنصور والسويدي والعربي، وأخرى شاركت أكثر في صناعات وسيطة وخدمات واستثمارات مالية وعقارية مثل دياب وهيكل وغبور وطلعت مصطفى وبهجت. وصار بعض أفراد هذه الطبقة وزراء ورجال سياسة بعد تولي أحمد نظيف رئاسة الوزراء في 2004 مثل رشيد محمد رشيد وأحمد عز.

ويحتج عادلي أن هذه المجموعة الرأسمالية، على عكس ما يدعيه مفكرون ينتمون للتيارات اليسارية والقومية، ليست مجرد قوى قائمة على السلب والنهب والاستفادة من خصخصة ممتلكات الدولة والقطاع العام والسياسات المنحازة، من أمثال المليارديرات حسين سالم (صديق مبارك الذي عمل في قطاع الغاز) ورشاد عثمان سمسار الأراضي والخشب (صديق السادات).

إضافة إلى هؤلاء الخارجين من رحم أجهزة الأمن والدولة أو المضاربين والسماسرة منتهزي الفرص، كان هناك أيضًا قطاع كبير ومتنام من الرأسماليين يقوم على إنتاج سلع وخدمات حقيقية للاستهلاك المحلي أو التصدير، وكان ذلك القطاع «مدعومًا بشبكات معولمة، سواء من خلال صلاتهم مع أسواق المال العالمية والإقليمية (بلدان الخليج النفطية) أو مع مؤسسات التمويل الدولية، كبنوك الاستثمار والبنك وصندوق النقد الدوليين.. وحركة تدفقات رؤوس الأموال والسلع والأفراد والأفكار والقناعات الايدلوجية من ناحية أخرى». ومن بين هؤلاء كانت هناك عائلات قديمة تعود ثرواتها لما قبل هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية في الخمسينيات أو بدأوا في بناء ثرواتهم في السبعينيات مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، أو أغنياء جدد بفعل السمسرة والمضاربات والوساطة.

دافعت هذه الطبقة الرأسمالية من خلال مواقعها الجديدة في أروقة السلطة في الحزب الحاكم ومجلس الشعب ومجلس الوزراء عن سياسات اقتصادية ومالية تستهدف جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتعظيم الصادرات السلعية ورفع معدلات الاستهلاك عن طريق خلق الوظائف وزيادة الدخول.

ومن الناحية السياسية سعت هذه الطبقة إلى استقلالية أكبر عن بقية المجموعات الاجتماعية في البلد، وعن مؤسسات الدولة وجهازها البيروقراطي وأجهزتها الأمنية النافذة. وذلك من أجل وضع ومتابعة سياسات تعيد تشكيل دور الدولة لخدمتهم، لتسهل عليهم الاحتكار المحلي وتمنحهم حمايات جمركية ودعمًا لأسعار الطاقة وتسهيلات في استغلال الأراضي.

هذا الذي يمكن دعوته فسادًا، لا يختلف في الحقيقة كثيرًا عما حدث في كوريا الجنوبية وما زال يحدث في الصين أو روسيا وغيرها من الدول التي أنجزت تحولًا نحو الرأسمالية. ولكن المشكلة أن ما حدث في السبعينيات والثمانينيات في بلدان أخرى لم يكن من السهل تكراره في مصر في ما بعد، كما أن هذه الدول اتجهت للتصنيع الواسع وتوطين التكنولوجيا واندمجت حقًا في قلب الاقتصاد العالمي.

مع الوقت، تناقص اعتماد هذه المجموعة الرأسمالية الجديدة على الريع الحكومي المباشر (الناتج عن السياسات الحمائية والاحتكارات)، بل وبات معظمهم مثل شركة السويدي إليكتريك تملك أصولًا خارج البلاد أكثر من داخلها، أو سجلت أسهمها في بورصات دولية وليست داخل مصر مثل شركات ساويرس، وفقًا لما كتب عادلي.

ونجحت سياسات هذه المجموعة الاقتصادية في الفترة بين 2005 و 2010 في زيادة معدلات النمو الإجمالية السنوية والصادرات الصناعية والاستثمارات الأجنبية لمستويات غير مسبوقة، ولكن على عكس ما حدث قبل عدة عقود في جنوب شرق آسيا والصين، فشلت هذه السياسات في مصر في خلق وظائف جيدة كافية، بل وزاد الفقر والتفاوت الطبقي وتدهورت الخدمات العامة وارتفعت تكاليف الرعاية الصحية والتعليم والإسكان لمعظم السكان.

ونتج بعض هذا الفشل من جراء تركيز الطبقة الرأسمالية على قطاعات البناء والعقارات والخدمات المالية والاتصالات وتجميع وتركيب السيارات والإلكترونيات، وهي كلها قطاعات ليست في معظمها موجهة للتصدير وغير قادرة على المنافسة العالمية، ولم تخلق حركة تصنيع كثيفة العمالة تضيف قيمة كبيرة على منتجاتها أو تخلق سوق واسع للعمال المهرة. وهكذا لم تعتمد مصالح تلك الطبقة الرأسمالية بشكل واضح على تطوير وتحسين مستويات التعليم والرعاية الصحية والإسكان لخلق وتمكين طبقة عاملة ماهرة تحتاجها. لم يحتاج هؤلاء الرأسماليون في معظم الأحوال لعمال مهرة أصحاء يتعين تنظيم علاقات العمل معهم بشكل مرضي نسبيًا للطرفين، وكانت الحاجة الرئيسية هي السيطرة على هؤلاء العمال.. وهذه مهمة أمنية.

واستمرت الدولة بأجهزتها الأمنية والبيروقراطية المتهالكة مسؤولة عن إبقاء قطاعات التعليم والصحة لهذا الخزان البشري الضخم والمتزايد على قيد الحياة بالكاد. والأهم، إحكام السيطرة عليه وضبطه والحيلولة دون غضبه وامتعاضه.

وبحلول عام 2010 وانتخابات مجلس الشعب فاضحة التزوير لصالح هذه الطبقة الرأسمالية المسيطرة على لجنة السياسات سيئة السمعة في الحزب الوطني الحاكم (المنحل)، أحيلت السيطرة تمامًا لصالح هذه المجموعة من النيوليبراليين (سواء كانوا تقنوقراط أو رجال أعمال). وهكذا تسيدت هذه المجموعة في قطاعات ووزارات المالية والاقتصاد والاستثمار والصناعة والتجارة والاتصالات والمواصلات والزراعة والسياحة والإسكان والصحة والبنك المركزي، إضافة للسيطرة على مفاصل الحزب وأغلبية مقاعد البرلمان.

انضوى كل هذا تحت مظلة التوريث في مشروع سياسي غير مسبوق في مصر منذ أربعينيات القرن الماضي. وبات جهاز أمن الدولة ووزارة الداخلية عمومًا تحت قيادة الوزير السابق حبيب العادلي جزءًا مهمًا من هذا المشروع.

أضرت سياسات هذه المجموعة من رجال الأعمال بالسواد الأعظم من الشعب الذي لم تتساقط عليه ثمار التنمية. ولم تسع هذه المجموعة إلى تشكيل أحزاب وجماعات ضغط تتحالف مع طبقات أو فئات أخرى من المجتمع، بل ارتكن مشروعهم السياسي على دعم جمال مبارك وريثًا للعرش الجمهوري. وكان هذا الخيار قصير النظر نقطة الضعف القاتلة في هذا المشروع، الذي ذاب واختفى بعد ثورة يناير 2011 الآتية على أكتاف سياساتهم الاقتصادية السلبية أو بسبب مخاوف أجهزة الدولة الأمنية وبيروقراطيتها من تقلص سلطاتهم ونفوذهم وبالتالي ثرواتهم.

كان مشروع تلك الطبقة الرأسمالية كما يرى عادلي هو «الولوج إلى لب السلطة السياسية بأقل التكاليف، وبدون الخوض في مسألة إنشاء مجال سياسي حقيقي»، ولم يكن ذلك الخيار الأخير سهلًا بدوره بسبب «ارتباط حظوظ مشروع الطبقة الرأسمالية السياسي بأسرة مبارك وميراثه كديكتاتور فاسد ضعيف الإنجاز حكم لمدة ثلاثة عقود … و(أضعف) غياب أي مجال سياسي.. من فرص تعبئة وحشد وتحريك قواعد اجتماعية واسعة لإحداث التغييرات المطلوبة في دور الدولة».

ومع تعثر المشروع النيوليبرالي العالمي في أزمة 2008 وتزايد معدلات الفقر وارتفاع معدلات التضخم وتصاعد الحراك الاحتجاجي السياسي، مترافقًا مع الاحتجاج الاجتماعي على مشاريع الخصخصة وتحفز وقلق المؤسسة العسكرية من جمال وحوارييه، فتحت هذه الطبقة الرأسمالية أحد الطرق المؤدية إلى ثورة يناير 2011 التي فككت النفوذ السياسي الصاعد لرجال الأعمال تمامًا، ولكنها لم تقلص كثيرًا نفوذهم الاقتصادي بسبب أصولهم الفعلية الضخمة وكون الدولة نفسها قررت المضي قدمًا بل أسرع في السياسات النيوليبرالية.

هناك كتابات قليلة أخرى مهمة تحاول شرح ما جرى من منظور الاقتصاد السياسي في مصر، ولعل أشهرها كتاب جلبير الأشقر «الشعب يريد» (2013) والذي ركز أكثر على الاضطرابات الاجتماعية الناشئة عن السياسات الاقتصادية في ظل حكومة نظيف، قبل أن يخلص فيه إلى أن الأزمة ما زالت قائمة بعد الثورة لأن «مرسي وحكومته ومن ورائهما الإخوان المسلمين يقودون مصر إلى كارثة اقتصادية واجتماعية» من خلال اتباع نفس الوصفات النيوليبرالية.

تجمدت صفحة «كلنا خالد سعيد» على فيسبوك يوم 3 يوليو 2013 مع سقوط نظام الإخوان المسلمين وعليها 3.5 مليون معجب ومتابع، بينما يستمر قطاع ليس بالقليل من هؤلاء الرأسماليين الذين فشل مشروعهم السياسي في جني الأرباح بل ويشهدون عملية إعادة دمج سياسية «كشركاء صغار لسادة جدد يهيمنون على الدولة والمجتمع، ويسعون لإحكام القبضة على الاقتصاد كذلك»، كما يختم عادلي فصله في ذلك الكتاب المهم.

(لم تنشط صفحة «كلنا خالد سعيد» حتى الأسبوع الثاني من يناير 2020 عندما نشر عليها المؤسس المشارك وائل غنيم عدة بوستات أثارت جدلًا).

تابعني

القائمة البريدية

أرشيف المدونة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *