(منشور في درج بتاريخ اول مارس ٢٠١٩)
في وارسو التي شهدت ترحيل ومقتل مئات آلاف اليهود، على يد القوات النازية، منذ نحو 80 عاماً، غطّت وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ابتسامة عريضة في منتصف شباط/ فبراير هذا العام، فيما كان يجلس إلى طاولة ضمّت وزراء خارجية السعودية والإمارات والبحرين وقطر وعُمان واليمن وممثلين لدول عربية أخرى على مستوى أقل.
وبحث المؤتمر الذي حضره نائب الرئيس الأميركي مايك بينس ووزير الخارجية مايك بومبيو، مستقبل الأمن في الشرق الأوسط الذي باتت دولة إسرائيل تهيمن على الكثير من مقدراته. ولم تكن القضية الفلسطينية ذات أولوية على جدول الأعمال، بخاصة أن مسؤول ملف السلام في الشرق الأوسط وهو جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب، ما زال مصرّاً على عدم إعلان تفاصيل صفقة القرن لتسوية المسألة الفلسطينية، حتى منتصف هذا العام، بعد نهاية الانتخابات الإسرائيلية، في نيسان/ أبريل المقبل. وفي المقابل، أعلن أكثر من مسؤول عربي في المؤتمر، أن التحدي الرئيسي والخطر الداهم على العرب، يأتي من إيران وإرهاب “داعش”.
هذا الاجتماع والأشهر القليلة التي سبقته، كانت نهاية مرحلة مهمة في ما يسمّى الصراع العربي – الإسرائيلي. هي مرحلة بدأت مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003. حرث هذا الغزو تربة المنطقة الآسنة وسحب الستار عن “المصالح المشتركة” بين الصهاينة اليمينيين في تل أبيب والطغاة الأمنيين في عواصم عربية متعدّدة. وخلال أعوام قليلة تحوّل نصر واشنطن السريع في العراق، هزيمةً طويلة الأمد لأحلام الإمبراطورية الأميركية. خرجت إيران منتصرة ومادةً عمقها الاستراتيجي تدريجياً حتى مياه المتوسط غرباً، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت. وتحت هذه المروحة الإيرانية، ارتعش الأردن وتصاعدت همهمات حرب بربرية في أوساط اليمين الإسرائيلي المهيمن. وخلال سنوات معدودة تشكّل حلف جديد ضم السعودية ومصر وإسرائيل في مواجهة تمدد نفوذ إيران.
تراوح النخب العربية في علاقتها بإسرائيل بين شعور الدونية تجاه آخر متفوّق، ووهم تفوّق ديني وهويّاتي على هذا الآخر ذاته
وانضم أعضاء أكثر، وفي مقدّمهم الإمارات وقطر وعمان والبحرين وتونس، إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، أو ركبوه فترة ليست بقصيرة. ثم فُتح الستار أكثر في أواخر 2018، وزار نتانياهو مسقط، وذهبت وزيرة إسرائيلية إلى أبو ظبي. وصلنا الآن إلى بداية مرحلة جديدة في العلاقات العربية –الإسرائيلية، التي عبرت العداء العلني إلى التعامل السري، وصولاً إلى السلام الرسمي، ثم تحوُّل إسرائيل تدريجياً، حليفاً أمنياً وشريكاً في مجالات الطاقة والاقتصاد، إضافة إلى فتح قنوات استيراد برمجيات التنصت، وفق تقارير صحافية.
لهرولة النخب والأنظمة العربية المحافظة والريعية والعائدة من غمار ثورات نحو إسرائيل، أسباب واقعية لدى النخب الحاكمة، وتتقاطع الأسباب بين الخوف المشترك من النفوذ الإيراني والرغبة العامة في مواجهة الإسلام السياسي، وبخاصة نسخته المسلحة والحاجة إلى عضلات اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل في واشنطن، من أجل ضمان الدعم السياسي والعسكري لدول عربية. ووصل الأمر، إلى أن ترى دول عربية أن ما يجمعها بإسرائيل، أكثر مما يجمعها بدول عربية مجاورة.
المفارقة أن تلك النخب التي يميل عليك أحد أعضائها من رجال الأعمال ويقول لك بحسم: “نحتاج إلى تقنيات إسرائيل وتعاونها في فتح أسواق خارجية”، أو يبتسم لك رجل أمن متقاعد ويقول: “هم حائط صد ضد الإرهابيين وأقوى جيش واستخبارات في المنطقة وأميركا خاضعة لهم”. هي نفسها النخبة التي تحتقر اليهود بأشكال لا سامية. فيكمل رجل الأعمال ذاته قائلاً: “تعرف أن اليهود ماهرون للغاية، إنما يجب أن تحترس منهم”، بينما يقول رجل الأمن بجدية في الحوار ذاته: “إسرائيل بتحاول تزرع جواسيس طول الوقت، هي طبعاً ما زالت عدواً”.
تراوح هذه النخب في علاقتها بإسرائيل بين شعور الدونية تجاه آخر متفوّق، ووهم تفوّق ديني وهويّاتي على هذا الآخر ذاته. ومن المحيط إلى الخليج يلتقي الواحد في أسفاره ممثلين لتلك النخب في بلدان محكومة بالأمن والسلطوية وشراء الولاء، ويتولد عجز مريع في مستنقع من الكذب والتضليل والخداع والفشل عن وضع تصور واضح وعام، لما تعنيه مصالح الأمن القومي خارج استقرار النظام الحاكم الضيق سياسياً واقتصادياً. بلاد يبجّل المتحدثون الايدولوجيون باسم الدولة فيها – وهم صحافيون ومثقفون وأساتذة جامعات – قضية فلسطين ولكنهم لا يحبون الفلسطينين، ويسعون إلى تطبيع علاقات مع دولة إسرائيل ولكنهم يكرهون الإسرائيليين. أما المعارضون في معسكرات الممانعة او بقايا القومية العربية السياسية أو الإسلام السياسي السلفي، فتختلف مواقفهم ولكن لا قيمة فعلية لها، لناحية التأثير في الأرض، ولا تساعدنا كثيراً على تحليل الموقف وتبين أسباب وصولنا إلى هذه الحال ومسالكه، وبالتالي تلمس أساليب تحسين شروط العلاقات العربية – الإسرائيلية.
وفي إدانة تخبّط موقف المثقف العربي (الممانع القطري والمعارض القومي والمجاهد الإسلامي والمطبّع الكوزموبوليتاني)، أو محاولة فهمه، يضع الكاتب المصري صلاح عيسى اللوم على طرفين: الدولة الأمنية المعسكرة والمثقف المضروب بهزيمة لا يستطيع الاعتراف بها ويعجز عن محاولة تغييرها. وفي كتابه “مثقفون وعسكر” يقول عيسى: “جيلنا من المثقفين العرب، سيدخل التاريخ من باب السيكولوجيا، لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر”. وبعد تيه في مفازات نظرية المؤامرة ودور أميركا وخيانة النظم العربية لشعوبها أو هزيمتها على يد الامبريالية العالمية، لا يجد جلال أمين في نهاية كتابه “المثقفون العرب وإسرائيل”، تفسيراً للهزيمة، سوى أن “الأمة” العربية تعاني من “الشيخوخة النفسية”، وأنها عندما تستعيد “فتوتها” (هكذا قال)، سوف تعيد بناء قدراتها وتستقل عن الاقتصاد العالمي الاستعماري، ثم تتفوق على إسرائيل!
وفي الوقت ذاته، تواصل حكومات إسرائيل اليمينية العنصرية البلطجة وتقطيع أوصال الضفة الغربية الممزقة أصلاً، واستمرار اعتقال ملايين الفلسطينيين داخل أكبر سجن طبيعي في قطاع غزة أو معاملتهم كمواطنين درجة ثانية، وإن كانوا مقيمين في إسرائيل. لم تكن إسرائيل أبداً عدواً مشتركاً، أجمعت عليه وحاربته بصدق هكذا أنظمة (على الأقل منذ حرب 1973)، مثلما إيران ليست الآن عدواً مشتركاً فعلياً لكل الدول العربية. ما زالت إسرائيل، كما يقول باحث مصري، “قائمة على الضم والاستبعاد، ضم أراضٍ لا يعترف أحد بقانونية ضمها واستبعاد الفلسطينيين الخاضعين لحكمها، من المواطنة، والمواطنين العرب من المواطنة الكاملة”.
“ما أوسع الثورة… ما أضيقَ الرحلة… ما أكبَرَ الفكرة… ما أصغَر الدولة!”
بعد مئة عام أو اقل، سيكون التاريخ المسجل عن تلك النظم والنخب العربية الصغيرة الجالسة على قمة أهرام دولها المتداعية الوهمية، مخزياً، وقد يشعر بالشفقة من يطالع حينها، الصفحات المحفوظة من وسائل التواصل الاجتماعي من هذه العقود، فيرى صيحات غضب واستنجاد بعروبة مغتصبة عروسها أو إسلام يُنتهك أو خليفة لم يعد يأتي.
ربما نحتاج إلى فهم أفضل لأبعاد الهزيمة العربية المديدة، فهم يربطها ليس بدور الاستعمار وحسب، بل بفشل الدولة ما بعد الاستعمارية ومشروع القومية العربية ومشروع الإحياء الإسلامي. فهم يربط أيضاً بين فشل هذه المشاريع بغض النظر عن نيات أصحابها، وبين متطلبات النظام العالمي الرأسمالي، التي لا تمكن مقاومتها سوى بحنكة مفتقدة، وتطوّرات النظم السياسية المحلية التي سادتها أجهزة أمنية وعسكرية، كانت تختبئ تحت ستار حماية الدولة، ولم تعد تحمي سوى شبكات لصوصية، وذلك كله في دول تعتمد أكثرها على الريع المباشر من النفط والغاز، أو التدفقات المالية وتحويلات العمالة من دول النفط. في وضع كهذا ومع استمرار تدفق الريع النفطي والغازي، يصبح استقرار هذه الأوضاع الظالمة لأغلبيات مهمشة أو أقليات عرقية أو دينية، أهم هدف لدى أجهزة الأمن وآليات النظام.
قد تنكسر هذه الحلقة الشيطانية المفرغة لسبب أو لآخر، مثل انهيار أسواق النفط او استشراء الفوضى في البلدان الفقيرة المعسكرة، ولكنها لن تسير في الأغلب في اتجاه يخدم مصالح أغلبية مواطني كل دولة، من دون مقاومة هذه الأوضاع باستمرار، وطرح أفكار بديلة، مقاومة ليست من أجل الوطن أو من أجل الرب، بل من أجل الناس وحقهم في حياة أفضل نفسياً ومادياً. ولعل الأمل يأتي من أضعف حلقات هذه المنطقة في العراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر، بلدان ومناطق تحقق فيها ما عبّر عنه الشاعر الراحل محمود درويش بمرارة، فيما كانت سفن المقاتلين الفلسطينيين، ترحل عن بيروت التي دمّرتها إسرائيل حصاراً وقصفاً، عام 1982: “ما أوسع الثورة… ما أضيقَ الرحلة… ما أكبَرَ الفكرة… ما أصغَر الدولة.!”