نُسخة محدثة ومنقحة ٢٠٢١
***
في نهاية التسعينيات، صرت مشغولا بفهم هزيمة مصر في حرب يونيو 1967، وذلك عندما بدأت وثائق الحكومات الأمريكية والبريطانية وغيرها، المتعلقة بهذه الحرب في الظهور بعد انقضاء مدة الثلاثين عاما التي يتم الحفاظ فيها على سرية معظم المستندات الرسمية في الدول الغربية. زرت الأرشيف الامريكي، ونسخت مستندات متاحة للجمهور، وقرأت بعدها كتبًا عديدة استفادت من هذه الثروة المعلوماتية، مع الأخذ في الاعتبار مصدر المعلومات ومصالحه ومقارنة الأرشيفات ببعضها البعض، واطلعت على كتب المذكرات التي أصدرها قادة عسكريون من الدول المعنية (عدد قليل منها كتبه مصريون وتفتقر اغلبيتها الساحقة للتوثيق وعدد هائل من الكتب الإسرائيلية، ولا كتب سورية أو عربية أخرى تذُكر) وكتب أصدرها أكاديميون وباحثون معظمهم غربيون. ويقلل تعبير “النكسة” الشائع من هوّل ما حدث وآثاره الكارثية على ملايين البشر الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والمصريين وغيرهم لعشرات السنين التالية على هذه الهزيمة الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بجيوش مصر وسوريا والأردن في ستة أيام.
الاعتراف بالهزيمة، التي أُطلق عليها لأسباب سياسية اسم “النكسة”، ومحاولة فهم أسباب وتعقيدات هذه الحرب، وما أدت إليه من تغيّرات ساحقة داخل مصر وإقليميًا على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أمر مهم قد يساعدنا في فهم تحديات سياسية كبرى راهنة في مصر وسوريا والأردن، بل ودول عربية أخرى، حيث تعاني هذه الدول وسياساتها من تأثير إسرائيلي واضح، بغض النظر عما إذا كانت في حالة سلم أم حرب معها، بينما تغيّرت إسرائيل ذاتها وصارت قوة إقليمية عظمى تطبق نظام فصل عنصري وتتمتع بدعم دولي واسع، بغض النظر عن تصريحات ناقدة هنا وهناك، وخصوصًا مع الفشل الذريع لعملية أوسلو للسلام. وفي واقع الأمر فإن معظم سياسات الدول العربية قد حولتها إلى حليف فعلي -إن لم يكن رسمي- لإسرائيل، بينما باتت دولاً عديدة في المنطقة وخارجها تنظر الى إسرائيل كمثال يحتذى في القمع وضبط الاحتجاجات وتقنين العقاب المنظم لفئات اجتماعية كاملة مثل السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى سبيل المثال، تتلقى عشرات من أجهزة الشرطة الولائية والتابعة للمدن الأمريكية تدريبات منتظمة من شركات إسرائيلية متخصصة، ورصدت منظمة العفو الدولية، فرع الولايات المتحدة، رحلات مدفوعة لمئات من كبار قادة ومسؤولي الشرطة الامريكية في ولايات ومدن رئيسية عديدة الى إسرائيل للاطلاع على سبل ونظم السيطرة على الاحتجاجات الشعبية والتعامل مع المشتبه بهم والمتهمين.
ما زالت المؤسسات الأمنية والعسكرية والقوى السياسية الحاكمة والنخب الاقتصادية والثقافية المهيمنة، التي سارت بمصر وغيرها بثقة وغرور لنيران هذه الهزيمة، تسيطر على معظم دول المنطقة، وهو ما دفع بها إلى حربين خليجيتين في 1991 و2003، وإلى ثورات واحتجاجات اجتماعية منذ 2011، ودخلت بعض هذه البلدان في حروب أهلية ذات أطراف دولية متعددة ومركّبة ومتشابكة مثلما يجري الآن في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وإلى حروب متكررة تشنها إسرائيل على محوريّ فلسطين ولبنان. وهذا جميعه أدى، من ضمن عوامل أخرى، إلى تفكك دول وانهيار مجتمعات، وإلى أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مزرية في المنطقة. لا شك أن السياسات الخارجية للولايات المتحدة وأوروبا، ووجود إسرائيل وأضخم إنتاج واحتياطي نفطي كوني في المنطقة، ساهموا جميعًا في إشعال أو تغذية هذه الصراعات سواء بصورة مباشرة أو عن طريق دعم النظم الديكتاتورية والسلطوية، ولكني أركز هنا بصورة أساسية وواعية على مسئولية النظم التي حكمت هذه المنطقة وعلى ما حدث لشعوبها بفعل أحد أهم الوقائع التي غيّرت شكل المنطقة بشكل درامي، وهي حرب 1967.
الخطأ في الحسابات والتقديرات كامن في بنية هذه النظم المهترئة، وهذا ليس صدفة. ففي غياب الديمقراطية والمحاسبة والمساءلة والقدرة على مناقشة القضايا علنًا دون حساسيات مزعومة واعتبارات أمن قومي غامضة، ستظل الهزيمة ترسم حياتنا اليومية في بلاد تستمر في التمزق مثل سوريا أو تنهار خدماتها ومستويات صحة وتعليم شعبها مثل مصر.
ولعل رؤية الأمور بعد 55 عامًا تكون أوضح بالمقارنة بمن كانوا في قلب ضباب الأحداث. ولم يكن هذا الضباب مفروضًا من الخارج على مصر وقيادتها، بل كان من اختيارها وصنعها إلى حد كبير، بفعل نظام سياسي قائم على الثقة وأمن الحاكم وجماعته؛ نظام يفتقر إلى آليات مراجعة سريعة نسبيا وتصحيح لمسار السياسات؛ نظام ينقصه تصور واضح ومدعوم شعبيًا لأولويات الأمن القومي وكيفية حمايتها بناءً على القدرات الفعلية للمؤسسات العسكرية والاقتصادية والهياكل الاجتماعية. لقد هُزمت قيادة مصر ونظامها بيدها قبل أن تهزمها إسرائيل.
خاصم النظام الناصري منذ منتصف الخمسينيات السياسة بمعناها المؤسسي والمفتوح وفضّل عليها تأمين النظام الحاكم، معتقدًا أن النظام هو الأكثر دراية ومعرفة بمصالح الناس وأمنها القومي، وتدريجيا حلت مصلحة البلاد محل مصلحة فئات المجتمع وحل الشعب ككتلة واحدة محل فئاته المختلفة والمتصارعة على الأقل على صعيد الخطاب والإعلام وصارت كتلة صلبة مكونة من الاجهزة الأمنية والعسكرية والرئاسة تدير البلاد بطرق شللّية غامضة. ارتكن النظام على الجيش وأجهزة الأمن، حيث دارت العلاقات الرئيسية للسلطة، فاحتل الضباط المراكز العليا في الحكومة والمؤسسات الاقتصادية، حتى إنهم تعاقبوا على كل الوزارات ولسنوات طويلة، ما عدا وزارات العدل والإسكان والاقتصاد. وكان معظم العسكريين في مناصب السلطة العليا ضباطًا سابقين في المخابرات العامة أو الحربية (ومنهم علي صبري وسامي شرف وثروت عكاشة وعبد القادر حاتم وأمين هويدي)، الأمر الذي انعكس على أسلوبهم في الحكم، حيث اعتمدوا على السرية والانغلاق والتقارير. سعى العسكريون لإقامة نموذج للتطور الاجتماعي دون مشاركة حقيقية من قبل المواطنين والفئات السياسية المدنية، فانتهى الأمر بأن وقفوا حائلًا دون تشجيع حيوية المجتمع ومشاركته البناءة.
لكن عبد الناصر مسّ، كما لم يفعل زعيم عربي قبله، وترًا حساسًا لدى غالبية شعوب المنطقة، وهو الكرامة التي أُهينت على أيدي الاستعمار والنخب الوطنية في عصر ما قبل دولة الاستقلال الوطني. ولإصراره على إعطاء مكانة مركزية لهذه المسألة في سياساته الخارجية، حقق ناصر شعبية هائلة، لاسيما وقد نجح في السنوات العشرة الأولى من حكمه في تحدي الاستعمار الإنجليزي والخطط التوسعية الإسرائيلية بنجاح.
ولم تكن الكرامة محض حلم سياسي لدى عبد الناصر فحسب، فقد ذاق الاهانة العسكرية والسياسية مباشرة قبل ان يقود انقلابه العسكري باربع سنوات عندما حضر مع قادة اللواء المصري المُحاصر في قرية الفالوجة في نهاية ١٩٤٨ محادثات انسحاب اخر قوات مصرية في جنوب فلسطين بعد حصار طويل قاوم فيه اللواء بقيادة الضابط سيد طه الجيش الاسرائيلي ببسالة. وكان الرجل الثاني في الوفد العسكري الاسرائيلي لهذه المحادثات هو اسحق رابين الذي سيصير رئيس اركان الجيش الاسرائيلي في ١٩٦٧ ورئيس الوزراء فيما بعد.
لكن الخطب لا تصنع جيوشًا ولا ترفع من شأن مواطنين. كرامة الشعوب التي نادى بها ناصر خطابيًا كانت تهان عمليًا على يد الأنظمة القومية المعسكرة السائدة وقتها، وعلى رأسها مصر. ولذا فلم يتبق سوى الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي حققها النظام للطبقات الوسطى والدنيا في مجالات الصحة والتعليم والإسكان. لكن حتى هذه الإنجازات، المدفوعة بخطط تصنيعية طموحة، والممولة إلى حد كبير من تأميم مصالح اقتصادية أجنبية ضخمة وإعادة توزيع ملكية الأراضي، بدأت تترنح في 1966 في ضوء الضعف الهيكلي في الاقتصاد المصري.
وبغض النظر عن المنطلقات الأيديولوجية للقومية العربية في نسختها الناصرية في مواجهة ما سُمي بالنظم الرجعية في السعودية والأردن، فإن هزيمة ناصر الحقيقة ليست بالضرورة هزيمة للوشائج الثقافية والروابط الاقتصادية القائمة والممكنة بين الدول العربية، لكنها هزيمة ساحقة لمحاولة فرض هذا النسق بالقوة، خصوصًا من جانب طرف كانت أكبر أسلحته هي الأفكار والإعلام والمنتجات الثقافية، وهي كلها أسلحة حرم ناصر ونظامه شعبه ذاته من حرية استعمالها، فباتت عاجزة في وجه المال السعودي والسلاح الإسرائيلي عندما دقت ساعة الجد بعد هزيمة يونيو المنكرة.
هزيمة 67 ليست فقط ماضيًا نتعلم دروسه ولكنها حاضر حيّ، بمعنى أنها حدث تأسيسي لحقبة ما زلنا نعيشها بعد مرور أكثر من نصف قرن. ومن ثم فإن تقييمنا للهزيمة وأسبابها وسياقها هو بحث في جذور حاضرنا ومعانيه الكبرى. فلم تكن هزيمة 67 فقط عسكرية خسرت فيها مصر والأردن وفلسطين وسوريا مساحات شاسعة من أراضيهم، بل كانت بداية النهاية لمشروع تنموي قومي عربي يُدار من أعلى، ولوعود دول ما بعد الاستقلال الاقتصادية والاجتماعية، ومبررًا مستمرًا لحشد وإنفاق عسكري ساهم ولا شك في حرب 1973 التي حققت مصر فيها تقدمًا عسكريًا في بدايتها، أهدرته الإدارة السياسية (أو استغلته لصالح إنجاح خطة سياسية كانت الحرب جزءًا منها لتحريك الركود السياسي الإقليمي)، فانتهى الحال بعد 73 ليس إلى ترميم مشروع ناصر بفعل نتائج تلك الحرب، بل إلى صعود سياسي واضح للتيارات الإسلامية كبديل للمشروع القومي المنهار.
وقد حاول كُتاّب “في تشريح الهزيمة” الصادر من تحريري عن دار المرايا في عام 2017 أن يلقي الضوء على بعض هذه المسائل، واستهدف تجميع قراءات نقدية قدمتها أصوات متعددة مختلفة التوجه النظري لمعنى ما حدث ومغزاه التاريخي وآثاره المستمرة على مصر والمنطقة. ولكن ذلك لم يكن كافيًا رغم محاولتي أن أجمع أكبر عدد ممكن من الكتّاب من اتجاهات مختلفة. بيّد أن الكتاب نجح في إلقاء حجر في مياه التأريخ الراكدة في بلادنا، التي تتأتى معظم أسباب ركودها من اختفاء المصادر الأوليّة وحجب الأرشيف الرسمي للدولة عن الباحثين واعتبار بعض الأمور مسلمات لا يجوز نقدها أو محاولة تفكيكها. كان الكتاب محاولة سبقها عدد قليل من المحاولات من أجل تحليل وفهم، ومن ثَم فتح نقاش جدي حول، وقائع ومحطات مؤسِسة في تاريخ مصر الحديث. وبغض النظر عن مدى نجاح في هذا العمل، فإن محاولات نقدية مثل هذه، تقوم بتفكيك أساطير مؤسِسة للدولة والمجتمع في مصر والمنطقة، هي السبيل الوحيد لتشكيل مستقبل أفضل في منطقة صار حاضرها كابوسًا لشعوبها وربما للعالم كله. ولهذا قمت ببعض التحديثات لفصلي في هذا الكتاب وانشره على حلقات في الذكرى الثالثة والخمسين للحرب.
يقلل تعبير “النكسة”، الشائع في العالم العربي لوصف حرب 1967، من هَول ما حدث ومن آثاره الكارثية على ملايين البشر لعشرات السنين التالية على الهزيمة الساحقة التي ألحقتها إسرائيل بجيوش مصر وسوريا والأردن في أقل من ستة أيام. ولذا من المهم أن نقرّ ونستعمل كلمة “الهزيمة” لوصف ما حدث. إذ أن الإقرار بالهزيمة قد يساعدنا على فهم تحديات سياسية هائلة تواجهها عدة أنظمة عربية ويواجهها الشعب الفلسطيني رغم مضي عقود طوال على الحدث، وذلك بغض النظر عمّا إذا كانت بعض هذه الأنظمة في حالة حرب إسميّة أو سلام قانوني مع إسرائيل، وإن كانت معظم سياسات الدول العربية قد حوَّلتها إلى حليف فعليّ لإسرائيل.
ربما يساعدنا النظر إلى العلاقات الإقليمية والدولية في الخمسينيات والستينيات على إدراك أن الصراع العربي الإسرائيلي، على رغم تأثيره الهائل على مجريات الأحداث، لم يكن المحرّك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع، وما يزال، هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وهي دول لا تزال معظم أنظمتها حتى الآن تعاني هشاشة الشرعية وفقر الإنجاز.
من المهم دراسة الهزيمة، لأن المؤسسات الأمنية والعسكرية التي سارت بنا بثقة غير مبررة وغرور مفرط وفساد مستشر إلى نيران حرب 1967 لا تزال عقلياتها وممارساتها تسيطر على معظم دول المنطقة، وقد سارت بنا منذ الثمانينيات إلى حربين في الخليج، وتسبب فسادها وطغيانها وفشلها في انتفاضات شعبية عارمة في 2011، أدت باستثناءات قليلة وهشة إلى تفكك دول وانهيار مجتمعات.
الخطأ في الحسابات والتقديرات أمر كامن في بنية هذه النظم المهترئة، وهذه ليست مصادفة. ففي ظل غياب مشاركة شعبية حقيقية في إدارة السلطة والثروة، وضعف مقصود في آليات المحاسبة والمساءلة، وتغييب متعمد للنقاشات الحرة والعلنية لمسائل الأمن القومي دون حساسيَّات مزعومة واعتبارات غامضة، ستظل الهزيمة ترسم حياتنا اليومية في بلاد تتمزق مثل سوريا واليمن وليبيا، أو تنهار خدماتها ومستويات صحة وتعليم ورفاه شعبها بسرعة مرعبة مثل مصر.
أتذكر أنه في اثناء الاعداد لأول دراسة نشرتها عن حرب ١٩٦٧ أنني شاهدت خبيرا أمنيا ومسئولا سابقا في جهاز استخبارات عربي يرسم ابتسامة العارف والمحتقر على شاشة التلفزيون وهو يتلقى السؤال الذي جاء على الهاتف من مواطنة متلهفة على الأمن والاستقرار عن دور إسرائيل في مشاكل المنطقة؟ فرد الخبير أن هذه أمور لا يحب أن يتحدث فيها كثيرا بسبب معاهدة السلام الموقعة بين بلده وبين اسرائيل، لكن يجب ألا ننسى، حسبما قال، كتاب بروتوكولات حكماء صهيون والمخطط الغربي لتفتيت المنطقة المرتبط به، ثم صمت وقال بغموض: لكن هذه أمور لا ينبغي الحديث فيها علنا!
والمصيبة ليس في أن هذا الرجل – بغض النظر عن إيمانه بالمؤامرة اليهودية المزعومة من عدمه- يقودنا إلى فراغ وهزيمة قبل أن تبدأ الحرب ويفسر كل انهيار ومشكلة بمؤامرة خارجية، بل الأهم أنه أعمى عن وجود مؤامرات فعلية ومخططات ربما تفصيلية ومعلومات كثير منها علنية كان يمكن للنظر فيها أن يوفر رؤية أكثر واقعية وصدقا لما يحدث حولنا في العالم، يمكن بعدها اتخاذ مواقف وقرارات قائمة على معلومات أوضح وأدق. وهذا الرجل الذي ظل يستعمل رتبته العسكرية في مداخلاته الإعلامية شاهدت وسمعت وقرأت لأمثاله في أسفاري وعملي واقامتي في العراق وسوريا والسودان ومصر وغيرها من البلدان المحكومة بنظم يعرف فيها الخبير الكاذب أحيانا أنه يكذب، لكن لا يهم لأن المصلحة الوطنية وفقا لفهمه تقتضي هذا الكذب، ويظل الخبير يكذب حتى ينسى أنه يكذب وحتى يفترض الكذب، أو التآمر، في كل متحدث آخر.
هذا الرجل لا يختلف كثيرا عن الرجال الذين سادوا أروقة الحكم وأجهزة الأمن في مصر في الستينيات ورسموا طريقنا إلى الهزيمة المرّة.. لا قدرية هناك أو مصير لا فكاك منه في الدول والمجتمعات. مصر عندما غيرت مؤسساتها الطريقة التي تعمل بها ولمدة قصيرة، كانت قادرة على تحقيق اختراق تاريخي في حرب 1973، وعندما فاض الكيل بشعبها، خرجت وأجبرت النظام على عزل رأسه في ثورة 2011.
أركز هنا على الأبعاد الداخلية للهزيمة، ومن ثَم فلن أتطرق إلى تفاصيل المخططات الإمبريالية والصهيونية العدوانية المعادية للمشروعات “التحررية” في العالم أو في المنطقة. بوسع أي دارس مدقق لتوازنات القوى وأثر الحرب الباردة في الشرق الأوسط في الستينيات، أن يرى أن أجنحة متصاعدة القوة في إسرائيل كانت تسعى إلى الحرب لأسباب استراتيجية (تأمين حدود يمكن الدفاع عنها بسهولة أكبر، وتوفير موارد مياه، ومواجهة تهديد الفدائيين الفلسطينيين) وإلى حد أقل أسباب دينية-ثقافية (السيطرة على القدس) واخيرًا والأهم، أسباب جذرية حيث مثلت إسرائيل، وما زالت، ذروة السلوك الاستعماري الاستيطاني الذي ينزع إنسانية السكان الأصليين على الصعيدين الثقافي والقانوني ويجعلهم هدفا مشروعا بل ومقننا للقمع والسيطرة الكلية. وعلى صعيد الصراعات والتوازنات الدولية كانت إسرائيل حليفًا واضحًا للغرب في حربه الباردة ضد الاتحاد السوفيتي (وإن لم تكن الولايات المتحدة ساعتها، بل فرنسا وألمانيا، هما أكبر داعمين لإسرائيل حتى حرب 1967)، وبالتالي تناغمت مصالحها في إضعاف النظام الناصري (كنظام مؤيد لحركات التحرر، ومعاد لملكيات البترول الرجعية، وبالتالي معاد لمصالح المعسكر الغربي الرأسمالي المنضوي تحت لواء حلف شمال الأطلسي) مع المصالح الغربية عمومًا والأمريكية خصوصًا. كل هذا صحيح، لكني كما كررت أكثر من مرة لن أتعامل بشكل تفصيلي هنا مع أهداف ونوايا العدو المعروفة عدوانيته والمعلومة مصالحه، بل على كيف تعاملت معها مصر ولماذا.
التحولات الرئيسية قبل الحرب
وقعت عدة تحولات رئيسية في العقد الفاصل بين حربي 1956 و1967. في هذا السنوات توالت التحديات المباشرة للمصالح الأمريكية والرأسمالية في المنطقة، وظهرت الشروخ في صيغة الاستقرار والتعايش الهشة في لبنان، وسقط العرش الهاشمي في العراق، وبالتالي انهارت ترتيبات أمنية كان الغرب يرتكن عليها لضمان استقرار أنظمة موالية في المنطقة وخاصة في إيران والخليج، ولمنع السوفييت من دخول المنطقة الغنية بالنفط. زاد نفوذ موسكو في عدة عواصم مؤثرة أبرزها القاهرة وبغداد، وباتت تمدها بالسلاح والمعونات الاقتصادية والدعم السياسي في المحافل الدولية. وحاول الثوريون الجدد في العراق غزو إمارة الكويت وضمها، وانزلقت مصر دون جاهزية لمحاولة القضاء على نظام الإمامة الرجعي المتهالك في اليمن في مواجهة رد فعل سعودي/أمريكي عنيف.
وفي الشهرين السابقين على حرب الخامس من يونيو1967، وقعت ثلاثة تحوّلات رئيسية لتتصاعد الأحداث وصولًا إلى المواجهات العسكرية بين مصر وإسرائيل:
أولًا: في نهاية شهر أبريل وبدايات شهر مايو، تواترت تقارير عن حشد إسرائيل قواتها على حدود سوريا لضربها، ودفعت هذه التقارير مصر إلى التصعيد الخطابي، ثم العسكري، ضد إسرائيل، تكرارًا لما قامت به في أزمة يناير-مارس 1960، عندما حشدت قواتها على الحدود لتخفيف الضغط على الجبهة السورية. وبغض النظر عن صحة هذه التقارير روسية المنشأ، فقد تعامل معها الجميع بجديّة، وتدافعت الأحداث إلى درجة صارت معها الحشود الإسرائيلية في حد ذاتها أمرًا غير مهم.
ثانيًا: قرار الرئيس جمال عبد الناصر إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، وهو السبب المباشر للحرب والخطأ التكتيكي المذهل الذي أدى إلى انهيار استراتيجي شامل فيما بعد، بطلب مصر من الأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية المنتشرة على الجانب المصري من الحدود بين مصر وإسرائيل.
ثالثًا: قرار إسرائيل شنّ حرب هجومية على العرب عوضًا عن الاقتصار على رد فعل محدود على قرار إغلاق خليج العقبة.
وبدأ العد التنازلي للحرب في 23 مايو 1967.
في ذاك الصباح، أعلنت إذاعة القاهرة إغلاق مضايق تيران المؤدية إلى خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية. هددت تلك الخطوة موارد إسرائيل من السلاح والبترول. حيث صار من المتعيّن على السفن التي تحمل البترول لإسرائيل من إيران، التي كانت ساعتها تزوّد إسرائيل بقرابة 70% من احتياجاتها البترولية، أن تدور حول رأس الرجاء الصالح لأنها أيضاً ممنوعة من العبور في قناة السويس المصرية. لم يفاجئ الإعلان الأمريكيين أو حلفائهم الإقليميين في إسرائيل، حيث كانوا يخططون لرد الفعل المناسب طوال الأربعة والعشرين ساعة السابقة على البث الإذاعي.
أُعلن القرار للمرة الأولى في اجتماع عقده الرئيس عبد الناصر في مطار أبو صوير في سيناء يوم 22 مايو، بعد أن وصل هناك على متن طائرة عسكرية، حيث استقبله نائب القائد العام للجيش المشير عبد الحكيم عامر وقادة الأسلحة المختلفة. وفي استراحة المطار أمام عدد من الطيارين أُعلن إغلاق خليج العقبة في وجه أي سفن تنقل بضائع استراتيجية لإسرائيل. لم يكن القرار سهلًا، واتُخذ بعد جدل شديد في أعلى دوائر صنع القرار المصرية،1 وأدى فعليًا إلى حرب 1967 وإلى هزيمة مُرَّة تجرعتها في أيام، بل في ساعات، جيوش مصر وسوريا والأردن، خصوصًا وأن قرار عبد الناصر جاء عقب إعلان إسرائيل أنها ستعتبر إغلاق خليج العقبة في وجه السفن المتجهة إلى إسرائيل بمثابة “إعلان حرب” (casus belli) ضدها.
ولا ينفي هذا كله دأب اسرائيل وخاصة منذ 1964 على التحرش بسوريا في منطقة الجولان واصرارها على زراعة واستيطان مساحات الاراضى الصغيرة المتاحة في تلك المنطقة وتبني نمط متكرر من الاستفزازات عن طريق ارسال دوريات عسكرية لمناطق كان متنازعا عليها بعد اتفاق الهدنة في 1948 وعندما يطلق السوريون عليها النار ترد اسرائيل بقسوة وبشكل غير متناسب تماما. وتزايت وتيرة وشدة هذه الردود وفقا للوثائق الانجليزية وتقارير المستشار العسكري في السفارة البريطانية في دمشق انذاك وصولا الى غارات جوية مدمرة عجز سلاح الجو السوري الضعيف (كان قائده آنذاك حافظ الأسد) عن الرد عليها وسقطت له فيها طائرات عديدة. ويقول موشيه دايان الذي صار وزيرا للدفاع فيما بعد ان اسرائيل كانت السبب الحقيقي في 80٪ من الاشتباكات السورية الاسرائيلية الحدودية حيث “كنا نرسل جرارا زراعيا مثلا لحرث الارض التي لا يمكن زراعتها اصلا في المنطقة منزوعة السلاح ونحن نعرف سلفا ان السوريين سيبادرون باطلاق النار. وإذا لم يفتحوا النار كنا نأمر سائق الجرار بالاقتراب والتحدي اكثر واكثر حتى يغضب السوريون ويبدأون في اطلاق النار، وساعتها نفتح نيران مدفعيتنا ثم نرسل الطائرات المقاتلة.” وهكذا حتى وصلت الطائرات الاسرائيلية للتحليق بأريحية فوق الشام في السابع من ابريل 1967 ردا على اشتباكات وقعت صباح اليوم على الحدود. وطاردت مقاتلات الميراج الاسرائيلية طائرات ميج-21 السورية حتى اسقطت منها ستة منها اثنتين في ضواحي دمشق ثم حلق الاسرائيليون على ارتفاع منخفض فوق العاصمة السورية على سبيل الإهانة.2 وبعدها سرب رئيس المخابرات العسكرية الاسرائيلية آهارون يارييف لوكالة يونايتد برس انترناشيونال تصريحا منسوبا لمسؤول اسرائيلي رفيع جاء فيه ان اسرائيل تستعد لتحرك عسكري ضد سوريا اذا استمرت الغارات العسكرية السورية ضد الاراضي الاسرائيلية لتوجه به “ضربة قوية للحكومة السورية.” وتعاملت مصر وسوريا مع هذا التصريح بجدية، وارسل الرئيس السوري نور الدين الاتاسي رسالة لناصر يطلب فيها الدعم العسكري وفقا لاتفاقية الدفاع المشترك
وفي نفس الوقت عانى الجيش السوري من تدن مريع في القدرات القتالية والمعدات والتدريب لم يقلل منها نسبيا سوى الشحن الهائل والمشاعر الجياشة تجاه المهام المتضاربة الملقاة على عاتق الجنود. ويقول الملحق العسكري الانجليزي في دمشق آنذاك روان هاميلتون D. A. Rowan-Hamilton ان تلك الروح المعنوية العالية لم تدعمها قدرات عسكرية بما فيها لدى الضباط الذين قاموا بمهام تدريبية في الغرب “حيث انهم تعاملوا مع هذه البعثات على أنها إجازات ونزهات مجانية وليست فرصا لتعلم مهارات وفنون عسكرية وافكار جديدة.” وكان الجيش السوري مسلحا بمعدات مستعملة قدمتها موسكو حيث لم يعد يحتاج لها الجيش السوفيتي، ورغم انها لم تكن احدث الاسلحة فلم يكن الجنود السوريين مدربين جيدا على استعمالها أو صيانتها. وكان الجيش السوري يعاني من ضعف في نظم القيادة والسيطرة وضعف في قدرات النقل والامداد وافتقار الي المعدات الالكترونية والتقنية. وزاد من ضعف الجيش عمليات التطهير المتتالية في صفوفه مع كل محاولة انقلاب حقيقية او مزعومة وكان اخرها في سبتمبر 1966.
وكان الشارع العربي المستجيب للشعارات الناصرية مشتعلا يطالب القاهرة بالتحرك بعد غارة اسرائيلية عنيفة ضد قرية السموع في جنوب الضفة الغربية التي كانت خاضعة آنذاك للحكم الاردني. وقامت قوات اسرائيلية كبيرة بهذه الغارة في 13 نوفمبر 1966 حيث قتلت 18 شخصا منهم ثلاثة قرويين فلسطينيين و 15 جنديا اردنيا وجرحت 54 اخرين كما دمرت 140 منزلا ووحدة القرية الصحية ومركز البريد ومدرسة للبنات ولم يقتل من الجانب الاسرائيلي سوى قائد وحدة مظليين وجُرح عشرة جنود. وكانت الغارة صدمة هائلة للاردنيين ولا سيما الملك حسين الذي كانت قنوات اتصاله الخلفية مع الاسرائيليين مفتوحة لضمان استقرار الوضع الهش وتفادي الاعمال العدائية. وقال الملك للسفير الامريكي فيندلي بيرنز ولمدير محطة المخابرات الامريكية في عمّان جاك او كونيل ان الهجوم على السموع كان “خيانة كاملة لكل ما حاولت القيام به على مدى ثلاثة اعوام من اجل السلام والاستقرار والاعتدال متحملا مخاطر سياسية شديدة في سبيل القيام بهذا” مشيرا الى اتصالات منتظمة قام بها مع وزير الخارجية الاسرائيل آبا إيبان وسلفه في المنصب جولدا مائير. وقال الملك انه رغم رسائل الطمأنة الاسرائيلية فانه لم يثق ابدا في نواياهم “وربما هذا ما يحدث للواحد عندما يحاول ان يكون معتدلا او ربما جزاء على غبائه.” ويواصل السفير الامريكي في التقرير الذى ارسله لواشنطن وصفه للعاهل الاردني بانه كان في حالة لم يرها من قبل من العبوس والغضب وكان يحاول جاهدا السيطرة على نفسه كي لا تنفلت مشاعره وانه اكد ان موقفه قد تبدل فبعد ان كان يؤمن بامكانية العيش بجوار اسرائيل بات يدرك ان العداء بينهما قائم للأبد.
التقارير السوفيتية التي أشعلت الحرب
في الشهور السابقة على الهزيمة، ادّعت دمشق مرارًا أن هناك حشودًا إسرائيلية على حدودها، عقب تهديدات إسرائيلية علنية بالرد على عمليات فدائية فلسطينية جاءت عبر هذه الحدود. لكن مصر لم تصدق السوريين ووزير دفاعهم حافظ الأسد حتى يوم 13 مايو، عندما وصل تقرير سوفيتي لمصر عن طريق عدة مصادر.
في اجتماع بين السفير السوفيتي ديميتري بوجداييف وأحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية في القاهرة، بناءً على طلب الأول، نقل السفير رسالة من موسكو تُفصّل حجم ونوع قوات إسرائيلية تحتشد قرب حدود سوريا. وفي كلمة لعبد الناصر بعدها بعشرة أيام أشار الزعيم إلى “تقارير مؤكدة ومفصّلة حول وجود 11-13 لواءً إسرائيليًا مقسمة بين جنوب وشمال بحيرة طبرية”. كان الفقي قد أرسل تقريرًا مفصّلًا إلى مكتب سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات، فور نهاية الاجتماع مع بوجداييف. في اليوم نفسه كان رئيس مجلس الأمة محمد أنور السادات عائدًا من كوريا الشمالية عن طريق موسكو، فالتقاه في المطار نائب وزير الخارجية الروسي فلاديمير سميونوف. ويقول السادات في كتابه البحث عن الذات3 إن سميونوف ورئيس الدولة الروسي نيكولاي بودجورني أكدا له أن هناك عشرة ألوية إسرائيلية تحتشد على الحدود السورية. وفي منتصف الليلة نفسها وصل السادات إلى بيت عبد الناصر، وكان المشير عامر هناك، حيث ناقشوا كيفية الرد على “التهديد” الإسرائيلي.
وفي اليوم نفسه أيضًا، وفقًا لهيكل في كتاب الانفجار (ص. 445)، قام مندوب المخابرات السوفيتية في القاهرة، ويدعى سيرجي ووظيفته الرسمية مستشار بالسفارة السوفيتية بالقاهرة، بإبلاغ صلاح نصر رئيس المخابرات العامة أن هناك 11 لواءً إسرائيليًا على الحدود مع سوريا.
أخذ عبد الناصر وعامر والسادات التقرير السوفيتي الآتي من قنوات اتصال مختلفة بجدية لا تتناسب مع ظروف وملابسات نقله، بل ومع المعلومات التي توفّرت لديهم في اليومين التاليين.
فالأرشيف السوفيتي، وفقًا لريتشارد باركر في كتابه “سياسات الحسابات الخطأ في الشرق الأوسط”، [1]Richard B. Parker, The Politics of Miscalculation in the Middle East (Bloomington: Indiana University Press, 1993.لا يحوي أية معلومات عن لقاء بوجداييف بالفقي. وأكد أشرف غربال، الذي كان حاضرًا لاجتماع الفقي في الخارجية، أنه والوزير محمود رياض لم يأخذا التحذير بجدية لأنه لم تكن هناك أدلة على وجود الحشود الإسرائيلية. كما أن سميونوف الذي تحدث إلى السادات في موسكو كان مشهورًا وسط زملائه بأنه لا يقرأ تقارير المخابرات بدقة. أما بودجورني، فقد أكد سريعًا في لقائه مع السادات أن الاتحاد السوفيتي سيساعد سوريا، ثم نقل الحوار “فجأة”، على حد تعبير هيكل، إلى مشروعات التنقيب عن البترول في مصر، وهو ليس بسلوك رجل يخشى من حرب وشيكة.
يثير هذا كله الشبهات حول سبب قيام السوفييت بإثارة مخاوف مصر بهذه الطريقة عبر ثلاث قنوات: الخارجية والسادات والمخابرات. على أن الأرشيف السوفيتي ليس مفتوحًا لنعرف بدقة وبشكل موثّق ملابسات وأسباب هذا التحذير الروسي المتكرر. أما الأرشيف المصري، فنحن أصلًا لا نعرف إذا كان موجودًا أم اختفى أم لم يوجد من الأساس. ولذلك، فعلى رغم مرور 53 عامًا على حرب يونيو، لم يقدم أي طرف إثباتًا على وجود هذه الحشود. بل إن السوفييت أنفسهم (وورثتهم الروس) يتنصلون من هذا الموضوع في المقابلات مع الباحثين.
لكن يمكننا بسهولة تنحية كل هذا جانبًا، لأن الفريق محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري قام بنفسه بزيارة سوريا يوم 14 مايو، وذهب إلى الجبهة، واستجوب ضباطًا سوريين، وتفحّص صورًا جوية التقطتها طائرات سورية للجانب الإسرائيلي في اليومين السابقين، لكنه لم يجد شيئًا مريبًا. قدم فوزي تقريره للقيادة (أي للمشير عامر) في 15 مايو. لكن المشير انطلق في طريقه منذ صباح 15 مايو وقرر حشد قوات عسكرية في سيناء، مؤكدًا لناصر أن الإسرائيليين بهذا سيفكرون مرتين قبل الإقدام على غزو سوريا. وقد فكّر الإسرائيليون مرتين حقًا، وقرروا غزو مصر وسوريا والأردن، لكن ليس قبل أن ترتكب مصر مزيدًا من الأخطاء، لتقدم نفسها فريسة سهلة لوحش مفترس وقاتل محترف كان حليفه الأمريكي يقترب منه أكثر فأكثر.
الأرشيفان الأمريكي والإسرائيلي، وفقا لما اطلعت عليه في الاول والمنشور عن الثاني، ينفيان وجود الحشود الإسرائيلية. حتى السوفييت أنفسهم، مصدر التقرير، طالبوا بالتهدئة في لقاء رئيس الوزراء أليكسي كوسيجين مع وزير الحربية المصري شمس بدران الذي كان مشغولًا في نصف الستينيات الأول بدعم مركزه داخل النظام الحاكم، وبإدارة السجن الحربي ومكافحة مؤامرات الإخوان الحقيقية والمزعومة، بدلًا من بناء الجيش وسياسات الحرب. طالب كوسيجين بدران، الذي زار موسكو من 24 إلى 28 مايو، واجتمع مع القيادة السوفيتية يومي ٢٦ و ٢٧ مايو، بتهدئة الأوضاع، قائلًا إن مصر حصلت على نصر سياسي ويجب عليها الآن التهدئة. وارسل بدران صورة من محضر الاجتماع إلى عبد الناصر ولكن الأخير لم يقرأها إلا بعد انتهاء الحرب مكتفياً بالاستماع الى تقرير شفهي من الوزير الذي ادعى أن وزير الدفاع السوفييتي المارشال جريشكو قال له في مطار موسكو : “على العموم أساطيلنا تحت أمركم”. وعندما سأل السفير المصري في موسكو مراد غالب الوزير السوفيتي عن معني ما قاله، رد جريشكو انه كان يرفع الروح المعنوية لنظيره المصري.4
وكانت هناك فرصة اخيرة ولكنها متاخرة للغاية أمام مصر للتراجع في الأول من من يونيو عندما وصل وفد مصري بقيادة زكريا محي الدين، نائب رئيس الجمهورية، إلى دمشق. ويقول عضو الوفد أمين هويدي، وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء آنذاك، أن رئيس المكتب الثاني، المخابرات السورية، عبد الكريم الجندي قال له في السيارة التي أقلتهما من المطار إلى قصر الضيافة “أنه لا توجد أمامهم أي حشود إسرائيلية غير عادية، واستنكر إثارة الموقف بالطريقة التي تتم بها … وكانت المعلومات التي قالها الجندي تأييداً لمعلومات الفريق محمد فوزي حين عودته من سوريا” في منتصف مايو.5
هناك عدة كتب تُخصص فصولًا بأكملها لفهم وتحديد مصدر التقرير السوفيتي، وينتهي عدد منها إلى أن السوفييت اخترعوا الحكاية كلها كوسيلة للضغط الديبلوماسي لإخراج مصر من اليمن أو تقريب مصر وسوريا، بينما ينتهي عدد آخر من الدراسات إلى أن التقرير الأصلي كان خطًا تاه في أضابير البيروقراطية ثم تم التمسك به، حتى أن السفير السوفيتي في إسرائيل ديميتري شوفاخين رفض عرضًا من رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول في 11 مايو بأن يقوم ممثل للسفارة بزيارة منطقة الحدود، حيث يستحيل إخفاء 11-13 لواءً من الحشود العسكرية (تمثل نحو أربعين ألف جندي، أو نصف القوات التي خاضت بها إسرائيل حرب يونيو) دون أن يتبيّنها أي زائر، ودون أن تشعر البلاد كلها بهذه الحشود الضخمة لدولة صغيرة جغرافيًا. لكن شوفاخين رفض قائلًا إن التقرير السوفيتي وارد من موسكو وليس من اللائق إثارة الشكوك بشأن مصداقيته. وأكد نائب وزير الخارجية السوفيتية سميونوف للسادات بدوره أن موسكو “لديها من الوسائل ما يمكّنها من معرفة الحقيقة دون أن تضطر إلى زيارة الموقع الفعلي لتأكيدها”. وقال وزير الدفاع السوفييتي جريشكو للسفير المصري مراد غالب انه مندهش من تقارير تنفي وجود الحشود الاسرائيلية على الحدود السورية لأن لديه “كشف بأسماء قادة الوحدات وقادة الكتائب لهذه الحشود.” (أمين هويدي، “حرب ١٩٦٧: أسرار وخبايا”، ص.٧٠)
في كتابه “يو ثانت في نيويورك” يقتبس رمسيس ناصيف (مصري عمل متحدثا صحفيا للأمين العام للأمم المتحدة في الستينيات) عن الدكتور محمود فوزي، الذي كان نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية في مصر أثناء الحرب، قولته الشهيرة التي تلخص حرب الأيام الستة: “حسابات فادحة الخطأ بناء على معلومات مضللة. كانت المعلومات المضللة وسبب الحرب المباشر تقارير الحشود الإسرائيلية على الحدود السورية توطئة لحرب وشيكة. أما الحسابات الخاطئة، فقام بها ناصر والمشير عبد الحكيم عامر والفريق شمس بدران وعدد آخر من الجنرالات، كانوا كلهم مدفوعين بتحليل عام للموقف لوّنه فهم أيديولوجي فج وتحليل سطحي لواقع الحرب الباردة ولإمكانيات عدوهم الشرس ولمصالح بلادهم الوطنية ولقدرات وتطلعات ما كانوا يسمونه بالأمة العربية. هذه التحليلات القائمة على حسابات خاطئة ومعلومات مضللة كانت تعمي أعينهم عن رؤية توازنات القوة، بينما كان انفرادهم المطلق بالسلطة يمنعهم من التحلي بالحرص الواجب المتفق مع إمكانيات بلادهم دون التخلي عن مبادئهم العامة.
وفور أن قررت مصر، أي عبد الناصر، أن تصدق التقارير السوفيتية والادعاءات السورية، قامت بالتحرك، وتوالت الأخطاء في الحسابات والتقديرات في الأيام الثمانية التالية.
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثاني)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الثالث)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الرابع)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء الخامس)
الهزيمة المحتومة: سياق ووقائع “نكسة” 1967 (الجزء السادس)
- يمكن لمن يرغب في مراجعة وقائع الاجتماع الحاسم الذي عقده عبد الناصر وساهم في اتخاذ هذا القرار الرجوع إلى محمد حسنين هيكل، حرب الثلاثين عامًا: الانفجار 1967(القاهرة: دار الشروق، 1990) ص514-517. [↩]
- see Jeremy Bowen, “Six Days: How the 1967 War Shaped the Middle East”, London: St. Martin Press, p. 15, 32-33 [↩]
- محمد أنور السادات، البحث عن الذات (القاهرة: المكتب المصري الحديث، 1977). [↩]
- أمين هويدي، “حرب ١٩٦٧: أسرار وخبايا”، ص.٦٩ [↩]
- أمين هويدي، “حرب ١٩٦٧: أسرار وخبايا”، ص. ٦٤ [↩]
References
↑1 | Richard B. Parker, The Politics of Miscalculation in the Middle East (Bloomington: Indiana University Press, 1993 |
---|
احمد متولي
تحليل سليم للاحداث حتى اليوم ولا تزال نفس النوعية من القيادات تتحكم في كل شئ في مصر بل وتغولت على كل الانشطة الاقتصادية والإدارية ولم يبق إلا هزيمة مماثلة ولكنها ستكون شاملة لا عسكرية فقط.
انتظر تغييرات دراماتيكية في مصر العام القادم بأذن الله.