لو عايز تفهم احسن تركيا جاية منين ورائحة على فين عليك وعلى كتاب “تركيا: أمة غاضبة” لمؤلفه كِرِم أوكتِم Angry Nation by Kerem Öktem
الكتاب بيشرح كيف سيطر ثالوث الدولة العميقة: الجيش والقضاء وجهاز الدولة البيروقراطي، على المجتمع التركي بما فيه حكومته المنتخبة معظم المئة سنة الماضية. كرم لا يسميها “الدولة العميقة” بل “دولة الرعاة” لانهم فاكرين نفسهم بيحموا الدولة فعلا، بيحموها من مين بقه؟ من الناس.من أي ناس؟
الرعاة دول بيحموا تركيا من ١- الناس اللي ما يستاهلوش يبقوا اتراك (زي الأكراد والأرمن والعلويين) ، ٢- الناس اللي دماغهم اتفشخت و”متخلفين” تحت تأثير النسخ اللي مش مقبولة من الاسلام السياسي عند هؤلاء الرعاة، ٣- من أعداء الأمة التركية في البلقان واليونان … وساعات أوروبا (المعشوقة المكروهة).
وفي سبيل هذه الحماية تحالفت النخبة العسكرية واجهزتها الأمنية والقضاء واجهزة الدولة من اجل خلق نسخة من المواطن التركي المثالي: مسلم سني حنفي علماني تركي العرق. تركيا بالمعنى ده لم تكن علمانية على الطراز الفرنسي بل خلقت نسختها من الاسلام كممارسة وكفاعل سياسي. وعشان ده يكمل كان لازم مذبحة الأرمن في ١٩١٥ (مسيحيين ولهم علاقات خارج الحدود الجديدة) تفضل ممنوع الكلام عنها ولازم يفضّل الأكراد (حرفيا) تحت الجزمة (ما عندهمش عرقية تركية ولهم روابط في دول اخرى) من ساعة خلق الدولة التركية الكمالية الحديثة بعد الحرب العالمية الاولى، والعلويين يندبحوا ويتطاردوا زي ما حصل في درشيم في ١٩٣٧. المهم ده تاريخ لكنه مش مكتوب كويس في المدارس التركية ولا يعرفه كويس القارىء بالعربية لانه لِسَّه تاريخ فاعل وعشان كدة لِسَّه بتتخانق على عبد الناصر وعلى محمد عليّ.
التفاصيل مكتوبة بسلاسة مذهلة وهدوء وتوضح ايه اللي حصل للدولة العميقة في اخر ٤٠ سنة او تحديدا من اول انقلاب كنعان إيفرين ١٩٨٠ ثم عودة الانتخابات (من اخر الاربعينيات ودايما تركيا فيها الانتخابات بجد الى معنى كبير جدا) وفترة تورجوت أوزال (١٩٨٣-١٩٩٣ بادوار مختلفة) وصعود وهبوط الرفاه والفضيلة ثم مرحلة العدالة والتنمية او اردوجان من سنة ٢٠٠٢.
لا يمكن فهم ما حدث بتركيا دون فهم صعود المواطنين وفكرة حق المواطن (وخاصة على حساب تصور متحجر انتهازي وأبوي ودموي للدولة) في اخر عشرين سنة بسبب تحولات اقتصادية عميقة استهلها أوزال في عمله السياسي في الثمانينات والتسعينيات وخاصة دمج تركيا في اقتصاد السوق العالمي (صارت في لحظة في المرتبة ١٥ عالميا من حيث حجم الاقتصاد) ومعها دخلت قطاعات واسعة خاصة من الأناضول بل ومن البورجوازية الكردية عالم النخب المعولمة وباتت تركيا تصنيعيا وقانونيا واستهلاكيا وتمويليا جزء من هذا العالم. وهمذا بات اصعب فأصعب ان يشتغل جهاز المخابرات العسكرية ويسوق نخبة اوسع كهذه او أن يشوش تفكيرها بسهولة ديماجوجية اليمين الاتاتوركي المتحجر والمتعارض مع مصالحها بل ان هذه النخبة رغم ميولها المحافظة فان تعاونها مع سرديات وأيديولوجية العدالة والتنمية مشروط ويجري التفاوض عليه، ولكنها لن تقبل تهويمات بقايا الاربكانية في حزب الفضيلة مثلا.
الكتاب يفصل تاثيرات محاولات تركيا الانضمام للمجموعة الأوروبية ويمس علاقاتها المعقدة مع امريكا ومع حلف شمال الأطلسي ويوضح تحول تركيا شرقا في الالفينات مع استراتيجيات داوود أوغلو وخلق محاور تركية ومع ايران والمنطقتين العربية والإسلامية بشكل يتضح فيه دور الاقتصاد والجغرافيا السياسية وتعقد مصالح دولة نشطة مثل تركيا.
الدولة العميقة كاتا في اضعف أحوالها في ٢٠١١ في تركيا وكانت السيناريوهات المطروحة ١- انقلاب عسكري فعلي جديد (مش زي السخافة والبلاهة اللي حصلت من سنتين)، ٢- استمرار تحول تدريجي لدولة ليبرالية حديثة تفصل بين السلطات ويكون دور القضاء فيها الدفاع عن المواطن والجيش حماية الحدود من عدوان خارجي) او ٣- تحول اسلاموي على طراز العدالة والتنمية يصبح فيه هؤلاء الناس هم الرعاة الجدد.
فماذا يا ترى حدث من ٢٠١١ حتى ٢٠١٩؟ كريم خلص كتابه ونشره أواخر ٢٠١٠. اللي عنده مقالات كويسة وعميقة او كتب عن اخر عشر سنين يقول لنا عليها. انا شايف خلطة من اخر سيناريوهين هي اللي بتحصل بس مش متأكد ومعرفش تركيا.
الكتاب موجود بالعربية وترجمه الكاتب والباحث مصطفى مجدي الجمال بعنوان “تركيا: الأمة الغاضبة” ونشرته دار سطور في عام ٢٠١٢. قرأت الأصل الانجليزي لانه ما توافر لدي هنا في محبسي في المستشفى التركي الامريكي (وللأسماء دلالة).