المدونة

مع حلول العاشر من فبراير ٢٠١١ كان التوجه واضحاً لمن يسيرون في اروقة الخارجية والبيت الابيض في واشنطن أو كبار رجال المؤسسات الأمنية في مصر والسعودية واسرائيل وهو أن على مبارك أن يرحل وأن الجيش سيكون ضامن مرحلة الانتقال التي ستكون لا شك مضطربة في مصر. وتنفس الجميع في هذه الأروقة بارتياح مشوب بقلق. كان بعضهم يرغب في بقاء مبارك وأجرى اتصالات هاتفية علت فيها الاصوات احيانا  من الرياض وتل أبيب مع كبار المسؤولين الأمريكيين وفقا لعدة تقارير الصحفية. ولكن أوباما ومستشاريه المقربين صاروا على قناعة تامة ان مبارك مات سياسيا منذ الثاني من فبراير والتحدي كان في كيف يساعدون في ادارة الفترة الإنتقالية.

اتفقت كل الاصوات في واشنطن وعواصم اوروبية على أهمية الحفاظ على تماسك وقوة الجيش المصري لأنه بات الضامن الوحيد لأمن البلد والمانع الوحيد من وقوع زلزال قد تتردد توابعه في المنطقة كلها وخاصة في اسرائيل وجنوب اوروبا والخليج. كل هؤلاء كانوا يخشون أربعة أمور محددة وفقا لحوارات اجريتها مع مسؤولين أمريكيين وأوروبيين: (١) أعمال العنف المدفوع سياسياً أو الارهاب (خاصة عبر الحدود)، (٢) التهريب (مخدرات وسلاح وبشر وخاصة لأسرائيل وجنوب اوروبا)، (٣) ان تصبح قناة السويس ممراً غير أمن للملاحة، (٤) والأسوأ قاطبة، وهو ان ينهار السلام المستقر بين مصر واسرائيل.  لم تكن عناصر هذا السيناريو الكابوسي مستبعدة جزئياً او سوياً خاصة ان معظم مؤسسات الدولة في مصر، وفقا لعشرات التحليلات الأمريكية والأوروبية المنشورة، تفتقر الى الحد المطلوب من التماسك بعد عقود من النخر المستمر في أسسها والتدخل في عملها من جانب المؤسسات الأمنية. ومع سقوط الشرطة (المؤقت) في اواخر يناير ٢٠١١ بات الجيش (أو على الأقل تم تصويره هكذا بنجاح في مصر وخارجها)  حائط الصد الأخير ضد الفوضى الشاملة.

ومع خروج مبارك من السلطة في ١١ فبراير، اعتقدت الادارة الأمريكية انها عبرت الزلزال بأقل الخسائر. صحيح ان حلفاء واشنطن في الرياض وتل ابيب كانوا غاضبين، وان مستقبل مصر صار غير واضح من ناحية تأثيره على المصالح الأمريكية، ولكن ان يتغير النظام (أو رأسه الشائخ على الأقل) في القاهرة ولا يزيد الضحايا عن مئات، وأن تكون واشنطن قد انقلبت بنعومة على هذا الحليف العجوز بل ونجحت جزئيا في تصوير نفسها على انها في جانب الثورة والحرية والديمقراطية — كان هذا كله يمثل نجاحاً للدبلوماسية الأمريكية والدور الكبير الذي لعبته في انتقال السلطة في مصر (وليس على الاطلاق في اندلاع الثورة او التخطيط لها كما يدعي كثيرون دون أي ادلة او مصادر يعتد بها). وبدأ المخططون في الخارجية والسفارة الأمريكية في القاهرة في النظر الى المستقبل وصار الدور المحتمل لجماعة الأخوان المسلمين أكثر أهمية وتزايدت الإتصالات بيد أن واشنطن كانت تتحرك دون خطة واضحة بل في الأغلب كرد فعل لما تفعله وتقوله الفصائل السياسية المصرية في الشارع وفي الغرف المغلقة.

ولكن قبل ان تلتقط واشنطن المهمومة بالسياسة الخارجية انفاسها بدأ المراقبون يتساءلون من ستكون الدولة المقبلة في قطع الدومينو العربية التي بدأت تتساقط.

وقف متظاهرون يحملون العلم الليبي على الناحية الاخرى من مبنى الامم المتحدة الضخم في نيويورك بعد ظهر أحد ايام منتصف فبراير البارد في عام ٢٠١١. قررت ألا أذهب لمكتبي وعبرت الشارع إليهم وسألت أحد المتظاهرين: “ماذا سيحدث؟” فقال بيأس: “لا شىء. ليبيا ليست مثل تونس ومصر والقذافي مجنون وقوي وسيقتل الألاف أو عشرات الالاف لو أضطر وليس لدينا جيش يتدخل لحمايتنا في نهاية المطاف كما في مصر ويخلع القذافي او يقف على الحياد مثل تونس. لدينا  ميليشيات متعددة يسيطر عليها ابناء القذافي واقاربه وستقتل كل من يقف في طريقها.” بدت أحتمالات انتقال توابع الزلزال السياسي الذي ضرب المنطقة الى ليبيا بعيدة وإلى سوريا مستحيلة. ولكن الزلزال أستمر ليس عن طريق العدوى من شعب إلى اخر وان كانت الشعوب لا شك قد باتت مستعدة اكثر بعد ان رأت نجاح غيرها، ولكن العامل الرئيسي كان ان هذه الأنظمة بلغت من الفساد والفشل حدا صارت معه الثورة أو الفوضى حتمية وكانت البشائر ظاهرة لكل من يمعن النظر في الاعوام القليلة السابقة على الثورة.

بيد أن ثورتي تونس ومصر كانتا الفصلين الأسهل في الربيع العربي (١٨ يوما في مصر وثلاثة اسابيع في تونس ومئات من الضحايا في البلدين سوياً). لقد نجح الجيل الشاب والأصغر سناً في هاتين البلدين في أن يحقق في اسابيع معدودة وبطرق سلمية ما عجزت عنه منظمات إسلامية قوية او جماعات إرهابية مسلحة في عقود. ولكن العقيد الأخ زعيم زعماء افريقيا والعرب معمر القذافي كان مجنونا بالعظمة ومعروفاً بقدرته على ارتكاب الحماقات القاتلة او السخيفة دون رادع مثل انتاج شريط فيديو موسيقي حول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس أو إحاطته لنفسه بحارسات من النساء الجميلات او الملابس غريبة التصميم التي كان يرتديها وثوراته العصبية غير المكبوحة وخطبه الطويلة غير المفهومة وتعامله القمعي والأرعن في مجال السياسية بداية من تحطيم مؤسسات الدولة دون وضع أي شىء معقول محلها واغتيال المعارضين السياسيين دونما اسباب ودون ان يكونوا يمثلون أي خطر حقيقي على سلطاته. وترك القذافي الفقر يتزايد في البلاد التي كانت تحصل على مليارات الدولارات سنويا من مبيعات النفط التي استغل جزء منها في مغامرات غير محسوبة في أفريقيا والعالم العربي وموّل جماعات إرهابية وجماعات سياسية معارضة في المنطقة وفي أوروبا.

وبدأت المظاهرات في ليبيا في نفس اليوم الذي رأيت فيه هذا المتظاهر الليبي الخائف في نيويورك – في منتصف فبراير – بعد سقوط مبارك بايام قليلة. وكانت الشرارة اعتقال محامي في بنغازي. وسرعان ما تحولت الاحتجاجات الصغيرة إلى مظاهرات شارك فيها آلاف الإشخاص في المدينة التي طالما شعرت بالتعالي على طرابلس، عاصمة الحكم، لاسباب جهوية وقبلية.  

اعتقد القذافي آنذاك ان تنازلاته الهائلة للغرب ممثلاً في الولايات المتحدة واوروبا عندما قبل تفكيك ترسانته لأسلحة الدمار الشامل قد ضمن استقرار نظامه السياسي للأبد. وكان القذافي قد وافق في اواخر ٢٠٠٣ على التخلي عن حلم اخر من احلامه الحمقاء ببناء هذه الترسانة بعد أن نظر الى السقوط المدوي لشبيهه الأقل حمقاً والأكثر اندفاعا وتدميراً، صدام حسين، وتفكيك ترسانة العراق بل والعراق نفسها الى حد ما  واسقاط  صدام ونظامه في اسابيع معدودة. أعاد الغرب دمج ليبيا بسرعة فائقة وتكالبت الدول على تعاقدات مغرية بمليارات الدولارات من أجل إعادة التعمير والتنقيب عن النفط. وفتحت واشنطن سفارتها في طرابلس في عام ٢٠٠٨ بعد ان رفعت ليبيا من قائمة الدول الداعمة للأرهاب. وبعد التخلص من ترسانة الإسلحة الليبية لم تعد هناك مصالح او تهديدات استراتيجية للولايات المتحدة في ليبيا. كانت هناك فقط تعاقدات واموال سعت الشركات الأمريكية للإستفادة منها في منافسة فازت بمعظمها الشركات الأوروبية. يختلف الأمر قليلاً بالنسبة لأوروبا حيث ان دولا عدة فيها تعتمد على النفط والغاز الليبيين بينما تخشى دول اخرى من التدفق المتزايد للمهاجرين غير الشرعيين من افريقيا عبر ليبيا. وتنتج ليبيا اثنين في المائة من نفط العالم وتحصل اوروبا على ٨٥٪ في المئة من هذا الإنتاج وتعتمد دول مثل إيطاليا وفرنسا على ليبيا من اجل ٢٢٪ و ١٦٪ من احتياجاتها من الطاقة سنوياً على الترتيب.

كان تقويم الوضع في واشنطن انه ليس للولايات المتحدة مصالح قومية محددة في ليبيا تستدعي الوقوف مع نظام القذافي او ضده. كانت المصلحة الثانوية هي ان يكون هناك استقرار سياسي في تلك البلد يضمن استمرار تدفق الطاقة للحلفاء في اوروبا ويمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين باعداد أكبر. ولكن التقارير المزعجة بدأت تتدفق من ليبيا عن مذابح يجري الإعداد لها في بنغازي وان ميليشيات القذافي باتت تتقدم بسهولة نحو الشرق لتسقط موقعا تلو الأخر للمعارضة المنقسمة وضعيفة التسليح والتنظيم. وبدأ الأوروبيون في الضغط من اجل تدخل عسكري سريع لمنع وقوع هذه المذبحة المحتملة بينما ظهر انقسام واضح داخل الإدارة الأمريكية ازاء افضل السبل لمواجهة هذا الوضع المتفاقم.

وتواترت التقارير على واشنطن وتزايدت نبرتها المقلقة حول المذابح الوشيكة في بنغازي مع تقدم ميليشيات تابعة للقذافي نحو المدينة. وضغط الاوربيون من اجل تدخل عسكري بينما استمر صراع سياسي داخل الإدارة الأمريكية. وعارض وزير الدفاع جيتس اي تدخل عسكري وسخر في تصريح علني ممن يستسهلون فرض حظر جوي على ليبيا قائلاً أنها  ستكون “عملية كبيرة في بلد ضخمة” وبدا انه غير مقتنع بوجود أي مصالح استراتيجية لواشنطن في التدخل عسكرياً. وبحلول منتصف مارس كانت قوات القذافي قد اقتربت من بنغازي وبات فرض منطقة حظر طيران غير مفيد في حماية المدنيين أو المعارضة المسلحة غلى أي حال. وكان البنتاجون قلقا ً من التورط في جبهة ثالثة إضافة لأفغانستان والعراق وعدم وجود أي مخصصات مالية إضافية.

وفي الناحية المقابلة دعمت كلينتون ورايس وباور بقوة التدخل العسكري وذلك لحد بعيد (ولكن ليس فقط) احتراماً للقيم الأمريكية ومسؤولية الحماية لمدنيين قد يواجهون مذابح واسعة النطاق. وأخيرا رأي أوباما ان الدول العربية يجب ان تشارك وبصفة جدية في أي تدخل مسلح لأنه لم يكن يريد حرباً أمريكية أخرى في المنطقة ضد دولة عربية بعد العراق. وعندما قرر أوباما التدخل ضد القذافي أشار بوضوح الى دعوة جامعة الدول العربية للتدخل العسكري والنداءات البريطانية والفرنسية من اجل تحرك من جانب حلف شمال الأطلسي وخشيته أن يؤدي عدم التدخل الأمريكي ألى تآكل في مصداقية وزعامة الولايات المتحدة. ووافق البنتاجون على مضض وبشرط ان يكون التدخل محدود زمنياً.

وبدعم من الحلفاء الأوروبيين، وتواطؤ روسي وصيني في مجلس الأمن، ودعم رمزي من العرب في شكل طائرات عسكرية قطرية وأماراتية شاركت في العمليات الحربية بعد ضغط من واشنطن، واتفاق واضح على ان الولايات المتحدة ستقود العمليات لأسابيع قليلة ثم تنتقل عصا القيادة إلى حلف الأطلسي، بات الطريق مفتوحاً ودخلت واشنطن الحرب ضد ليبيا. بدا امام واشنطن ان العملية العسكرية ستكون سريعة وسهلة، إذ كان النظام الليبي يتهاوي ويفتقر لقاعدة دعم إجتماعية – على عكس سوريا التي كانت مقبلة بدورها على الدخول في اعصار الربيع العربي.

وفي خطاب القاه أوباما امام جامعة الدفاع الوطنية في مارس ٢٠١١ لتبرير العمل العسكري ضد ليبيا برر الرئيس الهجمات التي قادتها واشنطن بانها جاءت إتساقاً مع القيم الأمريكية ومسؤوليتها “أمام اشقائنا من البشر في مثل هذه الظروف”، وأن التخلي عن هذه المسؤولية “سيكون خيانة لانفسنا.” وهذا قريب مما قاله الزعيم الليبي محمود جبريل لوزيرة الخارجية كلينتون قبل هذا الخطاب بعدة أسابيع في لقاء انعقد في فندق في باريس. كانت كلينتون وجبريل جالسان مع عدد من مساعدي الوزيرة الأمريكية في جناحها في وقت متأخر بعد اجتماعات عديدة اجرتها وهي تبحث مع الفرنسيين والبريطانيين امكانيات التدخل العسكري في ليبيا.  وقالت كلينتون لجبريل: “مصالح الولايات المتحدة الحيوية ليست في خطر” بسبب التطورات في ليبيا، فرد عليها جبريل قائلاً ان على الولايات المتحدة ان تكون “متسقة مع نفسها في سياساتها الخارجية ولا يمكن لواشنطن ان تدعي الدفاع عن الديمقراطية ثم تتخلى عن الشعب الليبي.”

من المهم التأكيد ان القرار الأمريكي في نهاية المطاف لم يكن فقط قائماً على دوافع مثالية من مدرسة ويلسون للتدخل لمساعدة الشعوب في تقرير المصير، ولو كانت ادارة اوباما تسلك هكذا في سياستها الخارجية لكانت قد تدخلت منذ وقت طويل في سوريا حيث وقعت مذابح راح ضحيتها حتى نهايات العام الحالي ما يزيد على ١٢٠ الف شخص في حرب بدأت بمظاهرات سلمية من اجل التحول الديمقراطي في مارس ٢٠١١ وحولها النظام وقوي اقليمية ومحلية تدريجيا الى حرب أهلية متسربلة بثياب مذهبية وطائفية. وحتى عندما هددت واشنطن بالتدخل بعد تقارير عن استعمال نظام بشار الأسد لأسلحة كيماوية ضد مدنيين قرب دمشق تراجعت بعد ان حصلت على تنازل مهم توسطت فيه روسيا ويتم بمقتضاه الآن تفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية وهو نصر مهم لأهداف الأمن القومي الأمريكي وللحليف الإسرائيلي في المنطقة ولكنه لم يوقف ماكينات القتل والمعاناة الجهنمية الدائرة في سوريا.  

وأعتقد ان المزيج النهائي من المصالح الإقتصادية والسياسية، وتأثير القيم الأمريكية، وكفاءة واحتمال نجاح التدخل العسكري بالوسائل المتاحة كان مرجحاً لكفة التدخل في ليبيا والبقاء في ساحة الدبلوماسية والحرب بالوكالة في حالة سوريا. فعلى عكس طرابلس تتحكم دمشق في جيش اكثر قوة بكثير وافضل تجهيزاً، كما ان المجتمع الدولي بل والمنطقة الآن منقسمة ازاء ما يحدث في سوريا، واخيرا فان القذافي برعونته المعتادة هدد مرارا وعلنا بابادة معارضية مثل “الجرذان” بينما نجح بشار في تصوير الأمر بعد شهور طويلة من القمع الوحشي للمظاهرات السلمية وبداية العمل العسكري المسلح ضد نظامه على ان حكومته في مواجهة مع الارهاب ومع القاعدة والجماعات الأسلامية المتطرفة. ولم يعد هذا التصوير الحكومي للأمر خاطئاً تماماً ولكن، لسخرية الأقدار، فان تطور الأمور في هذا الإتجاه كان نتيجة سياسات الحكومة نفسها والتي عملت بقسوة ومنهجية طوال عام على معاقبة وقتل وتعذيب المتظاهرين السلميين وبث الطائفية في قلب النزاع حتى وقعت سوريا فعلا فيما كان النظام يدعيه: حرب طائفية بين قوات وشبيحة (بلطجية) النظام من جهة باغلبيتها العلوية مدعومة بمقاتلي حزب الله الشيعة من ناحية، وقوات الجيش السوري الحر التي كانت اول ميليشيات مسلحة تقيمها المعارضة من ناحية اخرى، وميليشيات الحركات السنية المتطرفة المدعومة من افراد ودول في الخليج من ناحية ثالثة، وميليشيات كردية تعمل لحسابها ويتغاضى عنها النظام من ناحية رابعة، … الخ.

وبالطبع يساهم الدعم الإيراني المستمر للنظام السوري تسليحا وتمويلا والدعم الروسي في المحافل الدولية في استمرار بشار في محاولته المستحيلة لإستعادة سيطرته على بلاد ادخلها في جحيم هو ودائرته الضيقة من اجل مصالح تتعلق بالسلطة والمال والطائفة وضيق افق سياسي مريع. وكانت روسيا قد وافقت على قرار مجلس الأمن ضد ليبيا والذي سمح بالتدخل المسلح رغم انها عادت وشكت من ان لغة القرار في تفسيرها الضيق لا تسمح بمثل هذا التدخل، ولكن موسكو وقفت بشدة ضد أي تعامل لمجلس الأمن مع سوريا. ورغم ان قيم الولايات المتحدة التي لعبت دورا، ولو صغيرا، في تدخلها في ليبيا، تشجع على القيام بشىء ما في سوريا ولكنها لا تمتلك الدعم السياسي الأقليمي ولا القدرة العسكرية الواضحة ولا التفضيل الأكيد لأي من اطراف النزاع المعقد لكي تتدخل. طبعا كان من الأسهل على واشنطن التدخل لو ارادت في اواخر ٢٠١١ او اوائل ٢٠١٢ ولكن مع مرور الوقت بات من الأسهل لواشنطن ان تنتظر قطار الدبلوماسية البطىء وألا تقوم بأي عمل حقيقي من شأنه انهاء نزاع لا تعرف هي في الحقيقة كيف يمكنها انهائه ولا مصلحة واضحة لها في ايقاف نزيف الدم المستمر بسببه.

ويظل هناك سؤال اخير بشأن التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا. هل كان يمكن لواشنطن ان تساعد عن طريق تقديم الغطاء القانوني بمساعيها في مجلس الأمن وتترك حلف شمال الأطلسي ليقوم بالعمل دون دعم من البنتاجون؟ والأجابة “لا”. يفتقر حلف الأطلسي الى القدرات المتوفرة لدى الولايات المتحدة لنشر وفرض قوتها العسكرية والاستمرار في عمل عسكري لمدة تزيد عن ايام معدودة. وعلى سبيل المثال فبعد ان تركت الولايات المتحدة ارض وسماء العمليات في ليبيا باسبوعين نفدت بعض ذخائر حلف الأطلسي وقطع غيارهم مما جعل وزير الدفاع الأمريكي جيتس يسخر من الحلف ولكن صناعات السلاح الأمريكية كانت مسرورة اذ حصلت على تعاقدات عاجلة بقيمة ٢٥٠ مليون دولار من اجل تقديم قطع الغيار والذخائر وإمدادات أخرى. وبعد ثلاثة أشهر من بداية العمل العسكري ضد ليبيا دق الهاتف مرة اخرى في واشنطن حيث ان حلف الأطلسي كان يحتاج طائرات دون طيار. وفي تلك المرة رفض البنتاجون واضطر البيت الابيض للتدخل والضغط عليهم ليقدم طائرتين دون طيار يمكنهما اطلاق صواريخ على سبيل الإعارة للحلف. وكان الحلف محقاً في إصراره إذ ان واحدة من هاتين الطائرتين التقطت صورا لموكب سيارات كان يقل القذافي في اكتوبر ٢٠١١ قرب سرت ثم اطلقت عليه صواريخها. وبعد ذلك بوقت قليل قام مقاتلون مسلحون بجرجرة الزعيم القائد من داخل ماسورة مياه ضخمة مهجورة وقتلوه.

(نٌشرت صيغة اولية من هذا الجزء في صحيفة التحرير بتاريخ ١٧ ديسمبر ٢٠١٣ وللاسف لم يعد ارشيف الصحيفة متاحا)

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *