(منشور في درج بتاريخ ٣ مارس ٢٠١٨)
تحتل صحراء خالية ربع شبه الجزيرة العربية. وتتقاسم بلدان أربعة هذا الربع الخالي، السعودية واليمن وعمان والأمارات. وتسود كثبان رملية مرتفعة تلك الصحراء الممتدة النائمة فوق ثروات نفطية ومعدنية هائلة. إنها هي تلك الصحراء التي زحفت كثبانها منذ السبعينيات شمالا نحو بلاد الشام وفلسطين وغربا نحو مصر. صحراء حج إليها نخب مهنية وعمال يساعدون في التنقيب عن الثروة وتقديم الخدمات لأصحاب البلاد مقابل تدفقات مالية لأسرهم ومعيشة طيبة أو باذخة لأنفسهم. ولكن الكثبان الرملية لم تتوقف عن الحركة.
خمسون عاماً مرت منذ هزيمة العرب الساحقة في ١٩٦٧. كان انتصار إسرائيل بداية نهاية عصر القومية العربية بنسختها الناصرية المهيمنة، ونسخها البعثية الأكثر دموية. وكرست العطية التاريخية (١٥٠ مليون جنيه إسترليني سنويا معظمها لمصر) من الدول العربية الغنية للدول العربية المهزومة في مؤتمر قمة الخرطوم في نفس العام هذا التحول. ودشّن عبد الناصر طريقاً جديداً سار فيه السادات بهمة وسرعة، حتى سلك مخرجاً منه، وعقد معاهدة سلام مع إسرائيل، بعد سنوات من طفرة هائلة في أسعار النفط.
لم تدعم السعودية السادات علنًا، ولكن البلد الذي تمنى ملكه أن ينسحق عبد الناصر أكثر في حرب ١٩٦٧، وتعاون مع إسرائيل من أجل دحر التدخل المصري في اليمن، كان ربما متفائلا بمستقبل المنطقة تحت مظلته، بعيداً عن الحرب والإيديولوجيات القومية الداعية لتقسيم الثروة التي يملكها هو والاحتفاظ بالسلطة والشعبية التي يملكونها هم.
وفي الثمانينيات صارت السعودية تدريجياً الأخ الأكبر للمنطقة، مع تمتينٍ مستمر لتحالفها القوي المباشر مع الولايات المتحدة، ضامنة الأمن الإقليمي وصديقة إسرائيل والخليج ومصر. وانفقت الرياض مليارات تلو المليارات على مشاريع انشائية وأسلحة وأسهم وسندات خزانة حكومات غربية. عملت الرياض أيضاً على مكافحة الشيوعية ودعم الجهاد في أفغانستان، وتمكين الإسلام الوسطي المعتدل (ذلك الذي يمكن فيه للمطوعين السيطرة على الشارع وللنخبة والامراء والأجانب فعل ما يريدون في تجمعاتهم السكنية المغلقة أو في نوادي وشوارع أوروبا).
وعندما جُنّ الطاغية صدام حسين وغزا الكويت في ١٩٩٠، أرسلت واشنطن نصف مليون جندي تمركز معظمهم في السعودية لاعادة صدام الى بلاده يفعل فيها ما يشاء، في حدود. واستقر النظام الأمني الإقليمي رغم مناوشات مع ايران الساعية ابدا لحماية نفسها، بنفسها، وان يكون لها دور إقليمي، رغم آمال لم تتحقق من تعاون سعودي لم يكن جديا مع نظامي خاتمي ورفسنجاني.
ارتخى الجميع في تلك السنوات واستمرت سياسة الاحتواء المزدوج الأميركية تضع إيران والعراق على مسافة آمنة من آبار النفط وإسرائيل. وجلس عرب كثيرون على أبسطة فخمة أمام خيام كبيرة، بينما أُوقدت النيران للشواء وصار مهرجان الجنادرية والتلفزيونات ووسائل الاعلام الأخرى المملوكة للسعودية (الوطنية والإقليمية) وصداقات الأمير بندر الوطيدة مع نزلاء البيت الأبيض ومشتريات السلاح من بريطانيا وغيرها ..
صارت كلها أمور معتادة، ولم تكن قطر بجزيرتها التلفزيونية أكثر ربما من طنين ذبابة مزعجة بالنسبة لوحيد القرن هذا، يهشّها كلما اقتربت أكثر من اللازم. عاشت المنطقة في هذه الأجواء على السطح من منتصف التسعينيات حتى أواخر الالفية، وامتصت توابع هجمات ١١ سبتمبر/ايلول باقتدار ومهارة.
ثم وقعت انتفاضات ٢٠١١، وسالت دماء كثيرة من على جوانب قدور الضغط التي كانت تُطبخ فيها هذه الشعوب منذ عقود. وكانت هذه أيضا بداية النهاية للحقبة السعودية، نهاية درامية قد تستغرق عدة سنوات، حيث تزحف كثبان رمل بلا هوادة على ممالك القبائل والشركات والاسر الحاكمة وجمهوريات الجيوش والميليشيات ورجال الأعمال.
وقد وارت الرمال، بسبب العجز والمرض، كل أولاد الملك المؤسس. ومنذ ٢٠١١ تُوفي عبد الله وسلطان ونايف وأصغرهم في نحو الثمانين من العمر، ولم يبق في سدة الحكم سوى سلمان الذي يُعتقد أنه يعاني من مرض الخرف، بينما صارت السلطة فعليا في يد ابنه محمد، الذي صار وليا للعهد في يونيو /حزيران الماضي. ومع صديقه ولي عهد الامارات محمد بن زايد، انفتح الباب أمام قيادة جديدة للنخبة النفطية، قيادة غير معنية بمعظم تقاليد ومؤسسات الربع الخالي، بل تعتقد ان بقاء أسرها في السلطة، معتمد على أعادة تشكيل هذه المؤسسات، وعلى التدخل في المنطقة والقيام بنفسها، بما كان يقوم به الراعي الأميركي، بل والتفكير في مخرج اقتصادي من مأساة النفط الآخذ ريعه في النفاد. شباب يحب ويجيد التشحيط والتفحيطوالتزلج على الرمال وليس معنيا بليال الشواء والصحراء.
وتصالحت النخب المالية والاجتماعية أو أُجبرت على التوائم والتعاون سريعاً مع المحمدين، اللذين واصلت انظمتهم المتشكلة سريعاً إحكام السيطرة على نخب بلادهم، وعلى المؤسسات الأمنية والنفطية وعلى منصات إعلامية وفروع جامعات اجنبية ومراكز بحثية في قلب المدن الغربية وشركات ضغط أمريكية. وحاولا في الطريق، وإن فشلا حتى الان، سحق “الذبابة” القطرية التي ما زالت تطن في أذانهم مدفوعة بأسبابها وخوفها من أن يجري ابتلاعها بدورها.
وسريعاً ما تشكّل نظام أمن إقليمى جديد مدفوعا بتبعات الانسحاب الأمريكي، من دور الراعي الرئيسي، والتمدد الروسي والإيراني والتركي في المنطقة. وصار هناك حلف اميركي-اسرائيلي-سعودي- أماراتي، بينما يتشكل حلف اخر ولكن أعضاءه لم يتفقوا بعد، وربما لن يتفقوا ابدا ، على اطار عمل مشترك وهم ايران وتركيا وروسيا.
السعودية والامارات تحاربان في اليمن دون اي استراتيجية واضحة للنصر او انهاء الحرب، بينما ما زالتا تدعمان باشكال مختلفة وكلاء وعملاء وحلفاء في العراق وسوريا وليبيا. ومن ناحيتهم فان تركيا وايران وروسيا لهم قوات على الارض، او حلفاء يقاتلون باسمهم أو بدعمهم في سوريا واليمن ولبنان وليبيا. والقوى الغربية، فرنسا وبريطانيا وامريكا، صارت تورد اسلحة و/أو تقوم بضربات عسكرية بنفسها مباشرة عندما يتراءى لها ضرورة القيام بهذا في اليمن وسوريا وليبيا.
ونهاية تقف في زاوية الغرفة التي يختبأ فيها الجميع من الكثبان الرملية الزاحفة القوى العربية التقليدية، التي سادت حتى اوائل الثمانينيات (مصر والعراق وسوريا)، فتحتل الان مقاعد في الصف الثاني أو الثالث لاسباب سياسية واقتصادية وعسكرية عديدة.
ومع كل هذا، فالعصر السعودي/الاماراتي غير مستدام وغير قادر على البقاء لاسباب عديدة منها التحول الهيكلي في أسواق الطاقة الكونية، اضافة الى التوازنات الديمغرافية وعدم الاستقرار السياسي في الدول الضخمة مثل العراق ومصر وسوريا، وانتهاء بالنجاح النسبي لإيران في الدفاع عن نفسها بل وفرض دور متعاظم في المنطقة، رغم ضغوط أمريكية وإقليمية عنيفة منذ ثورة ١٩٧٩ التي قطف الخميني وولاية الفقيه ثمارها.
مداخيل النفط والغاز مصدر القوة الوحيد تقريبا للرياض وأبو ظبي، ولكن هذه القوة الخشنة (دبلوماسية الشيكات المصرفية) تتآكل بانتظام، مع تزايد احتياطيات الطاقة ومصادر توليدها الأخرى الجديدة في انحاء العالم. ورغم مساعي التجديد والإصلاح من جانب النخب السلطوية الحاكمة أو القاتلة في شتى انحاء المنطقة، ومحاولات اجتذاب الشباب الذي تزيد نسبتهم عن ستين في المائة في بعض هذه البلدان، لا يبدو أن معظم الشباب يهتمون بمقولات وحجج ومشاريع هذه الانظمة المفلسة، بينما يفيض الإيمان العدمي عند بعضهم ليمدهم بالوقود اللازم لمواجهة دموية يسمونها جهادًا.
هذه، إذن، في الأغلب نهاية التحولات التي مرت بها المنطقة منذ الهزيمة المذلة لانظمة الاستقلال الوطني في ،١٩٦٧ ثم استقرار نظم لصوصية مُدارة أو مدعومة باجهزة أمنية لا يحاسبها أحد على انقاض نظم القومية العربية والملكيات القبلية، باستثناء هنا ونصف استثناء هناك. لم تكن مشاريع درامية مثل السلام مع اسرائيل (في كامب ديفيد أو في أوسلو) أو مشروع السلام والأمن الأمريكي Pax Americana سوى مسكنات مؤقتة. رفضت النخب والنظم دفع الأثمان المطلوبة لاأها ستأتي من جيوبهم، وهم يفضلون الاستمرار في وضع أيديهم في جيوب الآخرين.
لم تكن هذه النخب قادرة منذ الاستقلال على قيادة تغيير حقيقي أو السماح به. وتجلى هذا في انتفاضات ٢٠١١ التي لم تنته توابعها بعد، ولكنها بلورت معسكرات واضحة لمن يريدون فرض رؤيتهم بالقوة في المنطقة: السلطوية الجديدة التي يقودها ويدعمها المحمدان، بن سلمان وبن زايد، والعدمية الداعشية الجهادية التي يدعمها أفراد وجماعات كثيرة في الخليج والعراق وسوريا والعالم لأسباب مختلفة، و الانتهازيون المستمرون فيما كانوا يفعلون من قبل مثل إسرائيل وامريكا وروسيا وايران وتركيا، وأخيرا أصحاب الأدوار الثانوية في العراق ومصر والجزائر والمغرب (لا يمكن صناعة فيلم او سياسة دون هذه الأدوار فهذا ليس تقليلا منها ولكن تحديدا لحجمها).
وكل هذا التفتت لا يصنع نظاماً، ولكن حياة أو تيه في الربع الخالي بين الكثبان المتحركة، يمكن أن يستمر لوقت طويل.