(منشور في درج بتاريخ ١٠ نوفمبر ٢٠١٧)
يبدو أن الديمقراطية قد وصلت إلى مفترق طرقٍ، بلا علاماتٍ إرشاديةٍ في شتى أنحاء العالم. وفي دولةٍ بعد أخرى، باتت أصوات مزيدٍ من الناخبين، توصل إلى مقاعد البرلمان، بل وقصور الرئاسة، سياسيين يحتقرون الناس، أو على الأقل، لا يبالون بغير القادرين منهم. ساسة سلطويون، دكتاتوريون جدد، وحمقى. ويشترك هؤلاء الساسة في تشجيع العنف في مجتمعاتهم وخارجها، من دونالد ترامب في واشنطن، إلى ناريندرا مودي في نيودلهي، ومن رودريغو ديتورتي في مانيلا، إلى نيكولاس مادورو في كاركاس. والأمثلة في منطقتنا تقارب عدد الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية.
عام 2011، خرج ملايين العرب في تونس والقاهرة وحمص وصنعاء وبنغازي والمنامة وغيرها، يطالبون بإسقاط الأنظمة. واليوم، في ما عدا تونس، التي تواجه نخبها الحاكمة كوكبةً معقدةً من المشكلات، فشل الآخرون بدرجاتٍ متفاوتة، وسقط البعض في هوة حربٍ أهليةٍ، لأن النظم كانت أكثر شراسةً وبدائيةً وفساداً من أن تتكيف، بينما تولى أخوةٌ كبار في الخليج “ضبط” أمور البحرين لصالح استمرار الأسرة الحاكمة.
وفي مصر، عادت الأجهزة الأمنية، وبيروقراطية الدولة، ورجال أعمالٍ، بعد تجربةٍ قصيرةٍ وفاشلة لحكم الإخوان المسلمين، للسيطرة على مقاليد الحكم، واتباع سياساتٍ نيو ليبراليةٍ غير مسبوقة الحدة. ويدفع المصريون، المهتمون بالعمل العام، الآن ثمناً مروعاً من حرياتهم وتُتنقص قدراتهم على العمل، وذلك للمحظوظين منهم خارج السجون، بينما يتآكل مستوى معيشة وقدرة الفقراء والطبقة الوسطى بسرعةٍ مروعة. وفي الوقت نفسه، تواجه البلد هجماتٍ متزايدةٍ من جماعاتٍ جهاديةٍ متطرفة، قاعدية أو داعشية.
في كل هذه البلدان، لم تعد الديمقراطية بأشكالها المعتادة (إلقاء أصوات في صناديق من أجل أن يحكم الفائز بأكثرها البلاد بمفرده أو عن طريق حزبه) هي الهدف المنشود. كل هذه الأنظمة ربما تكون سلطويةً، لكنها لا تسيطر على الناس فقط بقوة السلاح، بل هناك قطاعات واسعة التأثير تؤيدها، بينما الخاسرون، وهم غالبية عددية ضخمة، يبدون فاقدين للأمل ومفتقدين لحلمٍ بديل.
لا يخص الألم منطقتنا فحسب، بل إن أحلام التحول الديمقراطي التي تصاعدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، تتراجع حتى في بلدان منشأها في أوروبا الغربية وفي بلدانٍ نامية عريقة الديمقراطية مثل الهند. وبات اللاعب السياسي الأكبر (أو على الأقل الصاعد بقوة) في هذه الديمقراطيات الليبرالية الآن، أحزاب يمينية تسعى للدفاع عن هوية مفترضة، ويعتقد الداعون إليها، أنها مشتركة بين السكان الأصليين أو “السكان الأهم”، سواء كانوا هندوس في الهند، أو بوذيين في بورما، أو بيض قوقازيين، أو مسيحيين في المجر والنمسا وهولندا وألمانيا وغيرها من بلدان أوروبا.
وفي دول الجنوب، التي كانت واعدة مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وفنزويلا، تراجعت الديمقراطية الاشتراكية هي الأخرى، لصالح أنظمةٍ لصوصيةٍ أو متهمةٍ بالفساد والإفساد على نطاق واسع، خصوصاً في جنوب أفريقيا والبرازيل.
ولنأخذ الهند كمثال، حيث يسيطر على الحكم منذ عام 2014 أكبر حزب من ناحية العضوية في العالم، وهو حزب بهارتيا جاناتا، الذي يتبنى سياسةً محافظةً اجتماعيةً لدعم الهوية الهندوسية، وسياساتٍ اقتصادية نيو ليبرالية، تزيد الفقراء فقراً، وتعلي من وحشية ودرجة إقصاء الأقليات باختلافها، وتزيد بدورها لأسبابٍ عديدة من حدة العنف المجتمعي، سواء ضد النساء أو ضد الطبقات الهندوسية الأدنى أو أتباع الأديان الأخرى. فارتفعت جرائم الاغتصاب من 25 ألف حالة عام 2013 إلى 34 ألف حالة عام 2015، بعد وصول مودي للحكم بعام واحد. ووصلت الوحشية إلى مراحل عبثية، إذ اغتصب شاب عمره 25 عاماً، امرأةً معمرةً يزيد عمرها عن مئة عام الشهر الماضي، وماتت السيدة التعيسة بين يديه. وقعت 63 عملية قتلٍ وطعنٍ وإيذاءٍ وحشي، شارك فيها أعداد من الهندوس التابعين لجمعيات “حماية البقر” المقدس منذ عام 2009. لكن 61 حادثة منها وقعت منذ وصول حزب جاناتا للحكم. وأدت هذه الحوادث إلى مقتل 28 هندياً منهم 24 مسلماً، بينما جُرح 124 آخرون. وزادت الفوارق بين ثروة الطبقات العليا والدنيا إلى أعلى مستوى لها منذ 92 عاماً، إذ يملك أغنى واحد في المئة من الهنود 53% من الدخل القومي، بينما يحصل نصف الشعب الهندي الأفقر على 4.1% فقط من الدخل القومي. وتبقى الهند في وضعٍ أفضل قليلاً من روسيا، حيث يسيطر أغنى واحد في المئة على أكثر من 70% من الثروة.
ويخلص الباحث عمرو عادلي في دراسة حديثة، إلى أن هذه النظم الحاكمة، أصبحت “تستخدم سلطة الدولة العامة للحصول على مكاسب مادية ضخمة للنخب الحاكمة وللمقربين منها في أشكالٍ شبه إقطاعية، يكون فيها الحكام، هم المالكون لرأس المال والثروات والحصص السوقية الأكبر، على حساب الرفاه العام للسكان، وبالطبع على حساب حرية السوق والمنافسة، وعلى نحوٍ يرسخ من الاستبعاد والتهميش السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي معاً، عادةً تحت زعم مكافحة الإمبريالية أو حفظ الأمن القومي…”.
وداعاً إذن للديمقراطية الإجرائية المعنية فقط بحقوق الملكية الخاصة وحكم القانون (الذي قد يكون ظالماً أو صعب الاستغلال للفقراء)، والمعنية بالحقوق السياسية والمدنية فحسب، والمتبنّية لسياساتٍ نيو ليبرالية اقتصادية صارت سائدة منذ الثمانينيات، ومهيمنة على العالم كله منذ أواخر التسعينيات.
علينا الآن أن نبحث عن طوباويةٍ جديدة، عملية، وتهمّ غالبية الناس، ويصير لهم نصيب فيها وفي خيراتها العامة، من دون أن يصبحوا مهووسين بحلولٍ يسوّقها زعماء حمقى وقصيري النظر ولصوص، من أجل نخبةٍ صغيرةٍ من المستفيدين.
علينا البحث عن ديمقراطيةٍ تجذب الناس من مخالب اليأس المطبق، الذي يدفع بعضهم إلى أحضان ميليشيات الدولة الإسلامية، التي تريد قتل واسترقاق جميع ما عداها، لأنها في نهاية المطاف لا تريد إصلاح العالم بل دخول الجنة بحسب عقيدتها.
علينا أن نبحث عن طوباويةٍ جديدةٍ لأن دونها حريق يتسع، ودماء تسيل، وحياة تصير أكثر بشاعةً لنا جميعاً، من دون استثناء. علينا أن نقول وداعاً للديمقراطية بصورتها القديمة، ونعيد خلقها في صورةٍ لا تتجزأ فيها الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية.
وصل العالم إلى مفترق طريقٍ، يتعين فيه أن يكون حق الواحد في الحصول على حد أدنى من الرعاية الصحية والتعليم والسكن، بأهمية حقه في خوض الانتخابات، أو تشكيل جمعيةٍ أهليةٍ أو اختيار هويته الجنسية. هو طريق طويل، لكن لا خيار آخر سوى السير فيه، بل وتمهيده وفتحه أثناء المسيرة الطويلة التي لن نرى نهايتها، في حياتنا نحن على الأقل.