نُشر في المفكرة القانونية ١٤ يناير ٢٠٢٥
أهالي المغيّبين السوريين في محطة قطار الحجاز في دمشق
نظرا إليّ بعتاب. أدرك أحدهما أنني لم أتعرّف عليه، ذكّرني بنفسه، كم شاخ في السنوات القليلة الماضية. وخلال ثوانٍ وفي أحضان الصديق الآخر ارتجف جسده وبكى بينما ارتعشت حزنًا وأسى، وانفصلنا للحظات عن عائلات وأفراد وقفوا بجوارنا أمام محطة قطار الحجاز في دمشق. أمّهات وآباء، أشقّاء، بنات وأبناء، أصدقاء ورفاق، كلّهم يحملون بين أياديهم أو فوق رؤوسهم لافتات تحمل صور وأسماء أحباء وأعزاء، هم بعض من آلاف السوريين ممّن اختفوا على أيدي نظام الأسد الدموي في العقود الخمسة الماضية.
وفي بعض التقديرات يتجاوز عدد المغيّبين والمختفين في الفترة (2011-2024) 110 آلاف شخص كما أنّ هناك نحو 15 ألفًا آخرين اختفوا في ما يُعتقد أنّه على يد ميليشيات المعارضة المسلّحة في هذه الفترة. وتضمّ القوائم المتداولة واللوحات في وقفة محطة الحجاز التي حضرتها في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر أطياف ومناطق وهويّات سوريا المتعدّدة وبعض من اشتهرت أسماؤهم في السنوات القليلة الماضية مثل:
زكي كورديللو، أستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق ورائد لمسرح خيال الظل، اعتقله النظام في أغسطس 2012 مع ابنه مهيار وشقيق زوجته وصديق، ومصيرهم مجهول.
خليل معتوق، محام وناشط حقوقي، اعتقله النظام مع زميله محمد ظاظا في 2012
عبد العزيز الخير، عضو حزب العمل الشيوعي، اعتقله النظام في سبتمبر 2012 وانقطعت أخباره، من أسرة تنتمي للطائفة العلوية التي تسربل بها واستغلها النظام الأسدي.
رزان زيتونة، محامية حقوقية، اختطفها فصيل جيش الإسلام المسلح في ديسمبر 2013 هي وزملاؤها وائل حمادة وسميرة خليل وناظم حمادي في بلدة دوما، وما زال مصيرهم مجهولًا.
الأب باولو، اختطفه تنظيم داعش في الرّقة في 2013 وما زال مصيره مجهولًا.
ولا تضمّ القوائم المتاحة أسماء من غيّبتهم أجهزة الأمن السورية منذ أوائل السبعينيات في القرن الماضي أو من قتلتهم في مجازر استهلتها في حماة في عام 1982. كما أنّ هذه القائمة لا تشمل ما قد يصل إلى نصف مليون قتيل راحوا ضحية الحرب الأهلية التي أشعلها النظام السوري ضدّ معارضيه السلميين بعد أنّ تعسكرت الثورة لأسباب متعدّدة منها القمع الوحشي للتظاهرات السلمية وحملات اعتقال وتعذيب واسعة النطاق للمعارضين. وعلاوة على ذلك يقول المرصد السوري وهو منظمة حقوقية مقرّها لندن تُعنى برصد وتوثيق الانتهاكات، إنّه وثق مقتل أكثر من 68 ألف شخص في سجون النظام البائد منذ 2011.
وينتقد البعض منهجية جمع الأرقام ويقول محمد العبد الله مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، وهو منظمة حقوقية معنيّة بالتوثيق والمحاسبة والمحاكمات، في مقابلة مع “المفكرة القانونية” إنّ “المفقودين قد يكونون أكثر أو أقل”. ولن تكون هناك أرقام دقيقة تمامًا لسنوات في الأغلب، ولكن أقلّ التقديرات مفزعة، وفظاعة الانتهاكات الموثقة في حقّ المعتقلين والقتلى على مدى السنوات مرعبة1، وكذلك الأساليب المستخدمة والرعونة المفرطة وانعدام علاقتها أحيانًا بأي هدف سياسي واضح أو فائدة مرجوة للدولة والنظام سوى الإخضاع التام والإذلال بغرض القضاء المبرم على أيّ مقاومة أو تفكير في المعارضة “للأبد”.
وفي كتاب “الفظيع وتمثيله” يقول المعتقل السياسي السابق والمفكّر السوري ياسين الحاج صالح إنّ عهد بشار الأسد تحوّل “من التعذيب الإذلالي في عهد أبيه (حافظ) إلى التعذيب الإباديّ، ومــن الموت تحت التعذيب إلى الموت بالتعذيب. كان هنــاك تعذيـب إبادي قطاعي في عهد الأب (سـجن تدمـر، والمذابح، خاصـة مذبحـة حمـاه 1982)، صـار تعذيبًا إباديًّا معمّمًا في عهد الابـن”.
كلّ ذلك يضع النظام السوري في الخانة نفسها لنظام الخمير الحمر في كمبوديا ونظام كوريا الشمالية وبعض أنظمة العسكر في أميركا اللاتينية، بحيث تشترك كلّ هذه الأنظمة بسجلّ يشمل كلّ أنواع الانتهاكات من قتل وتعذيب وإخفاء أشخاص وتدمير ممتلكات واضطهاد أقليات وجماعات عرقية ومناطقية وحرمان عشوائي من حقوق أساسية مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ولم تقصّر بعض الميليشيات المسلحة في ارتكاب الانتهاكات المشهدية مثلما فعلت داعش وغيرها من الفصائل من أعمال ذبح مسجّلة بالفيديو أو إعدام علني بالرصاص.
![](https://legal-agenda.com/wp-content/smush-webp/2025/01/image-2.jpeg.webp)
التركة الثقيلة وتقاسمها
انهار النظام السوري البعثي الذي وصل إلى الحكم في ستينيّات القرن الماضي، مخلّفًا تركة ثقيلة ستقف سدًّا منيعًا أمام بناء نظام سياسي واجتماعي جديد، ما لم يتجاوز السوريون بجهد خارق تبعات هذه التركة.
هذا العمل الصعب والشاق له عناوين متعدّدة، أبرزها العدالة الانتقالية ولها أشكال وتجارب متنوّعة في العالم، وهناك ما يمكن أن يتعلّمه السوريون ممّا فعلته مجتمعات أخرى في حالات مشابهة. ولكن هناك أمور تخصّ سوريا بذاتها تجعل إنجاز مسار العدالة الانتقالية أكثر صعوبة. وفي مقدّمة هذه الصعوبات أنّ الدولة نفسها وهي اللاعب الرئيسي في انتقال كهذا قد انهارت وغام مستقبلها بينما تفتقر سلطات الأمر الواقع في دمشق إلى القدرة والمشروعية. ويعتقد محمد العبد الله أنّ حكومة الأمر الواقع بقيادة أحمد الشرع غير مؤهّلة وليس لديها من المشروعية والرغبة ما يجعلها قادرة على القيام بهذا الدور.
وتحدّدت ملامح نظم العدالة الانتقالية في تسعينيات القرن الماضي خاصة مع مذابح رواندا وتفكك يوغوسلافيا من منطلق عجز أجهزة العدالة العقابية/ الجزائية المعتادة في الأوضاع “الطبيعية” عن التعامل بشكل مرضٍ مع انتهاكات واسعة النطاق وعظيمة التأثير. وبالإضافة إلى إنزال عقاب ما، تعتمد هذه المقاربة على منطق العدالة التصحيحية أو التعويضية وذلك من أجل إصلاح الهياكل المسؤولة وضمان عدم التكرار وتعويض الأفراد والمجتمعات بهدف جبر الضرر والمساهمة في التئام جروح غائرة في النفس يمكنها أن تفجّر المجتمع.
هناك لا شك مسؤولية فردية وجماعية يحملها السجّانون والقتلة والمختطفون و”الشبّيحة”2 وميليشيات مسلّحة تابعة للنظام أو ميليشيات أخرى مناوئة له والقوى الخارجية ذات التواجد العسكري في سوريا. ولكن هناك مسؤولية أكبر تقع على عاتق كبار القادة العسكريين والأمنيين والسياسيين من كل هذه الفئات، كما أنّ هناك عوامل هيكلية تتعلّق بتركيبة وطريقة عمل المؤسّسات الأمنية والسياسية وشبكات النفوذ التي هيْمنت على سوريا على مدى عقود. وعلى عكس المحاكم الجنائية العادية التي تفصّل في المسؤولية الفردية لكلّ شخص عمّا وقع مستعملة القوانين السارية فإنّ مؤسّسات العدالة الانتقالية تسعى لتناول كلّ هذه الجوانب المختلفة.
ويرى فضل عبد الغني، مدير ومؤسّس الشبكة السورية لحقوق الإنسان التي تعمل في رصد وتوثيق الانتهاكات وقضايا العدالة الانتقالية، في مقابلة مع “المفكرة القانونية” أنّه “لا بديل عن المحاسبة … ولدينا قوائم بحوالي 16,200 متورّط في الانتهاكات … ويجب أن تشمل المحاسبة كلّ مرتكبي الانتهاكات ويجب أن ترجع الحقوق المسلوبة لأصحابها، وأن يكون هناك تركيز على النظام ومن ساعده في إيران وروسيا لأنّهم ارتكبوا تسعين في المئة من الانتهاكات في سوريا وفق البيانات المتوفّرة لدينا”.
ويخشى عدد من السوريين المشتغلين بهذا المجال من أنّ هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى قد تسعى إلى منح عفو عام عن كلّ الانتهاكات المرتكبة منذ 2011 لأنّها غير معنيّة بفتح ملفّات تورّطت هي ذاتها في بعضها بغض النظر عمّا إذا كانت انتهاكاتها وانتهاكات الفصائل المتحالفة معها أقلّ بكثير من حيث العدد والزمن والأثر مقارنة بانتهاكات النظام البائد. ويشير البعض إلى ظهور وزير العدل في حكومة الأمر الواقع شادي الويسي في مشاهد فيديو وهو يتلو حكمًا بإعدام امرأة مدانة بـ “الدعارة” في منطقة سيطرة هيئة تحرير الشام في عام 2015.
ويحذّر محمد العبد لله من “إصدار عفو عام” ويشدّد على أهمية ربط أي عفو “بالاعتراف” ومعرفة حقيقة ما جرى ثم وضع برامج للتعويض وجبر الضرر فرديًا ومجتمعيًا.
وإضافة إلى التحقيق في الانتهاكات الجسدية والمادية والاقتصادية (الاستيلاء على أموال وعقارات وأراض وممتلكات خاصة) سيكون هناك أيضًا حاجة لإصلاح مؤسسات العدالة وإنفاذ القانون عن طريق عمليات غربلة للكوادر والعاملين وتطهير للقيادات العليا ولكن من دون الوقوع في فخّ تسريح كلّ المنتسبين لهذه الأجهزة وخلق عداوات طويلة مثلما جرى في العراق.
ويلخّص فضل عبد الغني هذه المطالب قائلًا: “نريد محاكم ولجان حقيقة ومصالحة وإجراءات لجبر الضرر وإصلاح مؤسسات العدالة وإنفاذ القانون… نريد الاعتذار والتعويضات ورد الحقوق – وكلّ هذه مسارات يجب أن تجري بالتوازي”.
ويمكن للمحاكم المحلية تولّي الشقّ الجنائي والمحاكمات الفردية بينما تعمل هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية مع منظمات أهلية، بخاصّة تلك التي تمثّل أهالي المفقودين والضحايا، من أجل التعرّف على مصائرهم كما جرى في رواندا وكولومبيا وغواتيمالا. وهناك نماذج متنوّعة لجبر الضرر لا تقتصر على التعويض المادي للأفراد، بل تفوّقه أهمية مثل برامج إعادة تأهيل المعاقين بأشكال مختلفة مثل من فقدوا أطرافهم بسبب الحرب والانتهاكات، وتوظيفهم. ويتعيّن أن يكون جبر الضرر برنامجًا وطنيًا من أجل القضاء على “تراتبية الضحايا” سواء بين الطوائف أو المناطق، بين من ظلّوا ومن نزحوا، بين من قاتلوا بالسلاح ومن قاوموا بسبل أخرى أو صمتوا.
الأفكار كثيرة، ولكن..
هناك أدبيّات عدّة حول العدالة الانتقالية وكيفية مباشرة العمل بها عقب تحوّل هائل في المجتمع مثلما جرى في سوريا، وفي المنطقة هناك تجارب خاضتها تونس والعراق يمكن التعلّم منها، ولكن الأهم هو كيف يمكن للسوريين أنفسهم مناقشة بعض هذه المقترحات وتبنّيها مع دعم سياسي ومجتمعي كافٍ للمضي قدمًا في تنفيذها. ليس العائق أمام سوريا هو الحصول على أفضل المقترحات، بل في من يطرحها وكيف تجري مناقشتها ومن يتبنّاها ومن سينفذها.
ففي غياب دولة متماسكة ونظام سياسي جديد ذي مصداقية، ستكون العدالة الانتقالية شبه مستحيلة لأنّها تستلزم برنامجًا وطنيًا تسيطر فيه سلطة مركزية على ما تبقّى من وثائق الأجهزة الأمنية البائدة وعلى كلّ المقابر الجماعية، وتكون قادرة على التحفّظ على المتّهمين، والإشراف على مؤسّسات العدالة الانتقالية من محاكم ولجان تحقيق ومصالحة وإشراف على التعويضات والإصلاح المؤسّسي للهيئات ذات الصلة وتمويلها.
ويقول فضل عبد الغني إنّه لا يمكن القيام بمحاسبة حقيقية دون دور رئيسي للدولة “لأنه غير ممكن واقعيا عن طريق المحاكم العادية مع كل هذه الأعداد الكبيرة من الضحايا وعائلاتهم والانتهاكات التي جرت … ونحن نريد مبدئيا استهداف الصف الأول والثاني من السياسيين وقادة الجيش والأجهزة الأمنية … بينما تتولى لجان حقيقة ومصالحة الصفوف الأدنى”.
من جهته، يتخوّف محمد العبد الله من أن تسعى هذه السلطات إلى إصدار “عفو عام لأنّ قدرتهم ورغبتهم محدودة في التوثيق والعدالة وربما يفضّلون عدالة المنتصر … (وقد يفعلون) مثلما فعل لبنان وانتهى به الحال الآن بوجود آلاف المفقودين مجهولي المصير”.
والجانب الثاني المهم في هذه العملية هو عائلات الضحايا أنفسهم. ويقول خبير الطب الشرعي والعدالة الانتقالية لويس فوندبرايدر3 إنّه سيكون خطأ كبيرًا لو جرى استبعاد “عائلات المفقودين من عمليات صنع القرار. غالبًا ما يُنظر إليهم فقط كمقدّمين لعيّنات من الحمض النووي أو كمجرّد مشاركين في الاجتماعات، بدلًا من أن يتمّ التعامل معهم على أنّهم أصحاب مصلحة رئيسيين لهم صوت في تشكيل التحقيق. لذلك من الضروري أن تلعب العائلات دورًا محوريًا منذ البداية. وفي سوريا، عائلات المختفين منظمة جيدًا وكانت تطالب بالإجابات لسنوات”.
وفي سوريا هناك بالفعل عدة تجمّعات أهلية لعائلات المفقودين والمخفيين قسرًا الذين تعرّضوا لانتهاكات متعدّدة، كما تقدّم منظمات معنية في المجتمع المدني تصورات بل وخططا تفصيلية مثلما يقول فضل عبد الغني الذي أكد أن مؤسسته “لديها تصور واضح حول مسار العدالة الانتقالية وسنطرحه قريبا وسيتطلب طبعا نقاشا واجتماعات تتناول رؤيتنا وتطويرها وتعديلها وتنقيحها، ولكن من المهم أن يكون هناك نص مكتوب” نتحدث حوله.
ما العمل الآن؟
وحتى يتمّ الاتفاق على خطّة عمل يتبنّاها نظام سياسي ذو مشروعية وتقوم عليها هيئة وطنية مستقلة ومدعومة جيّدًا هناك حاجة إلى التعرّف على ماذا يجري على الأرض وماذا ينبغي أن يحدث.
“الفوضى” هي أفضل وأقصر إجابة على هذا السؤال.
مع تقدّمها نحو دمشق وسيطرتها عليها وعلى المدن الكبرى في وسط البلاد خلال ثمانية أيام، فتحت الميليشيات المسلحة المعارضة أبواب السجون ومباني الأفرع الأمنية العديدة بعد أن اقتحمها جنودها والأهالي، وانتشرت صور المستندات والأدلّة اللازمة للتحقيق والتقصّي. ويقول الطبيب والكاتب السوري طه بالي إنّه لم يتمكّن من دخول مطار المزّة ومقرّ المخابرات الجوية قرب دمشق بعد نهاية فوضى الأيام الأولى “بسبب تعميمات جديدة عن الحاجة لتصريح أمني مخصوص” ولكن “خارج المقر، ووراء مباني الحراسة، فوجئنا بوجود مصطبة مخصّصة لعرض وثائق تم استخلاصها من الفرع. المفاجئ جزئيًا كان تواجد الوثائق على الأرض وتحت رحمة أحوال الطقس، فيما يحاول أهالي المفقودين البحث عن هويات ذويهم. بتقديري، احتوت المساحة على 500-1000 هوية سورية (انظر الصورة التالية من صفحة بالي على فيسبوك)، ومثلها من جوازات السفر. تفسيري البسيط لوجود الجوازات هو اعتقال أصحابها من على الحدود البرية أو الجوية، ولكن قد يكون الموضوع أعقد. إضافة لهذه الوثائق المعروفة، احتوى المكان على وثائق عديدة مختلفة: هويات عسكرية، دفاتر عسكرية، ومحاضر تحقيق، هويات متنوعة مثل وثائق امتحان ثانوي ودفاتر عائلة وعضوية مسبح وعضوية مكتبة وشهادات سواقة وغيرها الكثير. إضافة للسوريين، وجدنا عددًا محدودًا من وثائق لفلسطينيين وعراقيين ومصريين… بين الوثائق المهمّة، وجِدت جداول بأسماء معتقلين وتاريخ اعتقالهم وجرمهم المزعوم“.
![](https://legal-agenda.com/wp-content/smush-webp/2025/01/471822151_10163279708902216_3521985875116173765_n-768x1024.jpg.webp)
وحاول بالي وأصدقاؤه “توثيق وتصنيف وترتيب الوثائق ما أمكن. استغرق الأمر عدة ساعات، وبالنتيجة رتبنا الوثائق ما أمكن ضمن حاويات بلاستيكية مقسّمة حسب المحافظات، واستطعنا تصوير الصفحات الأولى من جميع جوازات السفر فيما أعتقد، إضافة لتصوير الهويات المفرودة قبل ترتيبها … عدد الأهالي الزوار طوال اليوم كان محدودًا. وجد بعضهم أسماء لأقارب ومعارف بعيدين، ربما لم يكونوا يبحثون عنهم أساسًا، عندما استعرضوا جميع الوثائق المنسقة حسب المنطقة الجغرافية، وساعد أغلبهم حال وصولهم بجهدنا البسيط بشكل مؤثر فوق الوصف”.
وحسب جنود هيئة تحرير الشام المتواجدين في المكان، دمّر أفراد النظام البائد أو أحرقوا “تسعًا من أصل كلّ عشر وثائق” قبل وصولهم.
وقالت الشبكة السورية إنّها رصدت عددًا كبيرًا من الفيديوهات “تظهر نشطاء وإعلاميين وصحفيين، يتجولون بحريَّة داخل مسارح الجرائم مثل الأفرع الأمنية والسجون. وهؤلاء الأفراد غالباً ما يعبثون بالملفات أو يوثقون وجودهم عبر تصوير أنفسهم أو زملائهم أثناء ذلك. وعلى الرغم من وجود حراس في تلك المواقع، فإنَّ الدخول يتم غالباً إما بموافقة الحراس، أو بناءً على توصية مسبقة، أو تحت غطاء المهنية والاختصاص”.
وحذر مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، مما يجري قائلًا: “بعض هذه الأدلة يتم التعاطي معها بشكل عشوائي، وهي أدلة بحاجة إلى حفظ وإلى أن يتوقف العبث فيها. حتى المقابر الجماعية والفتح العشوائي لها كل هذا يمكن أن يؤثر فعلا على إمكانيات المحاسبة لكن أيضا على إمكانيات كشف الحقيقة بالنسبة للضحايا وعائلاتهم في المستقبل.”. ويلحظ أنّ وزير العدل كان قد ناشد كلّ الأفراد والمؤسّسات بتسليم ما لديهم من وثائق.
وصارت وثائق عديدة في حوزة منظمات مجتمع مدني. وقال محمد العبد الله: “نجمع الوثائق المتناثرة بين أيدي الناس وجمعنا أكثر من 70 ألف وثيقة وقلنا لوزارة الإعلام (في حكومة الأمر الواقع) سنعيدها عندما تُطلب منا”. وأوضح عبد الغني: “لدينا عشرات آلاف المستندات والوثائق وحصلنا على المزيد وسنحتفظ بها حتى تتشكل الهيئة المسؤولة عن العدالة الانتقالية ونسلم لها كل الأوراق حيث إنّها يجب أن تقود هذه العملية ثم تستعمل الوثائق لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات وبناء دعاوى ضدهم”.
وفي الوقت نفسه، يسعى أفراد ومؤسّسات لحماية المقابر الجماعية ومنع الدخول إليها وبخاصّة من الصحافيين الذين عبث بعضهم وفقًا لمصادر عدّة بالعظام المتناثرة كما أخذ بعض الأفراد عيّنات من أجل تحليل الحمض النووي وهناك لا شك عائلات مكلومة ستفعل كل ما في وسعها كي تعرف مصير أحباء مفقودين عن طريق هذا التحليل ويصعب لوم الأهالي في غياب أفق واضح لخلق أي مؤسسة وطنية مسؤولة عن هذا الأمر.
ويقول مازن درويش إنّه لا يوجد في سوريا “بنك دي إن إيه (حمض نووي) للعائلات حتى تتمّ مقارنة الرفات الموجودة. هذا يتطلّب أنّ تكون هناك اتفاقيات تعاون بين الإدارة الجديدة ووكالات الأمم المتحدة… يجب أن تكون هناك اتفاقيات تعاون بشكل فوري، لكن الخطوة الأساسية اليوم هي حفظ هذه الأماكن وحفظ الأدلّة”.
ويقول الخبير الشرعي فوندبرايدر إنّ الاعتماد على التطابق الجيني فقط يمكن أن يؤدي إلى نتائج خاطئة “فالعملية أكثر تعقيدًا بكثير ممّا تُصوّره البرامج التلفزيونية. إنّها تتطلّب نهجًا متعدّد التخصّصات يشمل الطب وطب الأسنان والأنثروبولوجيا والتصوير وعلم الوراثة… بالإضافة إلى بنية تحتية مناسبة، وإجراءات تشغيلية موحّدة، وما إلى ذلك. كما ستحتاج أيضًا إلى إنشاء مختبر محلّي للطب الشرعي الجنائي الوراثي لأنّه ليس من المستدام الاعتماد ببساطة على تحليل العيّنات خارج البلاد”. ويحذّر الخبير الأرجنتيني الجنسية من الفتح المتعجّل للمقابر والذي “يوفّر فرصًا لوسائل الإعلام لالتقاط الصور الفوتوغرافية والشعور بأنّ شيئًا ما يتمّ القيام به، إلّا أنّ الرفات التي يتمّ العثور عليها غالبًا ما ينتهي بها المطاف مخزّنة لسنوات” أو تختفي.
ماذا نفعل بـ “المتّهمين”؟
لا شكّ أنّ آلاف الأشخاص تورّطوا في ارتكاب هذه الانتهاكات الفظيعة على مرّ السنوات في سوريا وأنّ العديد منهم معروفون من ضحاياهم. ولكن، في انتظار أن تنتظم قنوات المحاسبة، ماذا ينبغي فعله عوضًا عن ترك الأمور في أيدي أفراد أو جماعات قد تغلب لديها الرغبة في الانتقام؟
لا إجابة مثالية هناك، ولكن في غياب نيّة وعمل واضح لوضع سياسات وآليات للمساءلة والمحاسبة، فقد تتزايد أعمال الانتقام وتتحوّل من عمليات قتل فردية وتمثيل أو استعراض للجثث ضدّ أشخاص بعينهم مثلما جرى لشجاع العلي المتّهم بالتورّط في مجزرة الحولة أو مازن كنينة المتّهم بكتابة تقارير ووشايات لأجهزة الأمن عن منطقة دُمّر، إلى أعمال جماعية واسعة النطاق تستهدف طوائف بعينها وفي مقدّمتها الطائفة العلوية التي تسربل بها النظام الأسدي على مدى عقود.
ويعتقد مازن درويش أنّ غياب المحاسبة “سيفتح الباب لدوّامة واسعة من حالات الانتقام الفردي وسيجرّ المجتمع السوري برمته إلى حالة من عدم الاستقرار وحتى إمكانية حصول حرب أهلية”.
وهناك قلق مبرّر من اندلاع أعمال عنف واسعة ضدّ الطائفة العلوية وردود فعل بعضها استباقي من مناطق التركّز العلوي قد يكون بعضها قادمًا من متورّطين فعلًا يريدون حماية أنفسهم والحصول على عفو عام غير مشروط.
وتقول الصحافية والناشطة السورية زينة شهلا: “منذ الأيام الأولى لسقوط النظام السابق … شهدت العديد من المناطق السورية حوادث اعتداء وانتقام، تضمّنت أحيانًا تصفيات، بعضها طاول شخصيات كانت متورّطة في ارتكاب جرائم خلال حكم النظام السابق كالاعتقال والتعذيب والاعتداء على الحقوق والملكيات وغيرها، إلى جانب إغلاق بعض الأحياء أمام دخول وخروج السكان. قد يصعب التحقّق من خلفية جميع هذه الحوادث وحيثيّاتها وهويّات مرتكبيها مع انتشار الفوضى، لكن المؤكّد أنّ العديد من حالات الانتقام وتصفية الحسابات على اختلافاتها، حدثت وما زالت تحدث، بوتيرة متفاوتة بين يوم وآخر وبين محافظة وأخرى”. ويتّفق الناشط السوري في المجتمع المدني فادي حليسو قائلًا: “في حمص لا يشعر العلويون بالأمان ولا يفضّلون البقاء خارج المنازل بعد حلول العتمة”.
![](https://legal-agenda.com/wp-content/smush-webp/2025/01/471583049_10163279710407216_6526976985066799587_n-768x1024.jpg.webp)
هل هناك خطوات عاجلة مطلوبة؟
ويعتقد البعض أنّه لا يجب انتظار تأسيس وبدء عمل الهيئة المشرفة على العدالة الانتقالية قبل النظر في معالجة آثار بعض الانتهاكات. ويقول محمد عبد الغني: “هذه الهيئة قد يستغرق تشكيلها سنة ونصف وهناك قسم كبير من الضحايا لن يتحمّل الانتظار من أجل استرجاع بيته أو أرضه أو مصنعه أو سيّارته أو استرداد أمواله من شبيح سرقها … وحتى (استرداد الحقوق المعنوية) ممّن ساهموا من الشخصيات العامّة بتأييد ودعم النظام البائد والآن “يكوّعون” (تعبير سوري يعني تغيير الموقف بالكامل من تأييد النظام السابق لانتقاده وتأييد الثورة من جانب عدد من الشخصيات العامّة) ويعتقدون أنّ المسألة قد انتهت”. ويدعو عبد الغني إلى خطوات عاجلة منها “الاعتراف والاعتذار … ومن سرق بيتًا أو أرضًا أو ممتلكات يردّها ويدفع تعويضات عن سنوات استغلالها”. ويخشى من أنّ التعامل باستخفاف من جانب هؤلاء المتّهمين “هو أمر مضرّ بهم ونحن نريد حمايتهم من الانتقام – وقسم كبير منهم للأسف لا يعي أنّه إذا استمرّت هذه الممارسات، قد تبدأ أعمال انتقامية من أفراد انتهكت حقوقهم، ضدّ هؤلاء الناس”.
وهناك منظمات سورية ودولية تعمل على ملاحقة كبار الهاربين والذين توجّهوا إلى روسيا مثل الرئيس المخلوع وشقيقه ماهر صاحب السجلّ الدموي أو ذهبوا إلى الإمارات أو لبنان أو ليبيا أو اختفوا ربّما داخل سوريا نفسها مثل العم رفعت الأسد.
ويخشى آخرون أنّ تأخيرًا طويلًا في بداية المساءلة قد تنزلق معه البلاد إلى الممارسات نفسها مرة أخرى. ويقول العبد الله: “تخلّصنا من صيدنايا والآن يأخذون المعتقلين إلى سجن حماة المركزي وهناك ملاحقات وفيديوهات عن انتهاكات عندما نتحدث عنها نواجه بمعارضة شعبوية تدعو لمنح الفرصة لحكومة الأمر الواقع … وإن كنّا لا نعتقد أنّ هذه الممارسات حتى الآن منتظمة أو واسعة النطاق … لكنها تحدث أكثر خارج دمشق التي يوجد بها ناشطون أكثر من المجتمع المدني والمراقبين الأجانب على عكس حمص وطرطوس مثلًا”.
ولهذا تتزايد أهمّية المبادرات الجهوية والمناطقية حتى يتم إنشاء نظام مركزي للمساءلة والمحاسبة عمّا جرى من انتهاكات في العقود السابقة. وهناك مبادرات كهذه في حمص واللاذقية والقلمون وغيرها.
تحدّيات أمام مؤسّسات العدالة والقانون
ويقول عدة خبراء حقوقيين سوريين إنّ بلادهم تفتقر إلى وجود محامين أو قضاة مدرّبين على التعامل مع جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، غير أنّها لا تحتاج إلى الاستغناء عن كلّ قضاة النظام القديم، بل ويحذّر البعض من مثل هذه الخطوة. ويوضح العبد الله أنّ النظام البائد استخدم لأغراض القمع “المحكمة الميدانية العسكرية في صيدنايا ومحكمة الإرهاب … لكن معظم القضاة ظلّوا خارج قضايا المعتقلين وطبعًا يعانون من الفساد … ولكنهم لم يلغوا في الدم”.
ويحذّر فوندبرايدر من “تهميش الخبرات السورية وعدم البناء على القدرات الموجودة في سوريا. لدى سوريا نظام طبي وشرعي قائم. وهو ليس مثالياً، ومن الواضح أنه يحتاج إلى الدعم والتدريب، ولكن سيكون من الخطأ عدم تركيز الجهود على بناء نظام محلي”. ويعتقد عبد الغني أنّ هناك حاجة إلى مسارات متوازية في المحاكم تشمل بعض التدخل من جانب المحكمة الجنائية الدولية في سوريا التي يدعو أي حكومة جديدة للتصديق على ميثاق إنشائها، ومحكمة دولية خاصّة أو محكمة مختلطة، إضافة للمحاكم المحلية أيضًا”.
وهناك بالفعل ثلاث آليات أممية قائمة لهذا الغرض وهي:
لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا (تأسست في 2011)
الآلية الدولية المحايدة والمستقلة المعنية بالجرائم المرتكبة منذ آذار/مارس 2011 (تأسست في 2012)
المؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين (تأسست في 2023).
وستحتاج هيئة وطنية سورية للتنسيق مع هذه الآليات والاستفادة من خبراتها ومواردها شريطة أن تكون العملية كلّها تحت قيادة سورية تضم الدولة والمجتمع المدني وعائلات الضحايا.
ووفقًا لفوندبرايدر تحتاج أي آلية جديدة “إلى سنة واحدة على الأقل لتوفير الحد الأدنى من التنظيم. في كولومبيا، استغرق الأمر ما يقرب من عامين حتى تصبح وحدة البحث عن المفقودين عملية. كان هذا الوقت ضروريًا للتأكد من أنّ المؤسّسة التي تمّ إنشاؤها دائمة وتتمتّع بالاستقلالية وميزانية خاصة بها”. ولذا يحذّر الخبير الدولي من التعجّل رغم أهمية إظهار الجدية ومباشرة العمل في أقرب وقت ممكن ويقول: “نحن نتحدّث عن سنوات، وربّما حتى عقود، فهي (عملية) تتطلّب التزامًا طويل الأمد من الدولة والمجتمع … أدرك أنّ هذا ليس ما ترغب العائلات في سماعه، لكنّ الأمر معقّد للغاية ويستغرق وقتًا طويلًا. في الأرجنتين، وبعد 40 عامًا، ما زلنا … نبحث عن مفقودينا. والوضع مشابه في غواتيمالا والبيرو”.
ويرسم الرجل خارطة طريق لما يجب أن يحدث في سوريا وتشمل “إنشاء آلية مركزية ذات استقلالية وميزانية مخصصة … وضمان المشاركة الفعلية لأقارب الضحايا وممثليهم في صنع القرار منذ البداية، وتطوير خطة وطنية للبحث تحدد الأهداف والاستراتيجية والأدوات، وفتح مكاتب إقليمية لتسهيل المشاركة المحلية، وإنشاء فريق متعدّد التخصّصات في مجال الطب الشرعي والنظام القضائي عمومًا يجمع بين المتخصّصين السوريين والخبراء الدوليين، مع ضمان التدريب المناسب للسوريين، وحماية مواقع الدفن … وجميع المعلومات المتعلّقة بالنزاع … والأدلّة من المخابرات والسجون سيّئة السمعة في سوريا، وإنشاء بنوك بيانات الطب الشرعي التي تتضمّن أكثر من مجرّد بيانات جينية. وهذا سيجعل التعرّف على الرفات أسهل في المستقبل”.
وسيتطلّب ذلك كلّه العمل بحكمة وتوافق مجتمعي من أجل ضمان السلام النسبي الهشّ القائم بعد سقوط النظام مع ضمان أكبر قدر ممكن من المحاسبة وإعلان حقيقة ما جرى وجبر الأضرار الفردية والجماعية الحيلولة دون الانزلاق مرة أخرى إلى مثل هذه الممارسات بخاصّة من جانب الدولة التي يُعاد تشكيلها.
ومن دون السير في طريق العدالة الانتقالية الوعر هذا، قد تدخل سوريا في متاهة دموية ومسلسلات ثأر لا تنتهي وتفكّك يحمل معه كوابيس مظلمة، وهو ربما التحدّي الأكبر الذي يواجه انتقال البلاد من نظام كان يدّعي الأبدية وترك البلاد بجروح غائرة وأوصال متقطّعة تستلزم عملًا دقيقًا وسياسيين وخبراء بارعين ومبادرات جماعية ومنظمات متعدّدة لإنقاذها من هاوية الاحتراب الأهلي ومسلسل ثأر طويل الأمد … وهو الخطر المحدق بالبلاد الآن بعد أن تنقضي أفراح واحتفالات الخلاص.
_______________________________________
- هناك العديد من تقارير المنظمات الحقوقية السورية والدولية التي توثق هذه الانتهاكات إضافة لكتابات ياسين الحاج صالح وميشيل ساورا وروبرت فيسك وأعمال للروائيين خالد خليفة ومصطفى خليفة، إضافة لسجل مفزع من صور القتلى وثقه مشروع قيصر الذي يضم ٥٥ ألف صورة سربها في عام 2013 شخص يعمل في مؤسسة السجون لجثث الضحايا. ↩︎
- يطلق اسم “الشبيحة” في سوريا على ميليشيات وأفراد استخدمها النظام الأسدي من أجل استهداف المعارضين مستعملين في هذا وسائل عنيف تشمل القتل والتعذيب والإيذاء والاستيلاء على ممتلكات خاصة. ↩︎
- عالم أنثروبولوجيا شرعي أرجنتيني والمدير السابق لحدة الطب الشرعي التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر، عمل في 60 دولة في التحقيق في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان.