في مذكراته، يعترف عبد اللطيف البغدادي أنه بدأ العمل السياسي عام ١٩٤٠ مع مجموعة من الضباط كان تفكيرهم السياسي يعاني من بعض “السذاجة” لان متوسط أعمارهم لم يتعدى ٢٢ عامًا. صار البغدادي بعد ذلك عضوًا في تنظيم الضباط الأحرار ثم في مجلس قيادة الثورة بعد الحركة المباركة في يوليو ١٩٥٢ (والتي لم يتحول أسمها الرسمي من الحركة الى الثورة لفترة طويلة). خلق البغدادي وحسن عزت ووجيه اباظة واخرين تنظيما داخل سلاح الطيران (لا علاقة له بتنظيم الضباط الاحرار الذي نشأ في عام ١٩٤٨ وقاده جمال عبد الناصر لاحقا). وتواصل تنظيم الطيران مع اطياف سياسية متعددة منها الاخوان المسلمين. وفي اول لقاء مع حسن البنا طلب منهم الاندماج في الإخوان ولكنهم وافقوا على التنسيق، فقال لهم البنا في ذلك الاجتماع “إننا ندعو إلى الدين لغرض سياسي نأمل تحقيقه ولسنا مشايخ طرق”. (ص. ١٣-١٥)
واستأجر تنظيم الطيران فيلا في مصر الجديدة ووضع فيها مخرطة لتصنيع القنابل اليدوية والمولوتوف واسلحة سرقوها من مخازن الجيش. وولد في هذا التنظيم أو فكرة اغتيال تتبلور ضد سياسيين مصريين بارزين وكان الهدف زعيم الوفد مصطفى النحاس بعد ان قبل التدخل الانجليزي ضد الملك في ازمة ٤ فبراير ١٩٤٢ لتعيينه رئيسا للحكومة. كان القصر يتجه لتعيين رجله المفضل على ماهر والذي كان يميل للنازيين الألمان بينما فضل الانجليز النحاس، صاحب الاغلبية البرلمانية والمعادي للفاشية. كان الوقت حرجا فجيش الالمان بقيادة رومل يهدد القاهرة ذاتها ويتقدم في الصحراء الغربية. وغضب البغدادي وزملاؤه بشدة (وهذه نقطة لا افهمها تماما) وصبوا جام غضبهم على السياسيين الخونة (وليس على الملك الخائن او البريطانيين المستعمرين) واتصلوا بالقصر.
واتصل البغدادي مع أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي وطلب لقائه. وفي الاجتماع قال البغدادي ان الواجب الوطني قد يدعو الى قتل النحاس لأنه خائن للبلاد!! (ص. ٢٠) وحتى حسنين باشا، الرجل المحنك، والداهية، والانتهازي السياسي، صُدم لسماع هذا الكلام “وخشى ان يصبح شريكا معنا لو أقدمنا على هذه الخطوة باندفاع الشباب الذي كان يملئنا … ولهذا فقد اخذ يعمل على تهدئتنا طالبا منا ترك الامر لمولانا كما قال ليتصرف فيه بحكمته … واحسسنا من ثنايا الحديث ان النحاس لم يكن متواطئا مع الانجليز كما كان يُشاع.”
والمذهل ان البغدادي وتنظيم الطيران الذين كانوا قد استغلوا طائراتهم في تصوير العاصمة ومواقع حساسة وعن مواقع ونشاط القوات البريطانية – قرروا التجسس لصالح الالمان! نعم، هذا التنظيم الذي فكر في قتل النحاس لأنه “تعاون مع الانجليز دون النظر لمصلحة الوطن” قرر تقديم هذه المعلومات الحساسة التي جمعها الى الجيوش الألمانية النازية المتقدمة بعد ان صارت في ازمة بسبب نقص الامدادات وانشغال هتلر بهجوم كبير وفاشل ضد الاتحاد السوفيتي. وحاول طياران من التنظيم واحدا وراء الاخر الوصول الى الألمان ولكن الأول سقط واختفت طيارته ولم يُعثر عليه أبدًا ويُعتقد أن الألمان نفسهم هم من اسقطوه لأنهم لم يعلموا برحلته بينما وصل الثاني وظل مع الالمان حتى سقط سجين حرب في يد الحلفاء في برلين فيما بعد. (ص. ٢٢-٢٣)
وفي ص. ٢٥ من مذكراته يقول البغدادي انه فكر مع أعضاء تنظيمه من الطيارين في الجيش المصري في الفرار ببعض الطائرات في عام ١٩٤٧ والانضمام لقوات جيش التحرير التي تقاوم العصابات الصهيونية في فلسطين. واثناء زيارة سرية إلى دمشق هرب فيها أسلحة في طائرته التقي البغدادي مع قائد جيش التحرير الضابط السوري فوزي القاوقجي. واتفقا على تهريب عدة طائرات عسكرية مصرية وميكانيكيين من اجل خوض الحرب. ووافقت وزارة الحربية المصرية بعد أسابيع قليلة بناء على طلب من وزارة الحربية السورية على ارسال ضباط طيارين منهم حسن إبراهيم (عضو الضباط الاحرار ومجلس قيادة الثورة فيما بعد) إلى دمشق لتدريب سلاح الجو السوري الذي لم يكن يملك طائرات بعد! وتم تجهيز ١٥ طائرة بمدافع رشاشة وحاملات قنابل (سرًا) في مصر وانتظار الإشارة من القاوقجي للانضمام اليه.
ولكن الإشارة لم تأتي أبدا وكان أول أمر بالانضمام لجهود حربية لمواجهة العصابات الصهيونية من الملك فاروق في ١٦ مايو ١٩٤٨ عن طريق رئيس الوزراء النقراشي باشا. وهنا وفي ص. ٢٧ من مذكرات البغدادي بعد صفحتين فقط من استعداده المفرط للقفز في آتون المعركة يقول الرجل ان الجيش الذي دخل الحرب الى جوار قوات من جيوش ست دول عربية اخرى لم يكن مستعدًا “بالأسلحة اللازمة والكافية لخوض هذه المعركة … وان أهداف الدول العربية كانت متضاربة وغير واضحة للقادة العسكرًيين … ولم يكن هناك تنسيق (بين الجيوش العربية) في العمليات الحربية التي كانت ترجى على ارض فلسطين.” ويشكو بغدادي ان “اليهود” كانوا يحصلون على ما يحتاجون من سلاح من السوق السوداء بينما فشل العرب، وأن اليهود انتهكوا الهدنات واستغلوها لاعادة تنظيم انفسهم بينما لم يفعل العرب ذلك، وان اليهود كانوا يكسرون الهدنات لتحسين مواقعهم في الوقت المناسب لهم على عكس العرب، وان اليهود .. وان اليهود .. ولكن العرب .. ولكن العرب. ويشكو بغدادي من خيانة دون ان يسميها هكذا من جانب العاهل الأردني الملك عبدالله وتقاعس من الجانب العراقي وضع الجنود المصريين في موقف حرج.
وفي النهاية ما الذي كان الدرس الذي عاد به البغدادي من الحرب والتي كان يعلم فيها تماما ان قيادة سياسية كانت تسيطر الى حد كبير على قرار الجانب الصهيوني وان من كان يجري المفاوضات باسمها لم يكن قادة عسكريون بل سياسيون وان هناك ارتباطا بين المشروع الإسرائيلي وبين عواصم غربية عدة لاهداف معقدة (هل كان يعلم حقا؟ يفترض ان يعلم لان معظم هذا لم يكن اسرارا وقتها!). رغم كل هذا كان الدرس المستفاد في ص. ٢٩ من مذكرات الرجل – رحمة الله علينا وعليه – أن ضباط الجيش عادوا مصممين على “القيام بثورة في مصر .. لإحداث التغيير المطلوب … لأننا عدنا من الحرب ونحن نشعر في قرارة نفسنا بالألم والعار … رغم قيامنا بواجبنا في القتال – فلم نتقاعس أو نجبن – ولكننا قاتلنا بأسلحة لا تصلح للحرب ولا يمكن استخدامها.”
نشر البغدادي مذكراته في ١٩٩٣ أي بعد انقلاب ١٩٥٢ بأكثر من أربعين سنة، ورغم استيلاء الضباط الاحرار على الحكم والسلطة منذ ذلك الوقت فقد هُزموا أمام إسرائيل وحلفاؤها: (١) عسكريا في ١٩٥٦ وإن انتصرت مصر سياسيا ونجت من العواقب المؤلمة للعدوان الثلاثي بفضل تحركات سياسية دولية قادتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. (٢) هزيمة منكرة من اسرائيل – هذا الكيان الاستعماري الاستيطاني المدعوم غربيا في ١٩٦٧. دُمر سلاح الطيران المصري في تلك الحربين على الأرض بسبب فشل قادة السلاح في الاستعداد والتخطيط وجمع الاستخبارات عن قدرة الخصم. ولم يحاسب أحد هؤلاء القادة. ومن يحاسبهم؟ لا قيادة سياسية تعلو عليهم فهم القيادة، ولا صحافة حرة تفضح اخطائهم فقد اخضعوها كلها لسيطرتهم، ولا حياة سياسية فهم يتحدثون باسم الشعب. ولم يُحاسب أحد على ما حدث حتى ان قائد الطيران الفاشل في ١٩٥٦ ظل قائدا للطيران حتى ١٩٦٧ وكان تكسيح الطيران المصري في ١٩٦٧ على الأرض شبه تكرار لما فعلته إسرائيل في ١٩٥٦.
فاصل ونواصل..