المدونة

ما جرى في مصر بين 2010 و 2014 وفقًا لياسر رزق

منشور على موقع المنصة هنا يوم الأربعاء 5 أبريل 2023

مع العجز شبه الكامل عن الاطلاع على وثائق الأرشيف المصري الرسمي، وتحديدًا ذلك الذي يتعلق بما قامت به الدولة ومؤسساتها وقادتها منذ 1952، صار الاعتماد على مذكرات وذكريات السياسيين ورجال السلطة والصحافة المقربين منهم، وأغلبيتهم الساحقة من الرجال، مصدرًا رئيسيًا أكثر من اللازم لمعرفة ما جرى في أروقة السلطة في السبعين سنة التي انقضت منذ قيام الجمهورية.

ويتعامل الواحد مع هذه الكتب، رغم فائدتها، بحذر مطلوب كمصدر للتاريخ، لأنها تعبر في نهاية المطاف عن وجهة نظر صاحبها وما شهده من حوادث ومدى مصداقيته وحساباته السياسية والشخصية. ومن هذا المنطلق، تجب قراءة كتاب الصحفي الراحل ياسر رزق، “سنوات الخماسين: بين يناير الغضب ويونيو الخلاص”.

في عيني السيسي

يتمحور الكتاب حول الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الذي تولى قيادة المخابرات الحربية في 2009، “وبفضل ثقة (وزير الدفاع الراحل) المشير (محمد حسين) طنطاوي وامتيازه (أي السيسي) تم ترفيعه لمناصب عليا في الجيش حتى وصل لهذا المنصب. وفي أبريل(نيسان) 2010، بدأ … في التحذير من مشروع التوريث في اجتماع مع طنطاوي قائلًا إن الشعب سيرفض نجل الرئيس، والقوات المسلحة سترفض التوريث”.

ولا يخفي رزق طوال الكتاب إعجابه الشديد بالسيسي منذ حضر معه اجتماعًا في مارس/آذار 2011. ويقول “كان السيسي يتكلم وكنت أطل على النقاط التي دونها في مفكرته بالألوان الزرقاء والحمراء والخضراء، ولاحظت أن خط يده واضح وصريح، وأن حروف كتاباته منمقة وأنيقة … يتمتع بثقافة رفيعة، معجونة بولع بتاريخ مصر ووعي بذروات مجدها”.

ويواصل رزق “يصعب أن تنظر في عيني السيسي إلا للحظة واحدة، تكفيك أن تعرف صلابة عزم هذا الرجل ذي العينين العميقتين والنظرات السديدة نحو مراميها… مؤمنًا بمستقبل زاهر لمصر… وكأنه زعيم وطني قفز من صفحات تاريخ القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إلى قلب الواقع في مستهل القرن الواحد والعشرين”.

ويستمر رزق على هذا المنوال حتى ينتهي الكتاب مع كيف استجاب ذلك الرجل “لنداء الجماهير، وترشح وفاز وأدى اليمين، ليشرع في مهمته الوطنية” ويصبح رئيسًا لمصر في يونيو/حزيران 2014، “ولعلها المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث والمعاصر التي يتحول فيها بطل إلى رئيس”.

الحوار أو الانقلاب

يقدم رزق صورة عن الجيش تبدو فيها القيادات مهمومة بدور الدولة والمؤسسة العسكرية، خاصة فيما يتعلق بدورها في مجالات الأمن والاقتصاد، حتى تحت قيادة طنطاوي الذي كان متواريًا إلى حد كبير عن المجال العام طوال عصر مبارك، وتراجع عن محاولات شاحبة للظهور بصورة السياسي بعد ثورة 2011 عندما خرج للشارع مرتديًا ملابس مدنية، وعندما أدلى بتصريحات حول مذبحة مشجعي كرة القدم في استاد بورسعيد.

يقول رزق إن المشير طنطاوي رغم قلة ظهوره العام كان يراقب ويتدخل في السياسات العامة، مشيرًا إلى اجتماع لمجلس الوزراء في 2008 حينما غضب الرجل بسبب اقتراح لخصخصة بنك مملوك للدولة لأنه يعارض عمومًا “إدخال شركات أجنبية إلى ملفات في صميم الأمن القومي للبلاد، كالاتصالات والموانئ، مما يجعل أمورًا في صلب شؤون الزمن والدفاع كتابًا مفتوحًا لمن يريد… الجيش المصري حرر أرض البلد بالدم، وأنتم تهدرون هذه الدماء هباء وتبيعون الأرض، والمؤسسة العسكرية التي أمثلها لن تسمح بهذا”.

وغضب مبارك من ذلك التعليق قائلًا “هو فاكر نفسه الريس ولا أنا؟!!”

وليس كل القادة العسكريين سواسية في كتاب رزق الذي يدعي أن طنطاوي تلقى اقتراحات من قادة عسكريين كبار بأن ينقلب على مبارك في أواخر يناير/كانون الثاني وأوائل فبراير/شباط 2011 بعد اندلاع المظاهرات الشعبية الضخمة. وجاء أحد هذه الاقتراحات، وفقًا لرزق، من رئيس الأركان آنذاك الفريق سامي عنان، الذي قال لطنطاوي “الحل في رأيي هو انقلاب ناعم يتشكل فيه مجلس رئاسي ترأسه سيادتك، يتولى ترتيب العملية السياسية”. ورد طنطاوي باقتضاب “انسَ هذا الكلام”.

ويبدو أن أفكار الانقلاب لم تقتصر على عنان، حيث ينقل رزق عن عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة لسنوات طويلة، قوله في اجتماع استمر أربع ساعات مع عدد من الصحفيين في 8 فبراير 2011 “الحوار أو الانقلاب”. وعندما سأله صحفي “من الذي سيقوم بالانقلاب؟”، رد ساخرًا “أنا”، ثم استطرد “أقصد انقلاب السلطة على بعضها، أو انقلاب عسكري، أقصد قوة ما نظامية، أو جماعة الإخوان، يمكن أن تقوم بفوضى خلاقة فينتهي النظام وتستولي على السلطة”.

ويظهر هذا أيضًا بعد نهاية عصر مبارك، وفي أواخر سنة مرسي الوحيدة في السلطة، ففي لقاء للسيسي مع فنانين ومثقفين في مايو/أيار 2013 طالبه بعضهم صراحة بالانقلاب منادين “بأن ينزل الجيش ويتسلم السلطة قبل أن تنفجر الأوضاع شظايا في وجه الجميع”. ورد عليهم السيسي، وفقًا لرزق، قائلًا إن “نزول الجيش سيعيد البلاد 40 عامًا إلى الوراء، بينما الوقوف أمام صناديق الانتخابات، ولو لمدة 10 ساعات، أفضل لمصلحة البلاد”.

الإخوان والجيش: علاقات مضطربة

ويصف رزق علاقة مضطربة بين الإخوان والجيش، يتجاور فيها الإعجاب والخوف والتحالف، ثم المواجهة. وينقل المؤلف عن بعض قيادات المجلس العسكري بشأن تفضيلهم للتعامل مع الإخوان أن الجماعة “أكثر تنظيمًا وأكثر تحديدًا في مطالبهم، وأكثر واقعية من الأحزاب المدنية التي بدت مفككة ومتناحرة، وظهر رؤساؤها وقياداتها غير متفقين على أمور وقضايا كان ينبغي لهم الاتفاق عليها قبل الحديث عنها في الجلسات العديدة مع المجلس الأعلى”.

وفي فصل تالٍ يتحدث رزق عن خلافات داخل المجلس العسكري في 2011 بشأن ذلك التقارب مع الإخوان، حيث اعتقد بعض الأعضاء في حتمية الصدام معهم بينما احتفظ آخرون بعلاقات وثيقة مع بعض قيادات الجماعة “وكان هناك أيضًا واحدًا أو أكثر (من أعضاء المجلس) تستبد بهم المطامع السياسية وتجرفهم إلى حد التحالف مع الجماعة مقابل شيكات سياسية على بياض”.

وزاد غضب السيسي إزاء ما يصفه رزق بتخبط نظام مرسي ومحاولات مكتب إرشاد جماعة الإخوان، بقيادة خيرت الشاطر، استمالة قادة كبار في الجيش. فحذر كبار قادة الإخوان في اجتماع مغلق في 25 يونيو 2013 صارخًا “ماذا تريدون؟! إنتم عايزين يا تحكمونا.. يا تموتونا؟!.. لقد خربتم البلد، وكرّهتم الناس في الدين، أنتم ألد أعداء الدعوة الإسلامية، ولن أسمح بترويع الناس ولا إرهابهم، وأقسم بالله أن من يُطلق رصاصة على مواطن، أو يقترب من منشأة عسكرية، فلن يكون مصيره إلا الهلاك، هو وكل من ورائه. ولن يكفيني مائة ألف”.

وانتشرت نسخ وتسريبات متعددة لاجتماع متوتر ضم السيسي والشاطر، كان آخرها تصوير درامي له في إطار مسلسل الاختيار 3، من إنتاج الشركة المتحدة للخدمات العالمية، التي أنشأتها المخابرات المصرية.

وبعد تصاعد التوتر بين الجانبين بأسابيع نُظمت مظاهرات حاشدة، خاصة في ميدان التحرير، ضد الإخوان في آخر يونيو. وأصدر المجلس العسكري يومها بيانًا يُعطي النظام 48 ساعة “كفرصة أخيرة لتحمل أعباء الظرف التاريخي الذي يمر به الوطن”. وتجاهل الإخوان هذا البيان، واعتبره مرسي، وفقًا لرزق، إنذارًا من الجيش. ولكنه لم يعرض أي تنازلات مثل إجراء انتخابات مبكرة، واقتصر على إبلاغ السيسي ومعه اللواء محمود حجازي، مدير المخابرات الحربية، مساء ذلك اليوم “كل اللي أنتم عايزينه هتاخدوه، وكل اللي الجيش عايزه هيلاقيه”.

وهكذا، في الثالث من يوليو أعلن السيسي، محاطًا بعدد من الشخصيات العامة والسياسية المدنية، نهاية عهد الرئيس مرسي، الذي جرى اعتقاله هو وعدد من كبار مساعديه من القصر الجمهوري.

وقائع ما جرى

بعد 30 سنة من الركود المتخفي تحت لافتة الاستقرار، رحل مبارك. ولكن قواعد الارتكاز الرئيسية لنظام الحكم المهيمن على مصر لم تتزعزع كثيرًا تحت السيطرة المستمرة، أو المستعادة، للمؤسسات الأمنية. ولم تتغير أيضًا القواعد الفكرية المهيمنة على مقاربة النظام وكتّابه، والمرتكزة على نظرية تضع مصر في قلب الإقليم وتجعل بقية العالم يتآمر عليها. ولذا، ليس غريبًا أن ينسب رزق ما حدث في ثورة 2011 وفي هبّات الربيع العربي في أنحاء المنطقة إلى “قوى دولية… هدفها الرئيسي من الربيع العربي هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، على هدى إسقاط الدولة المصرية”.

ويعتمد كتاب رزق بشكل أساسي على مقابلة مطولة أجراها مع الرئيس السيسي في أكتوبر/تشرين 2013، وامتدت أربع ساعات، وهي المقابلة التي تسربت شرائطها المسجلة فيما بعد بفضل ما يصفه رزق بأحد “ذيول” الإخوان “داخل جريدة المصري اليوم”. ويشير الكتاب إلى محادثات مطولة مع عدد كبير من القادة العسكريين، ولكنه لا يضم أي مصادر أخرى أو مستندات. وحتى في مائة صفحة ملحقة بالكتاب لا توجد سوى نسخ من مقالات المؤلف، ونص حوارين مع السيسي.

ورغم الثروة الهائلة من التصريحات والمشاهدات التي يوردها كتاب رزق، فمن الصعب اعتباره مصدرًا موثوقًا للتأريخ لتلك الفترة. وهو أمر ممكن مع كتب صحفيين مقربين من الأنظمة السابقة، وفي مقدمتهم هيكل الذي يقول رزق إن السيسي كان من أشد المعجبين به وبـ”رؤاه وأفكاره… وطالع جميع مؤلفاته أكثر من مرة”. ولكن الكتاب سيظل مهمًا بصفته مصدرًا للإطلاع على تصورات النخبة العسكرية الحاكمة عن السياسة وعن وقائع ما جرى، وليس عن حقيقة تلك الوقائع نفسها.

ولهذا يستحق القراءة للمهتمين بتلك الفترة من تاريخ مصر.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *