Blog

نُشر في موقع درج في ٤ اغسطس ٢٠٢١

تواجه تونس مزيجاً من تركة اقتصادية ثقيلة وواقع إقليمي ودولي غير موات يجعل محاولات الفكاك من أزمتها السياسية الراهنة بالغة الصعوبة، وهكذا ربما لا تفعل وعود الرئيس الحالي قيس سعيد الضخمة وتطميناته اللغوية المزخرفة، سوى قذف كرة الصراع السياسي الحقيقي خارج الملعب الذي تقوم فيه المؤسسات السياسية الوطنية ويُفترض أن يحكمه الدستور.

ولكن هذه الكرة لن تذهب بعيداً، وعلى الأغلب ستتقاذفها أيادي الدائنين الخارجين والداخلين وتكلفة تسيير الدولة التي تعاني من عجز مالي يتعدى 4 مليارات دولار حتى نهاية العام، وستركلها الاقدام الغاضبة للتونسيين ممن تحطمت أحلامهم البسيطة في العمل والترقي في السنوات القليلة الماضية، بينما ستتلاعب بها بلدان مثل الجزائر والإمارات وفرنسا في محاولة لخدمة أهدافها الاستراتيجية أو الايدولوجية، بينما سيحاول صندوق النقد الدولي التحكم في الكرة كي تعود لملعب يحدد هو إطاره.

ومذ أطاحت هبة شعبية بالنظام المتعفن للديكتاتور زين العابدين بن علي في كانون الثاني/ يناير 2011، حصلت تونس على حريات سياسية غير مسبوقة في تاريخها الحديث، ولكن من دون تحقق أحلام وآمال الأغلبية في تأمين حياة وفرص عمل أفضل، إذ لم تغير النخبة الحاكمة للبلاد والتي اتسعت كثيراً في السنوات العشر الماضية، النظام الاقتصادي البتة. وكان فشل هذا النظام الاقتصادي التنموي والذي تدافع عنه مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين بين أهم أسباب انهيار نظام بن على الأمني، لأنه كان يعمق الفوارق الهائلة في الثروة والقدرة المادية لمصلحة فئات قليلة العدد ويعتاش على القروض المتزايدة من الدول الأوروبية ولا يهتم بسخط الشعب الذي كان يقمعه بانتظام.

وبعد تردي الأوضاع الاقتصادية والصحية وازدياد العجز السياسي في العامين الماضيين، قرر الرئيس سعيد تولي الحكم التنفيذي مباشرة وطرد رئيس الوزراء هشام مشيشي، وعلق عمل البرلمان مستغلاً قراءة مخالفة لنصوص وروح الفصل 80 من الدستور التونسي الذي يسمح للرئيس باتخاذ تدابير استثنائية في حالات الطوارئ ولمدة ثلاثين يوماً فقط. ويبدو أن سعيد، الأستاذ الجامعي الدخيل على السياسة والمنتخب عام 2019، يحلم بإسقاط النظام البرلماني وإعادة تدشين نظام رئاسي يصبح فيه هو ذاته الزعيم والأب القادر على تقويم اعوجاج عالم السياسة المضطرب.  

لا تختلف تونس في ظهور هذا الحلم بمجيء المستبد العادل والمخلص من دول عدة من الولايات المتحدة حتى البرازيل والفيليبين حيث يبدو الرجل القوي المسيطر الآتي بانتخابات ديموقراطية هو المخرج من إشكاليات سياسية واقتصادية مستعصية وغضب وقلق شعبي عميق. وعلى الأقل يمنح دونالد ترامب (الرئيس الأميركي السابق) وجايير بولسانارو (الرئيس البرازيلي) ورودريغو دوتيرتي (الرئيس الفلبيني) مؤيديهم بعض الامل والحلم في التغيير السهل البسيط، عبر التخلص من السياسيين ورجال الأعمال الفاشلين والفاسدين وتطبيق دعاوى واقتراحات الرئيس الملهم للنجاة من المأزق متعدد الأبعاد المحيط بهذه البلاد والذي ربما يستغرق الخروج منه عشرات السنوات.  

أزمة تونس المستحكمة

تواجه تونس أزمة صحية عنيفة بسبب تصاعد أعداد وفيات “كوفيد– 19″، لتتجاوز عشرين ألف شخص معظمهم هذا العام ولم يتلق التطعيم ضد الفايروس سوى نحو مليون شخص أو 8 في المئة من سكان تونس وعددهم 11.8 مليون. وعانت البلد من أعلى معدل إصابات في أفريقيا راهناً، ووصل عدد من أصيبوا بـ”كورونا” إلى أكثر من نصف مليون شخص. وفاقم “كورونا” أزمة اقتصادية حادة تتجلى في النسب المرتفعة للبطالة واحتياج الدولة للغوص أكثر في مستنقع الاستدانة الخارجية. 

وليست تونس بالمثال الفريد، فمثلها مثل معظم دول الجنوب ومنذ السبعينات رهينة وضع حديدي يفرضه النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي: تصدير منتجات زراعية أو مواد خام بأسعار مقبولة للخارج وبيع خدمات متدنية القيمة المضافة مثل السياحة مقابل استيراد المنتجات المصنعة وبخاصة تلك المتعلقة بالتكنولوجيا. وبين ما يحصل عليه أي بلد من الصادرات وما يضطر لإنفاقه على الواردات والطاقة هناك فجوة كبيرة تسدها الديون التي باتت دول كثيرة تلجأ إليها كحل مستدام لتغطية الفجوة المستمرة بين الصادرات والواردات، وسداد أقساط الديون القديمة وفوائدها أيضاً. وكانت أمام تونس فرصة لم تنتهزها لتصر على إسقاط ديون نظام بن علي بعد سقوطه، وربما لم تفعل هذا خشية إغضاب الدائنين الأوروبيين وهم حلفاء سياسيون بشكل أو آخر للطبقة السياسية التونسية. 

وبلا شك تضرر الاقتصاد الضعيف، وبخاصة القطاع السياحي المهم، بسبب هجمات إرهابية دموية وصلت لأقصاها عام 2015، وشملت قتل سياح في منتجعات شاطئية. وعلى رغم نجاح الأجهزة الأمنية اعتباراً من 2016، في صد هجمات الإرهاب وتقليصها بدعم دولي مؤثر، إلا أن الحكومات التونسية المتعاقبة لم تتعامل بشكل فعال مع أي روافد مهمة للتطرف واليأس المنتشر بين الشباب التونسي. وعلى سبيل المثال، زادت الولايات المتحدة من برامج التدريب والمساعدة الأمنية لتونس عشرة أضعاف لترتفع من 12 مليون دولار عام 2012 إلى 119 مليون دولار في 2017، بينما لا تتجاوز قيمة كل الدعم الأميركي للاقتصاد التونسي ولعمليات التحول الديموقراطي منذ 2011 نحو 350 مليون دولار أو نحو 35 مليون دولار سنوياً. 

وانخفض إجمالي الناتج المحلي في تونس نحو 9 في المئة عام 2020 وعلى رغم توقع البنك الدولي أن ينتعش الاقتصاد قليلاً هذا العام فقد شدّد في آخر تقاريره على أن الخلل الهيكلي في الاقتصاد مستمر، وأن البلاد قد تعجز عن مواجهة تحديات خفض عجز الموازنة وخلق الوظائف وتقليل الفقر في الوقت الذي سيتعين عليها فيه تنفيذ إجراءات تقشفية للحصول على قرض صندوق النقد. ووصلت نسبة البطالة في تونس إلى 17.8 في المئة في الربع الأول من هذا العام وفق الإحصاءات الحكومية ليبلغ عدد العاطلين من العمل أكثر من 740 ألف شخص. وتزايدت الاحتجاجات السياسية والاجتماعية في العامين الماضيين لمعدلات غير مسبوقة منذ ثورة الياسمين في 2011، وتصاعدت المواجهة الأمنية العنيفة لها وتم اعتقال مئات الأشخاص.

وعلى الصعيد الهيكلي لم تفعل النخب الحاكمة في تونس الكثير منذ سقوط بن علي لتغيير الاقتصاد الذي يعاني من سيطرة عدد قليل من الشركات ورجال الأعمال، أحياناً بشكل احتكاري، على مجالات التصدير والاستيراد، والأنشطة الزراعية، والسياحية والتعدينية. بل وعجزت هذه النخب عن اجراء تغييرات سياسية أعمق من تحويل النظام الرئاسي إلى نظام برلماني، فلم يقع اصلاح حقيقي لقطاع أجهزة الأمن او القضاء أو الإعلام. وانشغلت النخب الحاكمة في هذه السنوات العشر مع اعميها في الداخل والخارج بالصراع مع الإرهاب وتحديد دور “حزب النهضة” وسياسات الهوية (مثل وضع الشريعة في الدستور مثلاً).

ووصل قصر النظر السياسي إلى حد مزر عندما دعا رئيس مجلس شورى “حركة النهضة” عبد الكريم الهاروني لتفعيل صندوق “الكرامة” ودفع تعويضات مالية كبيرة لضحايا الاستبداد في سنوات حكم بن علي واشترط على الحكومة تفعيل الصندوق قبل 25 تموز/ يوليو، وتطايرت الانتقادات ضد “النهضة” تتهمها بتقديم رشى سياسية لمؤيديها، بل وانتقد زعماء في الحركة توقيت الدعوة فيما تواجه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع أعداد ضحايا “كوفيد- 19”. وأتت دعوة الهاروني لدفع هذه المخصصات، على رغم تزايد الاحتجاجات الشعبية على الأوضاع الاقتصادية والصحية مع استمرار عجز الحكومة والبرلمان عن إقرار اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بنحو أربعة مليارات دولار. وتواجه الحركة صراعاً داخلياً حتى من قبل قرارات الرئيس سعيد، حتى إن زعيمها راشد الغنوشي (80 سنة) اضطر لتأجيل اجتماع مجلس الشورى الأخير قبل ساعة من انعقاده وسط نداءات وبخاصة بين شباب الحركة، تدعو إلى تغييرات واسعة في القيادات وتحملها مسؤولية الفشل السياسي.

عنتريات سعيد الشعبوية

حصل الرئيس سعيد على دعم وتصريحات مشجعة من عواصم متعددة مثل الجزائر والقاهرة والرياض وأبو ظبي، وأعلن أنه اتصل ببعض الدول الصديقة من اجل الحصول على دعم مالي، وفي الوقت نفسه أكدت عواصم أخرى منها باريس وواشنطن وقوى داخلية مهمة مثل اتحاد الشغل أن على سعيد ان يعلن سريعاً عن خطة طريق لاستعادة عمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية وتقصير فترة سيطرته شبه الكاملة على كل مقاليد السلطة في البلاد. ولكنه حتى الآن وربما بسبب الفشل المزري لمعظم القوى السياسية لم يتلق أي انتقادات حادة داخلية أو مطالبات واضحة خارجية بالتراجع عن قراراته التي يصعب توقع أن تؤدي إلى حل مشكلات تونس المعقدة. وقد تقدم بعض الدول العربية الغنية وبخاصة في الخليج بعض الدعم المادي، ولكنه لن يكون في الاغلب كبيراً، ولن يؤدي في أي حال سوى إلى حلول قصيرة الأمد لمشكلات تونس الاقتصادية.

ولا يساعد في هذا عنتريات سعيد الشعبوية، وعلى سبيل المثال دعوته المصارف إلى خفض نسب الفائدة لتخفيف العبء عن المستدينين او الساعين للاستدانة (بما فيهم الدولة ذاتها) أو مناشدته في فيديو نشره مع رئيس “اتحاد الصناعة والتجارة” التجار بالتحلي بروح وطنية في هذه الظروف الصعبة.. وتخفيض الأسعار، وأن يتحلوا بشعور وطني أكثر من أي شعور آخر يقوم على الربح او استغلال الظرف للمضاربة أو الاحتكار. وقال الرئيس في اللقاء المصور ذاته بأن حوالى 460 من رجال الأعمال ضالعون في قضايا فساد يصل حجمها إلى 13500 مليار دينار (نحو 4.8 مليار دولار) ودعا للتصالح معهم مقابل أن يقوموا بتمويل مشاريع تنموية تشمل بناء مدارس ومستشفيات وطرق في المناطق الأكثر فقراً في البلاد. وأضاف “هذه أموال الشعب الذي نهبوه وسرقوه. فلوس الشعب تعود للشعب”. 

ولا شك في أن هذه التصريحات تدغدغ مشاعر الغاضبين من الممارسات الفاسدة والاحتكارية والحالمين بتغييرات تحسن أوضاع الأغلبية الافقر والاشد يأساً وتضرراً، ولكن لو كانت هناك دروس تمكن الاستفادة منها من التاريخ فهي أن أي حلول حقيقية مستدامة لمشكلات معقدة تتطلب سياسات واضحة وقوى اجتماعية وسياسية منظمة تقف خلفها ومفاوضات وحلول وسط وخطط واضحة بدل خطب شعبوية واختيارات فردية من غير الواضح من يقف خلفها ومن يؤيد سعيد فيها.

وينتهي الباحث الدكتور حمزة المؤدِّب إلى أن نجاح سعيد يتطلب بناء جبهة دعم داخلية تتطلب تدفقات مالية كبيرة “وتنسيقاً مع قوى وطنية ودولية للإبقاء على الزخم الشعبي الذي رافق قراراته أو في أفضل الأحوال للحد من خيبة الأمل التي لا مناص منها لدى قطاعات واسعة. البلد يحتاج الى اصلاحات جذرية، وإلغاء الامتيازات ومواقع الريع وإصلاح جذري للمؤسسات العمومية وعودة الانتاج. هي إصلاحات ستثير غضب قطاعات اجتماعية متنفذة: اتحادات الشغل والأعراف أساساً. هل يمكنه البناء بدون هؤلاء او ضد هؤلاء بدون الدخول في الإكراه. إن نجح فسيكون ذلك حتماً على حسابهم وان فشل فعلى حساب البلد. وهذه هي حقاً معضلة سعيد، والأهم، معضلة تونس ذاتها.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *