نُشر في موقع درج أول اكتوبر ٢٠٢٠
عندما انطلقت القذائف المدفعية عبر الحدود الفاصلة بين آذربيجان ومنطقة ناغورنو كاراباخ ذات الأغلبية الأرمينية، عاد الطرفان إلى صراع مسلح كان مجمداً تقريباً منذ 25 عاماً. “ناغورنو” كلمة روسية تعني “أراضي جبلية”، بينما كاراباخ أو قرة باغ كلمة تركية تعني “الحديقة السوداء”، أي أن ناغورنو كاراباخ حيث لقي المئات مصرعهم راهناً، اسمها بالكامل هو “الحديقة السوداء الجبلية”. وتاريخ هذه الحديقة السوداء الواقعة في قلب آذربيجان الحديثة قديم ودموي بسبب المشاحنات بين اغلبيتها أرمينية العرق والآذريّين المحيطين بها من كل جانب تقريباً. تفضل باكو تصوير الصراع على أنه محاولة منها لاستعادة أراضيها التي فقدت السيطرة عليها في 1994، بينما يقول مسؤولون في ستبنكرت (عاصمة إقليم كاراباخ) إن نضالهم المستمر يأتي من أجل تقرير المصير وتأكيد استقلالهم. ويرى معظم المراقبون أن الصراع في الحقيقة هو مواجهة جيواستراتيجية بين جمهوريتي أرمينيا وآذربيجان مع تورط أطراف أخرى متعددة منهم روسيا وتركيا أساسا مع اهتمام من جانب فرنسا والولايات المتحدة وايران.
خمد الصراع على ناغورنو كاراباخ معظم القرن العشرين بسبب سيطرة الشيوعيين في موسكو. ومع بوادر انهيار الاتحاد السوفيتي اندلعت شرارة النزاع العرقي مرة أخرى عام 1988، وبعد ستة أعوام من الصراع المسلح و20 ألف قتيل ومليون نازح معظمهم آذريّون، وافق الطرفان على وقف إطلاق نار غير رسمي في 1994، وصارت المنطقة التي تضم 150 ألف نسمة جمهورية مستقلة (لا يعترف بها أحد) تتلقى دعماً قوياً من جمهورية أرمينيا وتحتل سبع مناطق آذرية صغيرة كمنطقة أمنية عازلة ولتأمين ممر بري بين كاراباخ وأرمينيا.
عندما زرتُ المنطقة منذ عشرين عاماً كانت أكثر هدوءاً. تمكنت من الاقتراب من كاراباخ وفي بلدة صاتلي حيث كان نازحون آذريون يعيشون في قطارات بضاعة لم تتحرك من أماكنها منذ سنوات، تقافز أطفال صغار بين عربات القطار التي امتدت بينها حبال غسيل ونزلت منها سلالم خشبية. الشتاء هناك فصل مرعب مع كل تلك الثقوب والأبواب التي لا تغلقها سوى بطانيات تترنح مع الريح. بالقرب من عربات البضائع هناك خزانات نفط كبيرة تحولت إلى غرف لمعيشة اللاجئين. وأمام غرف سياسي كان مرموقاً في كاراباخ قبل أن يصبح لاجئاً، وقفت زوجته تتصيد أشعة الشمس ونصفها الأيمن مشلول ومتكئ على ذراع ابنها البالغ من العمر 18 سنة. ضاع المصنع الذي كانت تعمل فيه مديرة كبيرة، ومزرعتها، وبيتها، كل شيء ضاع، ما عدا ثلاث صور بالأبيض والأسود معلقة داخل غرفتها.
كانت هناك أكثر من 100 عربة قطار يعيش فيها لاجئون. قالت لي عجوز “صعب علي أن أعيش هنا، أن أتسلق هذه الدرجات الخشبية لعربة القطار التي أعيش فيها. مياه المطار تتسرب من الثقوب في سقف العربة ودرجة الحرارة هنا أكثر برودة من الخارج فى الشتاء وأشد حرارة في الصيف”. في عربة أخرى يقيم المدير السابق لمديرية الأنشطة الرياضية في كاراباخ والذى صار سائقاً في باكو قبل أن يتقاعد ليقيم في هذه العربة مع زوجته وأطفالهما الثلاثة. تتوسط منضدة طعام صغيرة العربة وعلى الجدران سجادتان قديمتان صغيرتان. وقال الرجل: “صرنا معتمدين على المنح والهبات ونسلك مثل الشحاذين.”
“نجورنو” كلمة روسية تعني “أراضي جبلية”، بينما كاراباخ أو قرة باغ كلمة تركية تعني “الحديقة السوداء”.
إجمالاً نزح حوالى 700 ألف آذريّ بسبب الصراع على كاراباخ، وتقلصت حياتهم إلى ما يحملونه من ملابس، لو أسعدهم الحظ في حملها، وبعض المتعلقات التي استطاعوا الزج بها في سياراتهم أو شاحناتهم التي فروا بها. حلم العودة لا يفارق اللاجئين بخاصة أن الدولة تبقيهم في وضع اللجوء ولا خطط هناك لتوطينهم، وذكرتني حالتهم بوضع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا أو لبنان. قال لي أحدهم: “نعلم أن المانحين ملّوا ونتمنى أن تتحرر أراضينا لنعود ونعمل… انظر إلى الناس من حولك يجلسون قانطين أمام منازلهم. لا وظائف… ولا مزارع جماعية للعمل فيها بعد الخصخصة ولا مال لنشتري أرضاً… انظر إلينا… كنا فلاحين ومدرسين ومهندسين، والآن تجمدت حياتنا في الانتظار.”
سكن الأرمن وهم مسيحيون اورثوذوكس وعرقيات أخرى نجورنو كاراباخ منذ القرون الأولى بعد المسيح وبخاصة فى التلال الشاهقة. ودخلت المنطقة تحت ظل الخلافة الإسلامية في أوائل القرن الرابع عشر عندما استوطن أتراك مسلمون التلال المنخفضة. وظل حكام المنطقة الأرمن خاضعين لسيطرة الإيرانيين معظم الوقت (حكمهم العثمانيون بعض الوقت) حتى ضمها القيصر ألكسندر الأول في أوائل القرن التاسع عشر للامبراطورية الروسية. وساعتها وقع تبادل – إن لم يكن تطهير عرقي سلمي نسبياً – إذ غادرت عائلات مسلمة كثيرة إلى إيران، بينما شجع الروس عائلات أرمنية على الهجرة المعاكسة من إيران الى كاراباخ.
وبدأت أول بذور الصراع الحالي مع نهاية الحرب العالمية الأولى منذ 100 عام، مع حل جمهورية عبر القوقاز الديموقراطية الاتحادية وانقسمت إلى جمهوريات ثلاث هي أرمينيا وأذربيجان وجورجيا. واندلعت الحرب بين آذربيجان وأرمينيا حول الحدود المشتركة، وبخاصة منطقة كاراباخ. وتدخل الأتراك ولكنهم فشلوا في حلحلة الوضع لمصلحة الآذرييّن إذ إن الأتراك كانوا في واقع الأمر هم الطرف المهزوم في الحرب العالمية الأولى. ثم تدخل البريطانيون وعينوا آذرياً حاكماً على المنطقة ووضعوها تحت سيطرة حكومة باكو لحين البت في مصيرها.
وغير بلاشفة موسكو كل الحسابات عندما اجتاحت جيوشهم القوقاز في 1920 واستولوا على الجمهوريات الثلاث، ولحسابات سياسية تتعلق بمحاولة إرضاء تركيا قرر جوزيف ستالين جعل كاراباخ عام 1923 منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، ولكنها تخضع لسيادة آذربيجان وسيطرتها.
وتقع مناوشات بين آذربيجان ونجورنو كاراباخ بين حين وآخر وكانت آخرها عام 2016، وأدت الى مقتل 200 جندي من الطرفين.
وبدأت الهجمات الحالية من جانب باكو في الأغلب في محاولة جديدة “لتحرير” كاراباخ وإرجاعها لسيطرة آذربيجان في الوقت الراهن. واكد الرئيس الآذري الهام علييف ان بلاده لا تحارب أرمينيا ولكنها تسعى إلى إعادة كاراباخ للبلد الأم، ولم يعلن عن ضحاياه من العسكريين وإن أقرت حكومته بمقتل عشرة مدنيين وجرح ثلاثين. حكومة جمهورية أرتساخ (الاسم المحلي لنجورنو كاراباخ) تقول إن مئات العسكريين الآذريّين والمرتزقة الأجانب وبينهم سوريون قتلوا في المعارك الأخيرة.
تفضل باكو تصوير الصراع على أنه محاولة منها لاستعادة أراضيها التي فقدت السيطرة عليها في 1994، بينما يقول مسؤولون في ستبنكرت (عاصمة إقليم كاراباخ) إن نضالهم المستمر يأتي من أجل تقرير المصير وتأكيد استقلالهم.
وقال روبرت آفتسيان ممثل آرتساخ في واشنطن في حوار مع “درج” أن منطقته فقدت 107 جنود و8 مدنيين بينما جُرح الالاف بسبب القصف العسكري الآذريّ. وأُعلنت حالة الطوارئ في أرمينيا وآذربيجان وبدأت تعبئة عسكرية عامة وفرضت باكو حظر تجول يبدأ من التاسعة مساء وقلصت استعمال الانترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي. ويؤكد آفتسيان أن الحياة طبيعية قدر المستطاع في منطقته حيث تعمل محال البقالة وتتجول سيارات الأجرة، ويعمل نظام الدفاع المدني كما أن طريق التجارة البري الوحيد مع العالم الخارجي والواصل بين المنطقة وأرمينيا ما زال يعمل. وكان آفتسيان وصل إلى عاصمة المنطقة ستبنكرت من واشنطن في زيارة خاصة قبل اندلاع الأعمال العسكرية بساعات.
وبينما يصر الرئيس علييف على أن بلاده تخوض حرب تحرير، يرى آفتسيان أن الأرمن في آرتساخ يواصلون نضالهم من أجل تقرير المصير، قائلاً: “هذا ليس نزاعاً على أراضي بين جمهوريتي آذربيجان وأرمينيا بل نضال من أجل حق تقرير المصير في كاراباخ”. وتتعامل جمهورية أرمينيا مع هذا الصراع بصفته في قلب المواجهة الاستراتيجية مع آذربيجان والعداء التاريخي مع تركيا التي تنكر تورط مؤسسي دولتها الحديثة في مذابح واسعة ضد الأرمن عام 1915. ولكي لا تضعف موقفها الدولي في هذا الصراع ترفض أرمينيا إعلان أنها تريد ضم كاراباخ إلى أراضيها، على رغم أنها أيضا لا تعترف بها جمهورية مستقلة!
وخلف خط الصراع بين آذربيجان وأرمينيا في كاراباخ تقف روسيا وتركيا وبقية المجتمع الدولي. تقف روسيا خلف أرمينيا ولديهما اتفاقيات تعاون ودفاع، بينما تنظر تركيا إلى آذربيجان وجمهوريات إسلامية تركمانية العرق أخرى في آسيا الوسطى على أنها امتدادها الحيوي اقتصادياً وسياسياً ويربطهما خط نفط استراتيجي. وتقدم لها مساعدات عسكرية شملت طائرات مسيّرة وفقاً لمصادر وطائرات اف 16 وفقاً لمصادر كاراباخية. وهكذا تتصارع روسيا وتركيا بالوكالة في كاراباخ مثلما هما على طرفي نقيض في سوريا وليبيا. ودعت روسيا بالأمس من دون أن تسمي تركيا كل الأطراف في المنطقة من أجل إيقاف تدفق المرتزقة من الشرق الأوسط بعدما نشرت وسائل إعلام ما قالت إنه صور ومقابلات مع مقاتلين سوريين أوضح بعضهم أنهم وُعدوا بالحصول على ما يصل إلى 2000 دولار شهرياً وتم استقدامهم من طريق إسطنبول.
كان الأمل منذ عشر سنوات أن تتخلى أرمينيا وكاراباخ عن السيطرة على بعض المناطق لمصلحة آذربيجان ثم يسمح كل الأطراف بعودة النازحين الآمنة، وتبدأ مفاوضات حول الوضع النهائي للمنطقة. ولكن حكومتي يريفان وباكو عاجزتان عن القيام بهذا في ضوء تفضيل شعبي للصمود والمواجهة و”الانتصار”. وهذا هو عادة طريق التسويف واللاحل والحرب المستمرة في الصراعات المعقدة التي يتوهم فيها طرف إمكان سحق الطرف الآخر. وتجذر هذا الخيار أكثر مع تبادل البلدين القذائف اللغوية والاتهامات وإعلان الإصرار على التمسك بمواقفهما “الوطنية” عام 2019 ثم تعرض الحكومتين لضغوط اقتصادية وشعبية متصاعدة في 2020 بسبب جائحة “كورونا” والكساد العالمي. ووقعت مناوشات على الحدود الآذريّة- الأرمينية عالية الكثافة السكانية، ومات فيها العشرات في شهر تموز/ يوليو تموز المنصرم. وهكذا حتى وصلنا لأعمال عسكرية واسعة النطاق الآن، فالحرب كثيراً ما تصبح مخرجاً جيداً للحكومات المحاصرة والسياسيين الشعبويين.
لا أعرف ما سيحصل لمعظم اللاجئين الآذريّين الفارين من كاراباخ منذ سنوات طويلة ولكنهم في الأغلب لن يعودوا وربما لا يرغب أبناؤهم في العودة، ويفضلون مثل كل اللاجئين في العالم عيشاً كريماً عوضاً عن انتظار عودة لا تحدث، عيشاً كريما ربما في بلدان ثالثة ولكن من تبقى منهم سيظلون على رغم مآساتهم الواضحة أداة سياسية في يد باكو. وسيظل أرمن كاراباخ أيضاً أداة في صراع جيوستراتيجي بين أرمينيا وروسيا من ناحية وآذربيجان وتركيا من ناحية أخرى.
لن تستعيد باكو السيطرة على الإقليم في الأغلب بسبب ضعفها العسكري النسبي، على رغم إنفاقها العالي على التسليح، وذلك بسبب فساد مستشرٍ وضعف الالتزام والعقيدة العسكرية، ما أدى إلى فرار نحو 20 في المئة من جنود الجيش وفقاً لمصادر. وسيعود الوضع في الأغلب الى حالة اللاسلم واللاحرب قريباً، حتى انفجار آخر.
ربما لو أنفقت تركيا وروسيا بعضاً من أموالهما على مشاريع تنمية في آذربيجان وأرمينيا بل وفي كاراباخ وبدأت أنقرة حلحلة قضاياها التاريخية مع أرمينيا لكسب أردوغان أكثر على المدى الطويل، ولكن منذ متى يهتم السياسيون بالمدى الطويل!
نشوة الأزهري
شكرًا على العرض الوافي والمنير للقضية…