نُشر في موقع درج يوم ٨ ابريل ٢٠٢٠
لكم أنزعج من هذين الصنفين من الناس، وهما، أصحاب اليقين المتشائمون، وأصحاب اليقين المتفائلون. ما له الشك، لا سوق له ولا اتباع؟ هناك أسباب وجيهة وقسرية تجعل معظمنا لا يتوقف عن التفكير في كوفيد-10 أو فايروس “كورونا” المستجد طوال الوقت. كيف لا نفعل هذا وهو يسيطر على أدق تفاصيل حياتنا، ونومنا. عندما تنزلق أجفاننا وتنغلق مرة أو اثنتين حتى ننتقل من برزخ النوم القلق إلى حالة الصحو اليقظ مع أول ضوء في النهار، نتذكر أننا لا نحتاج للقفز سريعاً من أسرتنا كي نلحق بمواعيد العمل والمدارس، ونتذكر “كورونا”. عندما تزحف علينا ساعتها مشاعر قلق لأننا عرفنا سبب ترددنا في الخروج من الفراش أو ربما كان هذا القلق نفسه هو ما أيقظنا بعد أحلام مفككة، إنما ناضحة بالاضطراب، نتذكر “كورونا”. ثم يمر اليوم كله حتى تغرب الشمس ونحن نشعر بإرهاق من لم يغادر زنزانته الاختيارية أو الإجبارية، ونفكر في “كورونا”.
قد يغامر بعضنا ويضطر كثيرون منا للسير في الشارع أو ركوب سيارات أو مواصلات عامة مزدحمة أو خالية. ما زال كثيرون منا يضطرون للخروج للعمل لأننا نعيش في مجتمعات لا يهتم فيها أصحاب الشركات والأموال بقواعد الصحة العامة أو لا يهتمون بتأثيرات التهاون في حيوات منخفضة السعر في السوق. ويقول لك الواحد منهم وهو بعيد منك بضعة أمتار ووجهه مغطى بكمامة وفي منزله ربما غرفة إنعاش خاصة فيها جهازا تنفس اصطناعي، إنه لا بأس في أن يموت منا مليون في سبيل أن يحيا ملايين. نكره هذا الرجل ونتذكر “كورونا”.
هناك خطر أن يقسمنا “كورونا” أكثر مما نحن منقسمون، تفصل بيننا حدود دول وطبقات وعقائد وطوائف وحسابات مصرفية وشهادات علمية وانتماءات مناطقية
في كل ساعة من ساعات اليوم، وأحياناً في أحلام الليل، يظهر لنا “كورونا” بتجليات مختلفة. تغيرت حياتنا تماماً في أقل من 30 يوماً. صارت أوائل شهر آذار/ مارس كأنها تاريخ بعيد: تغير عملنا، أو تبطلنا، مدارس أولادنا أو سبل تسليتنا، مصدر رزقنا، ثروتنا التي نقصت أو فقرنا الذي زاد، قلقنا المتزايد، قاموسنا المتضخم من المصطلحات الطبية والاحصائية وشؤون الصحة العامة وأنواع الاحماض النووية المختلفة التي تتركب منها الفيروسات، تغيرت علاقتنا بالله، وبالعلم، وبالسياسة.
أنا من الذين يعتقدون في أهمية المواجهة وعدم العيش في حالة انكار ونفي للواقع أو تقاعس عن محاولة فهمه وتغييره قدر الإمكان. وفي هذا الواقع الفايروسي، الذي نجهل الكثير من جوانبه، والذي ربما ترهق ضوضاؤه نفسياً مئات ملايين البشر أو أكثر، ممن تأكدت إصابتهم به، علينا أن نحاول، لمن استطاع إليه سبيلاً، أن نعيش خارج إيقاع الفايروس وتأثيراته، من دون إنكار وجوده الطاغي، وأن تكون لدينا علاقة صحية بهذا الخطر الداهم.
ما يمكن أن يكون أكثر فائدة لنا لدعم صحتنا النفسية المهددة طول الوقت هو أن يتحدث كل منا بهدوء عما نفعل، وكيف نواجه تحديات “كورونا” دون أن نزعج بعضنا بعضاً بنقل (قص ولزق أو كوبي آند بيست) تجارب الآخرين، فتنهال علينا رسائل “واتساب” وبوستات “فايسبوك” وتغريدات “تويتر”، تهطل معها نصوص وصور وشرائط فيديو لآيات قرآنية ومقتبسات من العهدين الجديد والقديم، تدريبات يوغا، عشرات النصائح حول كيف تستغل الوقت لتتعلم كيف تقف على رأسك، بينما تقطع الجزر وتدوس زر الريموت بيدك الأخرى، لتستمع إلى فصول فيفالدي الأربعة أو الشيخ حسن الحفار، أو تتعلم النحت، أو اللغة البرتغالية، أو أن تشاهد مسلسلات التسعينات لأسامة أنور عكاشة بعد أن تعيد مشاهدة أفلام “ملك الخواتم” كلها.
معظم من حولي بفعل الحظ الاقتصادي والمرحلة العمرية هم من الفصيل الذي يخشى من انهيار قيمة مدخراته أو ممتلكاته بسبب الكساد الاقتصادي الزاحف على العالم كله، إضافة إلى الرعب من زيادة الوزن بسبب “كورونا” الذي يجبر الجميع على البقاء في بيوتهم. الفصيل الأكبر في هذا العالم طبعاً على الناحية الأخرى يواجه أو سيواجه سريعاً تحديات دفع إيجار البيت أو أقساط السيارة أو مصاريف المدرسة، أو حتى أوجه أنفاق أكثر حيوية وأهمية مثل الطعام والشراب والكهرباء واشتراك الانترنت.
أنا من الذين يعتقدون في أهمية المواجهة وعدم العيش في حالة انكار ونفي للواقع أو تقاعس عن محاولة فهمه وتغييره قدر الإمكان
هناك خطر أن يقسمنا “كورونا” أكثر مما نحن منقسمون، تفصل بيننا حدود دول وطبقات وعقائد وطوائف وحسابات مصرفية وشهادات علمية وانتماءات مناطقية، كما أن هناك خطر أن نتغاضى عن هذه الفوارق وألوان الطيف تحت ادعاء أن الفايروس يهاجم الإنسان من حيث هو إنسان بلا أي اهتمام بهذه الفروق المصنوعة اجتماعياً.
لذا، سأحاول في مذكراتي مع “كورونا” التي أطمع بأن تتحول إلى سلسلة مقالات منتظمة، أن أتحدث عما أقرأ وأشاهد من دون أن أتحدث عن هذا الفايروس صاحب التيجان كثيراً، ومن دون أن أتجاهل وجوده الطاغي تماماً. فكرت في هذه المقالات بعدما سخرت صديقة متخصصة في علم النفس (ولديها أسباب وجيهة) من ادعائي بأنني انجز الكثير من العمل، على رغم هذه العزلة. وعلقت صديقة أخرى قائلة: “أنت في حالة إنكار. هذه العزلة وحظر التجول سيؤثران فيك لا شك. توقف عن خداع الذات أو انتظر أسابيع لترى الانتشار الهائل للأمراض النفسية وأعراض كرب ما بعد الصدمة، وحَ تشوف”. ولما شعرت بعد أيام بملل من الروتين واشتياق للشكاوى المعتادة عن فشل السياسات الاقتصادية وتجاوزات الأجهزة الأمنية والكوارث البيئية المحدقة في عصر ما قبل “كورونا”، كتبت على “فايسبوك”، فجاء رد الصديقة فورياً، كأنها كانت جالسة إلى طاولة مطبخ بيتها في مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون الأميركية تنتظر تعليقي. قالت: “أترى. ألم أقل لك. وستسوء الحال أكثر!”.
في اليوم ذاته اعتذر صديق آخر عن الحديث الي على تطبيق “زوم”، لأنه مشغول بـ”كورس” جديد عن الخبيز في المنزل. “تعرف يا خالد، لكأنما كنت انتظر هذا الكورونا حتى اكتشف أشياء كثيرة احبها ويتوفر لي الوقت للقيام بها. سننجو وسيكون العالم أفضل لانه سيكون قد أدرك فائدة التباطؤ وسخافة هذا الولع بالتكديس والتراكم والعمل ساعات طويلة”.
لكم أنزعج من هذين الصنفين من الناس، وهما، أصحاب اليقين المتشائمون، وأصحاب اليقين المتفائلون. ما له الشك، لا سوق له ولا اتباع، على رغم أنه مشجع على العمل وإعادة النظر والحيوية المنضبطة.
ترقبوني وراقبوني وشاركوني!
نشوة الأزهري
كنت أظنه إسمه كوڤيد ١٩ !
خالد منصور
خطأ مطبعي وشكرا على دقة الملاحظة وشكرا على المتابعة
مذكرات “كورونا”(2) : أصابعنا متفاوتة الطول! – حفر وتنزيل
[…] مذكراتي مع كورونا (١) : العيش خارج ايقاع الفيروس […]
في ظل كورونا(2) : أصابعنا متفاوتة الطول! – حفر وتنزيل
[…] مذكراتي مع كورونا (١) : العيش خارج ايقاع الفيروس […]