نُشر في درج ٢١ اكتوبر ٢٠١٩
ارتجت ساحات لبنان تحت أقدام أكثر من مليون مواطن خرجوا إلى الشوارع، ليحتجوا على تردي الأحوال المعيشية وتفشي الفساد، ولكن ما زلزل مراكز السلطة والقوة الموزعة طائفياً في هذا البلد، كان في الأغلب قائمة منتقاة من الشتائم والسباب، انهمرت من دون انقطاع من حناجر المحتجين لتمزق هالة القداسة المحيطة بالقادة السياسيين وعائلاتهم، من الرئيس الجنرال إلى الشيخ رئيس الوزراء ومروراً بالأستاذ صاحب توكيل الأمل ونهاية بزعيم النصر الإلهي الذي لا منصب له ولكنه يهيمن على الحياة السياسية.
ونال وزير منفلت اللسان متعجرف نصيباً وافراً، وشارك في شتمه أشخاص يترفعون عادة لأسباب أخلاقية أو سياسية عن الإشارة إلى أعضاء الأم (أو الأخت) التناسلية، كلفظ سباب شائع في الثقافة الشعبية اللبنانية وغيرها في المنطقة. بدا أنه من المهم للمحتجين – وربما بشكل لا واعٍ – إنزال كل هؤلاء الزعماء المبجلين وبخاصة في وسط طوائفهم من على منابرهم المرتفعة فوق الشعب، وفوق الناس، وفوق النقد.
هذه سمة مميزة لثورات الربيع العربي الممتدة مذ خرج التونسيون في 2010 في تظاهرات ضد “عصابة السرّاق” لأن هذه الانتفاضات في صلبها توجه ضربة أساسية للأعراف الاجتماعية البطريركية المحافظة والأدوار التاريخية التي بهتت (أو كانت مخترعة وملفقة ومحسنة)، والتي تمكن هذه النخب اللصوصية من تبرير وتمتين بقائها في السلطة.
يدرك الناس أن تلك “الأعراف الاجتماعية” المزعومة قد تآكلت بل وتهاوت من زمن، ولكن يبدو أن النخب العربية الحاكمة ترفض الممارسة والاعتراف العلني بما تتغاضى عنه أغلبيتها أو تقبل به سراً، لنحيا في نظام أخلاقي مختل تماماً، ينزعج ويعتقل محتجين ويعذبهم ثم يلقيهم في السجون سنوات، لأنهم سبوا الجنرال الفلاني أو السياسي العلاني بينما تتهادى إلى أسماع السائرين في الشوارع حوارات وتعليقات تعج بالشتائم وأسماء الأعضاء التناسلية والشتائم الوضيعة في أي وقت من اليوم. هذه الأعراف التي تسمح لمعظم الناس بتجريح بعضهم بعضاً أو حتى كيل الشتائم الذكورية على سبيل “المزاح”، تستشرس مؤسساتها القضائية والقانونية إذا اصابت بشتائمها ظل أحد الحكام.
منذ ثلاثة أعوام قضت محكمة قاهرية بسجن الروائي أحمد ناجي بسبب «مشاهد جنسية سافرة» في روايته، وقالت في حيثيات الحكم إن غاية القانون هي حماية الأخلاق العامة والدين والوطنية والأسرة. وذهب القاضي إلى أن كتابة ناجي تقوض المجتمع ذاته، وتتجاهل قيمه وحدوده الأخلاقية وتحرض على الفسق. وحذر من ترك “مصير أمتنا تحت رحمة من يتعاملون معه باستخفاف واستهتار كمن يلعبون الورق… وتسقط الحرية التي جلبت لنا الفساد وضياع الأخلاق والتحلل الأخلاقي بعد الأحداث التي أحاطت بمصرنا الحبيبة”، في إشارة إلى ثورة 2011 التي تشيع الإشارة إليها بوصفها “الأحداث” بين من يرونها مؤامرة غايتها هدم البلاد وتفتيتها لخدمة أغراض خارجية وليست دعوة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية.
الشتائم مجرد بداية لطريق طويل (سيشهد انحرافات وتراجعات) كي يكون الشعب هو السيد والحكيم والقائد والمعلم، ليس بالمعنى الناصري الفج الذي يحول الزعيم الأوحد إلى المتحدث الأوحد باسم الشعب ولكن بمعنى أن تصبح له السيادة حقاً وفعلاً على أمور حياته.
في مواجهة مثل تلك المواقف من جانب مؤسسات الدولة يلجأ المحتجون إلى قلب الطاولة تماماً، وإظهار أن “الفساد وضياع الأخلاق”، هو أن تستحوذ نخب حاكمة ضيقة على معظم الثروة والسلطة ومؤسسات التشريع والأمن، ثم تفشل في إدارة البلاد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، وتلجأ للعنف من طريق مؤسسات قضائية خربة أو مباشرة من طريق أجهزة الأمن من دون اهتمام بقانون هم أنفسهم وضعوه على مقاسهم ولا يُطبق عليهم. وبعد هذا كله تسعى هذه النخب التي تفتقر شعوبها إلى فرض ضرائب على الاتصالات الهاتفية أو رفع قيمة المواصلات العامة واستهلاك المياه والكهرباء من أجل تمويل جبل شاهق مترنح من الفساد والفشل.
ومن هنا تصبح الشتائم أمراً خطيراً من وجهة نظر هذه النخب المذعورة والمتوحشة في الوقت نفسه، لأنها ببساطة تنزع القداسة عن رموز سياسية ودينية.
لا مقدس في السياسة سوى حق المواطن في المساواة أمام قانون مطبق على الجميع شارك هو او من ينوب عنه في وضعه، وله حق الرقابة على تنفيذه، وتعديله. هذه هي الحالة المثالية ولكنها معيار السياسية الحديثة. وفي هذا العالم الحديث، شئنا أم أبينا، لم يعد السيد هو رمز السيادة ولا يحتكر الحكيم الحكمة ولا يتحول الجيش إلى مجرد جنرال واحد ولا تختزل الكنيسة والجامع في شخص البطريرك والإمام (سنياً كان أم شيعياً). في هذا العالم الحديث الذي يتوق إليه عرب كثيرون – على رغم مثالبه – يتصارع مواطنون في مجال سياسي لا مقدسات فيه، ويمكن فيه تغيير الرأي حيث لا أحد يتحدث باسم الله ولا أحد يملك عنوة جينات التفوق بفعل المصاهرة أو يعيش على ذكرى نصر إلهي، بينما يرسل جنوده من أجل حرب أهلية في بلاد الجوار.
نزع المقدسات في السياسة أمر طيب لأن من يستغلونها بداية من الزعماء الدينيين ومروراً بالجنرالات وانتهاء بالطائفيين والمرتزقة، لن يعيشوا مرتاحين من دون بدلة القداسة الواقية من النقد. لا تقدم الشتائم سياسات بديلة ولن تسدد ديوناً بمليارات الدولارات، لا يعلم أحد أين ذهبت، ولكن من المأمول أن تساهم في فتح طريق تسده هذه النخب الحاكمة شبه المقدسة نحو تأسيس مجال سياسي جديد سيكون المقدس فيه – أو هكذا يأمل الواحد – هو حقوق المواطنين المتساوية والحد الأدنى من الحياة الكريمة وخدمات الصحة والتعليم والإسكان للبشر.
وبهذا المعنى فالشتائم مجرد بداية لطريق طويل (سيشهد انحرافات وتراجعات) كي يكون الشعب هو السيد والحكيم والقائد والمعلم، ليس بالمعنى الناصري الفج الذي يحول الزعيم الأوحد إلى المتحدث الأوحد باسم الشعب ولكن بمعنى أن تصبح له السيادة حقاً وفعلاً على أمور حياته. وهذا ستكون بداية النجاح الحقيقي المستدام لثورات الربيع العربي. وهي بداية قد تنتهي حياتنا قبل أن نراها ولكنها لن تحدث في ذلك المستقبل من دون مشاركتنا في هذا الحاضر – وربما في السباب أيضاً. وهيلا هيلا، هيلا هيلا هو، الزعيم $٪^&.