(منشور في درج بتاريخ ١٧ يونيو ٢٠١٨)
يقود محمد صلاح فريق مصر في مواجهة الروس في كأس العالم على ملعب سان بطرسبرغ هذا الأسبوع. وعلى بعد أقل من 15 كيلومتراً يرقد جثمان شيخ مصري، ربما يكون هو الوحيد الذي زار هذه المدينة من قبل، ولكنه، مثل صلاح، أتى من قرية نجريج في محافظة الغربية في قلب دلتا مصر. دُفن الشيخ محمد عياد الطنطاوي في مقابر فولكوفو الإسلامية عام 1861، وكان وصل تلك المدينة العتيقة في مثل هذا الشهر عام 1840.
سيكون صلاح، لا شك، أشهر وأهم مصري زار المدينة الروسية العتيقة ولعله أشهر مصري في العالم كله الآن، إذ يتفوق على كل الساسة ونجوم الفن والمال الذين من أصل مصري. وسيظل الشيخ الطنطاوي مجهولاً سوى لعدد من المستشرقين الروس، إذ لم ينل ولو حتى ذرات من الاهتمام الذي طاول مجايليه من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي. ولكن صلاح والطنطاوي يشتركان في أشياء عدة، إضافة إلى قدومهما من قرية نجريج، فقد عمل كل منهما بجد واجتهد كثيراً، وساعدهما ربما بعض الحظ للوصول إلى آفاق لم تكن متوقعة في بداية حياتهما، وسط أسر بسيطة من خارج سياق عوالم الثروة والسلطة، على رغم القرنين الفاصلين بينهما.
وكان الاحتراف أو الاحتكاك بالعالم الخارجي بداية تغيّر درامي في حياة الرجلين.
انتقل الطنطاوي من غنى والده إلى فقر اليتم وكان عمره ثلاث عشرة سنة، واضطر إلى العمل بعد أن كان ابن تاجر مقتدر يملك بيوتاً في طنطا ومحلة مرحوم القريبة وفي نجريج. يقول طنطاوي في رسالة إلى صديق فرنسي إنه “عاشر بعض الإفرنج المقيمين في مصر وأول من عاشرته حضرة الخواجة فرين، وهو يحب اللغة العربية بالطبع، فكان يحثّني دائماً على الاشتغال وهو الآن قنصل فرنسا في جدة”. فرين، هذا القنصل المستعرب، كان من سحب الطنطاوي من عالم الفقه والدراسات الدينية إلى عالم الأدب والتاريخ ثم إلى دراسة اللغة الفرنسية. ويدين الطنطاوي لمستشرق روسي ولد بعد وفاة الشيخ بعقود وهو إغناطيوس كراتشكوفسكي، الذي حقق وطبع مذكرات ورسائل المدرّس المصري بناء على أوراقه المحفوظة في كلية الدراسات الشرقية في سان بطرسبرغ عام 1929.
سيكون صلاح، لا شك، أشهر وأهم مصري زار المدينة الروسية العتيقة ولعله أشهر مصري في العالم كله الآن، إذ يتفوق على كل الساسة ونجوم الفن والمال الذين من أصل مصري. وسيظل الشيخ الطنطاوي مجهولاً سوى لعدد من المستشرقين الروس
كان للأجانب دور مهم في حياة الطنطاوي، فبعد فرين التقى مع “الخواجة بورنير الحكيم في القصر العيني سابقاً– وهو رجل حسن الأخلاق والطباع، يشفي ويبشر المريض قبل علاجه، والخواجة بيرون مدير القصر العيني الآن، وقد قرأ معي كثيراً من ترجمات الأغاني وانساب العقد… وكنت أعمل في مكتب الإنكليز في مصر وذلك قبل سفري بسنة”. ولأنه كان يعلّم اللغة العربية لأجانب كثيرين وبينهم بعض الروس فقد تلقى الطنطاوي دعوة رسمية وجهت إلى بلاط الوالي محمد علي عام 1840، ليذهب إلى سان بطرسبرغ لتدريس اللغة العربية.
رفض نادي الزمالك القاهري الشهير التعاقد مع صلاح لاعب نادي “المقاولون العرب” في أواخر عام 2011. وبعدها بأشهر عدة خرج صلاح من مصر محترفاً في فريق بازل السويسري. وكانت هذه بداية نجومية أتت بعد عمل شاق ومستمر. وعلى عكس الطنطاوي ارتبط صلاح بشدة بقريته. فمنذ نحو عشر سنوات، كان يستغرق 8 ساعات ذهاباً وإياباً على طرق سيئة، أحياناً في أيام متتالية، من أجل الوصول إلى تدريبه في فريق الناشئين في نادي المقاولون العرب. كان صلاح يركب «ميكروباص»، بالقرب من النادي، متوجهاً إلى ميدان رمسيس، في وسط القاهرة، ومنه إلى ميكروباص آخر إلى طنطا ثم يستقل سيارة أجرة إلى بلدة بسيون ومنها توصله سيارة صغيرة أخيرة إلى قرية نجريج. أربع ساعات كاملة وفقاً لصحافي من جريدة الشرق الأوسط قام بالرحلة أخيراً حتى يصل اللاعب الصغير إلى بيته (وأربع ساعات أخرى حتى يصل إلى التدريب). 8 ساعات من السفر المرهق في كل يوم تدريب. رحلة ظل صلاح يقوم بها حتى منحه النادي غرفة بسيطة في فندق ملحق بالنادي أقام فيها شهوراً طويلة ولكنه ظل يعود إلى نجريج بانتظام.
لا يدّعي صلاح أنه وصل إلى ما هو فيه بفعل الدين الذي ولد عليه أو البلد الذي جاء منه بغض النظر عن المحاولات الدينية والوطنية المستمرة لامتلاك الرجل واستغلاله دعائياً. أحد أبناء قرية صلاح قال لصحافي زائر أنه بكى عندما قرأ عن أغنية لمشجعي فريق ليفربول تقول كلماتها: «إذا كان جيداً بما فيه الكفاية لي، إذا سجل المزيد من الأهداف، سأصبح مسلماً مثله». ويقول الرجل إنه بكى لأنّ محمد “يحتفظ بأخلاق قريتنا نجريج، ويجبر الجميع على احترامه، وحب كل ما يقوم به مثل سجوده في الملعب بعد تسجيل الأهداف… محمد أعطى درساً للأوروبيين وهو أنّ الإسلام يحث على الإخلاص والاجتهاد في العمل”. ولكن صلاح، في الأغلب، يمارس طقوساً مصرية في التدين بحركات رمزية شاعت في ملاعب كرة القدم أو في الشوارع منذ الثمانينات، ومنها لفتة سجود اللاعب بعد تسجيل هدف ورفع إصبعه نحو السماء، وتعامل صلاح بارتياح وظهور علني لزوجته المحجبة على طراز الطبقة الوسطى المصرية وللعبه مع ابنته “مكة” بكرة القدم أمام جماهير إنكليزية كبيرة، بعد أن حصل على جائزة أفضل لاعب هذا العام. ولكن هل أتقن صلاح عمله لأنه مسلم؟ أو لأنه مصري من قرية نجريج؟
في لقاء مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” يقول شاب مصري إن صلاح رفع اسم مصر عالياً، ولكنّ شباباً كثيرين يردّدون أن صلاح، لم يكن لينجح لو لم يترك مصر. ولخص شاب مصري المسألة قائلاً إن صلاح أعاد الأمل لشباب جيله بأنه يمكن السفر إلى الخارج وبناء مستقبل باهر وتحقيق الطموحات عبر العمل بجد. صلاح غير مدين لنجاحه سواء في الكرة أو بعدها لنادٍ مصري أو مؤسسة حكومية احتضنت موهبته. ويعيد صلاح الأمل لبلد صار فيه هذا الشعور نادراً، حيث يصعب تحقيق الآمال والأحلام من دون وساطات فساد أو موقع في مؤسسة معينة. ويقول حمدي نوح، مدرب صلاح في نادي المقاولون العرب منذ عشر سنوات، أن صلاح حين كان ناشئاً، كان يتدرب مع الكبار في الصباح المبكر، ثم يواصل التدريب حتى بعد أن ينتهي الجميع في المساء. “كان مصمماً”. صديق لصلاح يقول: “نجاح محمد لم يأتِ مصادفة، لأن النجاح يحتاج إلى كفاح، وهو ما فعله”.
ويعيد صلاح الاعتبار للبساطة والتواضع ومساعدة الآخرين من دون تبجح ومظاهر إعلامية. تبرع بملايين الجنيهات لبناء مؤسسات خدمية في بلده وظل على تواضعه ومرحه، على عكس لاعبين آخرين أو فنانين أو سياسيين. ليست الحكاية أن صلاح صعد من مستنقع فقر ويأس إلى سحب الثروة والنجاح وما زال “يحنو” على أهله، ولكن القصة أنه قام بتلك الرحلة وظل ينتمي للعالمين، إذ يعود ويسير في شوارع قريته ويتزوج منها ويدعم أهلها وفي الوقت ذاته يعيش براحة في لندن ويحب ناديه ليفربول، على عكس محمد رمضان النجم السينمائي الشهير (30 سنة)، الذي تباهى في صور على حسابه بسياراته الفارهة وكيف أنه اشترى للتو سيارات لامبورغيني ورولز رويس، لا يدري أحد كيف يقودهما وأين، في قلب القاهرة الفقيرة المتعبة.
ويعيد صلاح الاعتبار للبساطة والتواضع ومساعدة الآخرين من دون تبجح ومظاهر إعلامية. تبرع بملايين الجنيهات لبناء مؤسسات خدمية في بلده وظل على تواضعه ومرحه، على عكس لاعبين آخرين أو فنانين أو سياسيين. ليست الحكاية أن صلاح صعد من مستنقع فقر ويأس إلى سحب الثروة والنجاح وما زال “يحنو” على أهله، ولكن القصة أنه قام بتلك الرحلة وظل ينتمي للعالمين
وعلى عكس صلاح الذي ظل مرتبطاً بقريته وبلده لأسباب ليس أقلها سهولة الاتصال والتنقل الآن مقارنة بمئتي عام مضت، لم يعد الطنطاوي إلى مصر ولو مرة واحدة طوال ٢١ عاماً قضاها في روسيا. ولكن مثل صلاح، وعلى عكس الطهطاوي، لم يكن الشيخ الطنطاوي مبعوثًا من الدولة أو الحكومة أو مديناً لها.
وضع الطنطاوي كتاباً عن روسيا سمّاه “تحفة الأذكياء بأخبار بلاد الروسيا” عام 1850، إضافةً إلى كتب أخرى في اللغة والأدب العربي والكثر من الرسائل (منهم رسالة للطهطاوي نفسه). وأبدع ما في كتاب الطنطاوي الجزء الذي يتحدث فيه عن العادات والتقاليد والتنظيم الاجتماعي، لا سيما ملاحظته اللافتة أن سفور النساء في روسيا يخلق نوعاً من “العشرة وحسن الأدب”، فتقل معه الحاجة إلى “التعلق بالغلمان” كما كان الحال في مصر آنذاك، كما يبدو من تلميحاته. ووضع الطنطاوي قصيدة في هذه المسألة منها:
ولو أن النساء تبدو بمصر .. ما سمعا تغزلا في غلام
كل هيفاء كالغزال بوجه .. ساطع نوره بغير لثام”
وأجاد الشيخ في ما يبدو الرقص ولعب الورق، إذ يتحدث مطولاً، وبشغف، عن “الفالس” ورقصات أخرى وألعاب ورق متعددة. وظل الطنطاوي حريصاً على العمل والكتابة، على رغم مرض شديد يبدو أنه شلّ بعض أطرافه وجعل يديه ترتعشان قليلاً، ما جعل الكتابة ممارسة صعبة. ويصف المستشرق الروسي كراتشكوفكسي ما شاهده عندما حمل إليه أحد العاملين في مكتبة الكلية الشرقية في لينينغراد (اسم سان بطرسبرغ في بداية العشرينات من القرن الماضي) كومة من الأوراق اتضح بعد فضحها أنها تخص الشيخ الطنطاوي، وكانت كلها مملوءة بخطوط مثل ما يرسمه أو يكتبه الأطفال. وبعد معاناة اكتشف الباحث أنها كانت مجموعة من الأمثال باللهجة العامية المصرية ونماذج من الأغاني العامية ومواد من البلاغة والنحو. ويبدو أن ارتعاش يدي الشيخ كان السبب وراء رداءة الخط، لأن مخطوطة كتابه الأول ورسائل وأوراق أخرى أقدم في الزمن، كانت واضحة ومكتوبة بخط جيد للغاية.
عندما كان الطنطاوي في شرخ شبابه كان مشروع محمد علي يوشك على نهايته ولكنه دشن دخول مصر من دون رجعة عصراً في خضم عمليات بناء الدولة الحديثة في ظل استعمار صار يهيمن على العالم، وما لبث أن سيطر على مصر بعد وفاة الطنطاوي بعشرين عاماً. وقبل أن يصبح صلاح في العشرين من عمره وقعت ثورة 2011 في مصر لتنذر بأن عصر دولة الاستقلال أو ما بعد الاستعمار في مصر، دخل مراحله النهائية، وأننا ربما نشهد آخر محاولة لبقاء نخبة من أجهزة الأمن والبيروقراطية تسيطر على مقاليد السلطة التي أمسكت بها منذ انقلاب 1952.
المبشر بالأمل أن صلاح والطنطاوي تمكّنا من النجاح في خضم مراحل متقلبة للغاية. نجاح تتفاوت مقاييسه للغاية، ولكنه نجاح في تحقيق فردية وكرامة وإتقان مهنة وأن يصبح الواحد نموذجاً يحتذى، نموذجاً في القدرة على تجاوز عقبات صعبة وإثبات قدرة الإنسان الفائقة على التواؤم والتجاوز، من دون ارتكان على هوية مفتعلة أو جينات كاذبة أو ثروة موروثة أو قوة غاشمة. وفي ظل عالم طاحن يتبدل بسرعة مذهلة ويشحب فيه الأمل بوقوع تغيرات كبيرة على صعيد المجتمعات والدول، صار النجاح الفردي الكريم هو الأمل الوحيد المتبقي عند قطاعات واسعة من البشر.
ربما يجب أن يزور صلاح مقابر فولكوفو، فهي لا تبعد سوى أقل من ساعة عن ستاد سان بطرسبرغ، بعد مباراة مصر وروسيا ويقرأ الفاتحة لروح الشيخ الطنطاوي أمام شاهد قبره القائم هناك.