أوضاع فيسبوكية: مائة قتيل في صفوف المتظاهرين السلميين المطالبين بحكومة نظيفة وكفؤة ونهاية للقمع الامني والفشل الاقتصادي في السودان. هي هدية المؤسسة العسكرية السودانية لشعب السودان في نهاية رمضان والعيد … ومئات الالاف وربما مليون شخص كانت هديتها لهذا الشعب على مدى عقود ومنذ الاستقلال في حروب دموية شنتها في جنوب البلاد (حتى انفصل في عام ٢٠١١) وفي دارفور حتى دمرت الاقليم الشاسع الفقير بيئيا تماما وقتلت اكثر من ٣٠٠ الف من افراده بين اعوام ٢٠٠٣ و ٢٠٠٥. فشلت المؤسسة في كل حروبها حتى بدأت في تفويض ميليشيات شعبية ليس لديها حتى الدرجة المهزوزة من الانضباط التي قد تكون باقية في بعض جوانب الجيش السوداني الرسمي.
وهكذا صارت النخبة الحاكمة بما فيها من مدنيين ورجال اعمال وكبار موظفين من موقعها في الخرطوم معتادة منذ السبعينيات على تجنيد ميليشيات من قبائل الرعاة في كردفان ودارفور (الرزيقات والمسيرية والمحاميد) واستخدامها في اعمال وحشية دموية ضد خصومهم من ميليشيات الجنوب المسلحة او قبائل جبال النوبة او دارفور المعادية لها.
وكانت قوة الدعم السريع هي اخر تجليات هذه الميليشيات منذ اكثر من عشر سنوات وحلت محل ما يعرف باسم الجنجاويد وصارت اكثر تنظيما (ملابس عسكرية ورواتب منتظمة وتسلسل قيادي) ولكنها مستقلة عن الجيش ورئيسها الحالي هو محمد حمدان دقلو المشهور باسم حميدتي وعمره ٤٤ عاما وينتمي لقبيلة الرزيقات وجرى تعيينه نائبا لرئيس المجلس العسكري الحاكم في الخرطوم بعد ان قلب الجيش وقوة الدعم السريع مشتركين الرئيس البشير تحت ضغط شعبي عارم استمر اسابيع في قلب العاصمة.
وفي اليومين الماضيين وللمرة الاولى في تاريخها ربما ذاقت الخرطوم من مرارة النار التي اشعلتها عمدا وبضراوة في جنوب وغرب البلاد. بل وكان القتلة المسلحين بمدافع رشاشة وكرابيج وعصي هم من تلك الميليشيات/القبائل/التركيبات الاجتماعية التي طالما اطلقتها نخبة الخرطوم الحاكمة على جنوب وغرب البلاد. لم يعد الوضع الطبقي والقبلي بعاصم من دموية وعنف الميليشيات ويعرف هذا بالتأكيد اغنياء ومتنفذين اجتماعيا ومهنيا كانوا يتفذلكون في محادثاتنا في الخرطوم حول تعقيدات الوضع في دارفور والمؤامرة على السودان او على الاسلام والحاجة لضبط الحدود الخ الخ. يعرفون الان ما اعنيه وهم عاجزين عن التحكم وخائفين مما يمكن ان تفعله تلك الميليشيات (ربما الان يتحدثون عن مؤامرة اخرى قادمة من الخليج والشمال!!). (عندما اقول النخبة هنا اعني تحديدا النخبة الحاكمة والمسيطرة والتى هي كلها تقريبا حتى وقت قريب من القبائ النيلية واهل الخرطوم وشماله والطبقات الاجتماعية/المالية العليا الخ)
تحصد نخب السودان المتنفذة بهذا المعنى مرارة فشلها الذريع. فشل شارك في صنعه وغرس بذوره الصادق المهدي في الستينيات والثمانينيات والاتحاديون في الثمانينيات وبعدها والاسلاميون من عينة الاخوان المسلمين والترابي في السبعينيات وحتى اوائل الالفينيات والعسكريون طوال الوقت والاجهزة الامنية والمخابراتية خاصة منذ نهاية التسعينيات. وربما يكمن الحل في نفس هذه النخب وخاصة في الاجيال الاصغر وكان منهم الكثيرون في قلب الاعتصام في شوارع الخرطوم في الاسابيع الماضية. الرحمة لارواح القتلى برصاص وعصي ميليشيات قوة الدعم السريع/الجنجاويد/الجيش/النخبة الحاكمة والرحمة لجثث طفت على مياه النيل في الخرطوم ولمختفين يبحث اهاليهم عنهم. والثورة ما زالت مستمرة لاسباب عديدة وستكون علامة فارقة في تاريخ السودان، وقد اصبحت هكذا فعلا.