المدونة

Screenshot 2025-02-07 at 8.05.11 PM

نُشر في درج في ٧ سبتمبر ٢٠٢٤

تتواصل جهود منظمات دولية ومحلية لتطعيم الأطفال في قطاع غزة المنكوب الذي قتل الجيش الإسرائيلي نحو اثنين في المئة من سكانه، هذه الجهود لا شك مدفوعة جزئياً بأسباب أخلاقية، ولكنها أيضاً نابعة من قلق العالم – بخاصة الدول القريبة – من توطّن الفيروس في القطاع.

فكرت جيداً وحددت كلماتي بدقة قبل أن أطلب من المدير التنفيذي لليونيسيف أن يتّصل بمن يعرفهم في المخابرات الأميركية ويطلب أن يعتذروا علناً عما فعلوه ويعدوا بعدم تكراره، قال بلهجة جافة وملامح جامدة أنه يقدر عواطفي وغضبي، ولم يَعِد بشيء.

 أخذت نفساً عميقاً وسألته مباشرة بصوت حاولت أن يكون هادئاً: ستحدث أصدقاءك والناس الذين تعرفهم أذاً؟ (عمدت الى استخدام هذه الألفاظ لأن الرجل كان مستشار الأمن القومي السابق ومرشحاً ليصبح رئيساً لوكالة المخابرات المركزية CIA قبل أن ينسحب من هذا السباق ويُعين ترضية رئيساً لصندوق الأمم المتحدة للطفولة). صمت الرجل ممتعضاً، ثم غيّر الموضوع. لم يتحدث لأحد في الغالب بعدها، ولم تصدر المنظمة بياناً واضحاً تنتقد فيه تصرفات عملاء المخابرات الأميركيين.  

كان هذا صيف 2011 وكنت أعمل مديراً عاماً للإعلام والاتصال في اليونيسيف في نيويورك، وفي ذلك الأسبوع توالت التقارير عن انهيار حملات التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال في باكستان التي كانت، وما زالت، أحد آخر معاقل المرض اللعين. 

تداعت حملات التطعيم بعدما استغلت المخابرات الأميركية طبيباً باكستانياً ادعى أنه يعمل مع حملات التطعيم لدخول بيت كان يُشتبه بأنه مقر اختفاء زعيم القاعدة أسامة بن لادن وعائلته. 

نجح الطبيب وتمكّن الأميركان من قتل غريمهم العنيد بعد عشر سنوات من إعلان مسؤوليته هو ومنظمته عن تفجير برجي مركز التجارة العالمي، ولكن هذا الانتقام فجّر أيضاً حملات التطعيم التي كانت تتغلب ببطء على شكوك ومخاوف محلية بعضها ثقافي أو ديني.

أوصيت بأن تنشر المنظمة بياناً يندّد بما حصل وتوضح الآثار المدمرة لهذه العملية على حملة كانت تكلف، وما زالت، حول المليار دولار سنوياً في العالم، وعلى مصير عدد هائل من الأطفال المعرّضين للإصابة سنوياً بهذا الفيروس. 

طلبت من المدير أن يتصل بالإدارة الأميركية ويطلب منها بشكل واضح ومشدّد عدم تكرار مثل هذه الأفعال في أي بلد آخر، وعدم تخفّي أي من عملائها تحت ستار العمل في حملات تطعيم أو في منظمات إنسانية.

مر عامان قبل أن تتعهد الإدارة الأميركية بعدم غرس عملائها بين موظفي المنظمات الإنسانية أو عمال الإغاثة وحملات التطعيم، غير أن الضرر الفادح كان قد وقع، وما زالت باكستان وأفغانستان الدولتين الأخيرتين في العالم اللتين تعانيان من بقاء فيروس شلل الأطفال متوطناً فيهما.

يعتقد خبراء في هذا المجال أن التراجع الأميركي جاء نتيجة سببين رئيسيين هما، أولاً، خطر هذا الفيروس على كل أطفال العالم (بخاصة من هم دون سن الخامسة)، إذ لا يمكن حصاره في بلد من دون الآخر لفترة طويلة مع سهولة السفر والانتقال، وبالتالي اضطرار كل دول العالم سنوياً لإنفاق مليارات الدولارات على تطعيم كل أطفال العالم. وثانياً، تصل نفقات حملات التطعيم، بخاصة في بلدان الجنوب والمناطق الأفقر في العالم، الى نحو مليار دولار سنوياً. وبالتالي، فإن القضاء على الفيروس هو مصلحة لكل دولة في العالم، إضافة الى الاعتبارات الأخلاقية والاقتصادية.

وعلى رغم هذا، ولأسباب عدة منها، شكّك أهالي الأطفال في مناطق توطّن الفيروس في حملات التطعيم وكذلك انتشار معلومات خاطئة أو مزيفة حول الطعوم – أو ارتباطها بمخططات غربية للتجسّس مثلما أثبت قتل بن لادن – ما زال هناك مئات الأطفال سنوياً يُصابون بشلل في الأطراف بسبب الفيروس. وما زال الأطفال على رغم مرور كل هذه الأعوام، ضحايا لعمليات عسكرية متنوعة من جانب دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل تحت مظلة ما يُسمى “حرب وقائية”. تصدر تصريحات الأسف أحياناً لوقوع الضحايا وإن كانوا يطلقون عليهم مصطلح “الخسائر العرضية” بدعوى أنهم قُتلوا أو جُرحوا “من دون قصد”، بينما كان هدف العمليات العسكرية قتل “إرهابيين”.

شلل الأطفال في غزّة

الخلفية السابقة لازمة لفهم حملة التطعيم الحاصلة منذ مطلع الشهر الحالي في قطاع غزة، الذي تحتلّه إسرائيل فعلياً وتقصفه يومياً. تتواصل جهود منظمات دولية ومحلية لتطعيم الأطفال في القطاع المنكوب الذي قُتل نحو اثنين في المئة من سكانه على الأقل بقنابل ونيران الجيش الإسرائيلي منذ بداية حملة تل أبيب الانتقامية منذ نحو العام. 

هذه الجهود لا شك مدفوعة جزئياً بأسباب أخلاقية، ولكنها أيضاً نابعة من قلق العالم – بخاصة الدول القريبة – من توطن الفيروس في القطاع، بخاصة بعد إعلان أول حالة إصابة هناك هذا العام لرضيع عمره عشرة أشهر – وهو الحالة الأولى من نوعها منذ 25 عاماً. 

صار هذا الطفل محكوماً بأن يمضي بقية عمره برجل مشلولة، وبات الأمل أن يظل على قيد الحياة من دون أن ينضم لأكثر من 15 ألف طفل على الأقل قتلتهم النيران الإسرائيلية التي سلمت مئات الألاف من الأطفال الباقين كضحايا محتملين لأمراض نفسية وعضوية وأهداف سهلة للبكتيريا والفيروسات. 

لخصت أم غزاوية متطوعة في الحملة هذا الموقف التراجيدي قائلة لإذاعة بي بي سي، إنهن يسعين الى تطعيم الأطفال على رغم علمهن بأن أياً منهم يمكن أن يموت بنيران إسرائيل وقنابلها وصواريخها في أي لحظة.

وفي مقدمة أسباب العودة اللعينة لهذا الفيروس الى غزة، تردي الخدمات والمؤسسات الصحية وتلوث مياه الشرب مع تهالك شبكاتها ومحطاتها وتدمير نظم الصرف، وهذا كله بسبب الحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة التي دمرت معظم البنية التحتية والصحية، وجوّعت الفلسطينيين بسبب حصار صارم وتخفيض حاد لما يصل لهم من غذاء ودواء، ما جعلهم فريسة أسهل للأمراض.

ربما لو لم يكن الفيروس ينتقل عبر الحدود لما شهدنا هذا الاهتمام كله بحملة التطعيم الجارية في غزة، وربما لو كانت الولايات المتحدة (وإسرائيل) تهتم بحياة المدنيين والأبرياء خارج حدودها أو بين غير مواطنيها، ولا تسمي القتلى منهم في حروبها “الوقائية” أو الانتقامية خسائر عرضية، لما شهدنا هذه المآسي تتكرر منذ التسعينات. 

من المهم أن نقوم بالتحليل والنقد والكشف لتعرية كل هذه الالتباسات في المعايير والدوافع المحيطة بقضية شلل الأطفال وتوثيق ما يجري. وفي الوقت نفسه، يتعين السعي وبقوة الى ضمان استمرار حملات التطعيم في غزة لتغطي مئات آلاف الأطفال بكل الجرعات المطلوبة. 

ويمكن العمل على المسارين في الوقت نفسه: مسار يوثق تلك المسؤولية التاريخية الجسيمة لدول وحكومات عن بقاء الفيروس ينهش في أجساد أطفال البشر، بخاصة لو كان معظم هؤلاء البشر من “الآخرين”، أي دول الجنوب أو الفقراء أو الفائضين عن الحاجة.

ومسار آخر يعمل بقوة مستغلاً كل الحجج بما فيها مصلحة هذه الدول والحكومات نفسها ومواطنيها ذوي الحماية الأفضل لضمان القضاء المبرم على هذا الفيروس، مرة واحدة وللأبد. 

وبعدما ننجح في هذا يمكن ساعتها أن نركز جميعاً على استغلال ما تم توثيقه لفضح المتورطين وجبر الضرر والمطالبة بالتعويضات وضمان ألا يتكرر هذا الظلم الفادح، أو هكذا نأمل.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام ووسائل التواصل