نُشر في موقع درج يوم ٢٧ اكتوبر ٢٠١٩
تردد هزيم رعد وفرقعات في سماء العلاقات الديبلوماسية بين أديس ابابا والقاهرة في منتصف تشرين أول/ أكتوبر. وتبارت وسائل إعلام مصرية وخصوم سياسيون إثيوبيون معادون لرئيس وزراء صاروخي الصعود في تصوير العاصفة المارة بسرعة على أنها طبول حرب، وليست مجرد ألعاب نارية معتادة تسبق الجلوس الى مائدة تفاوض. وبعدها بساعات في منتجع سوتشي على البحر الأسود التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في اجتماع شجع عليه مضيفهما الرئيس فلاديمير بوتين. وبعد 45 دقيقة اتفقا على استئناف محادثات لجنة فنية مشتركة وصلت إلى طريق مسدود منذ أسابيع، بعدما اختلف الطرفان ثانية حول سرعة وطريقة ملء خزان سد النهضة العملاق على النيل الأزرق في إثيوبيا.
قد تصل تلك اللجنة إلى حل وسط، وبخاصة مع بعض الضغط الروسي والمباركة الأميركية، إذ أعلنت مصر أن واشنطن عرضت استضافة اجتماع ثلاثي لوزير خارجيتها مع نظيريه الإثيوبي والسوداني قريباً. ولكن سد النهضة لن يتوقف على الأرجح إلا إذا انهار النظام الإثيوبي الحاكم، بينما لن تفلت مصر في الأغلب من جفاف محدق بها، إلا إذا وجدت مصادر مائية أخرى واستعمالات أكثر كفاءة لمواردها المائية وهو أمر سيكلف مليارات الدولارات، ويتطلب وضع سياسات واضحة ومقبولة.
احتياجات متضاربة
تفكر إثيوبيا منذ عقود في بناء سدود على أنهارها لتوليد الطاقة ولكنها لم تضع تصميمات نهائية، ولم توفر التمويل الضخم الضروري حتى عام 2010، ثم أعلنت عن بناء السد رسمياً في مارس 2011، بعد شهر واحد من سقوط حسني مبارك الذي أمضى 30 عاماً في السلطة في القاهرة. وكان من المقرر أن يبدأ السد توليد الكهرباء في 2017، ولكن مشكلات هندسية وتمويلية واتهامات فساد ومعدات معطوبة رفعت تكلفة المشروع الضخم إلى نحو 5 مليارات دولار، وتأجل موعد تشغيله حتى عام 2022.
الخلاف الرئيسي بين مصر وإثيوبيا يتعلق بالمدة اللازمة لملء خزان عملاق خلف السد سعته 74 مليار متر مكعب، ستتدفق منه المياه عبر 16 مولداً ضخماً في جسم السد لتوليد 6 آلاف ميغاوات. وتريد إثيوبيا أن تحتجز مياه النيل الأزرق بصورة يمكن معها ملء الخزان في فترة ثلاث سنوات، ما سيؤثر في تدفق المياه إلى مصر التي ترغب في أن تطول هذه المدة إلى 7 سنوات. وتريد مصر ألا يقل ما يصل إليها سنوياً عن 40 مليار متر مكعب من المياه بينما يعرض الإثيوبيون حصة لا تزيد عن 31 مليار متر مكعب.
وتقدم المنابع الإثيوبية 85 في المئة من مياه نهر النيل الذي يوفر أكثر من 95 في المئة من احتياجات مصر السنوية من الماء، من أجل زراعة نحو 10 ملايين فدان بشكل أساسي ثم من أجل الأغراض الصناعية والشرب.
وفيما تفكر مصر في المياه، تبحث إثيوبيا في الطاقة الضرورية لاستمرار نموها الاقتصادي المتسارع، بل والحصول على عائدات ضخمة من تصدير الكهرباء إلى دول مجاورة، منها السودان ورواندا وبوروندي وجنوب السودان وأوغندا واليمن.
قانون مختلف عليه
يختلف البلدان على الإطار القانوني الذي يحكم هذه المسألة، فعام 1959، وقعت مصر والسودان اتفاقاً تحصل مصر بمقتضاه على 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، بينما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب، ولكن إثيوبيا ليست طرفاً في هذا الاتفاق. وسبق هذا اتفاقية 1929، بين بريطانيا والحكومة المصرية التي حصلت على حق الاعتراض على أي مشاريع على نهر النيل تؤثر في حصتها من المياه. إثيوبيا لم تكن طرفاً في هذا الاتفاق أيضا. وعام 1902، وقعت بريطانيا اتفاقاً مع اثيوبيا يمنع الأخيرة من بناء أي منشآت على النيل الأزرق يحتجز المياه المتدفقة نحو السودان من دون موافقة بريطانيا! لم تكن مصر نفسها طرفاً في هذا الاتفاق.
الخلاف الرئيسي بين مصر وإثيوبيا يتعلق بالمدة اللازمة لملء خزان عملاق خلف السد سعته 74 مليار متر مكعب، ستتدفق منه المياه عبر 16 مولداً ضخماً في جسم السد لتوليد 6 آلاف ميغاوات.
القانون الدولي لا يقف بوضوح في جانب أي من البلدين. فالفقهاء القانونيون والمحامون مختلفون حول كل تلك المعاهدات والزاميتها للحكومات القائمة الآن، كما لم توقع مصر أو إثيوبيا معاهدة الاستخدامات غير الملاحية للأنهار الدولية.
تعداد سكان كل من إثيوبيا ومصر 100 مليون نسمة، وهما في مرحلة انتقال صعبة اقتصادياً وسياسياً وهشة، ولو فازت أي منهما بكل ما تريد في الصراع على المياه، ستخسر الأخرى الكثير. سينهار الاقتصاد الإثيوبي أو يتضرر بشدة إذا تعطل بناء السد الذي شيدت 70 في المئة منه بالفعل، بينما ستواجه مصر التي تضاعف عدد سكانها خمس مرات منذ آخر اتفاق عقدته حول تقاسم مياه النيل، جفافاً غير مسبوق في تاريخها يهدد قطاعها الزراعي، إذا لم تضع خططاً بديلة باهظة التكاليف أو سياسات تقشف مائي حقيقية.
تهديد بحرب لن يشنها أحد
وصلت الخلافات بين أديس أبابا والقاهرة إلى نقطة حرجة في منتصف أيلول/ سبتمبر وانفض اجتماع ثلاثي لوزراء الري، أعلنت بعده إثيوبيا رفضها شروطاً ادعت أنها جديدة من الجانب المصري، تتعلق بضمان حد أدنى من التدفق المائي، وألا يقل مستوى الماء في خزان اسوان عن 165 متراً.
وبدأت حملات إعلامية ضد إثيوبيا وسد النهضة في الصحف المصرية التي تسيطر عليها الحكومة ومؤيدون لها، وتوالت دعوات وأفكار علنية تدعو إلى العمل العسكري لتدمير منشآت السد.
وفي الوقت نفسه، كان آبي أحمد يتعرض لضغوط وأزمات داخلية. وقبل وصوله إلى موسكو بيوم استجوبه أعضاء في البرلمان بشأن هذه الحملات الإعلامية فقال: “لا توجد قوة يمكن أن تمنع إثيوبيا من بناء السد… لو كانت هناك حاجة إلى الحرب يمكننا تجهيز الملايين (من المحاربين) ولو أطلق البعض صاروخاً يمكن الرد عليه بالقنابل، ولكن هذا ليس في مصلحتنا جميعاً”.
يواجه آبي أحمد وهو من أب أورومي مسلم وأم أمهرية مسيحية تحديات سياسية قوية هذا العام، منها مشاحنات متصاعدة بين عرقي الاورومو والصوماليين الإثيوبيين في جنوب البلاد وبين التيجرانيين (الاقلية المتسيدة منذ إعلان الجمهورية)، والامهرة المتسيدين في العهد الامبراطوري ورغبة بعض فئاتهم في الانفصال. وعانت إثيوبيا أيضاً من اغتيالات سياسية بعضها طاولت حلفاء مقربين من رئيس الوزراء وتعثر عملية السلام مع اريتريا. ولذا تصرف الرجل الحائز لتوه جائرة نوبل للسلام مثل أي سياسي وأصدر تصريحات عنيفة حتى لو ذيّلها بنيات السلام.
مثل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما كسب آبي أحمد جائزة نوبل في أول عهده بالحكم لأنه مثل قطيعة مع سنوات طويلة من الاضطراب والقلق والفشل السياسي، ولكن أمام خصومه السياسيين في داخل البلاد لم يثبت أحمد نجاحه بعد، وبخاصة في وجه التحديات الاقتصادية والأمنية الهائلة.
هل توجه مصر ضربة عسكرية؟
لا يوجد مسوغ في القانون الدولي ولا دعم سياسي لمصر لشن ضربة عسكرية علنية ضد إثيوبيا بغض النظر عن قدرتها على القيام بهذا تقنياً ضد سد خراساني شبه المكتمل بارتفاع نحو 155 متراً وعرض نحو 1750 متراً. أي عمل عسكري كهذا ستكون له آثار سياسية واقتصادية وبيئية مروعة على البلدين. ولم تهدد القاهرة علناً بضرب إثيوبيا عسكرياً في العقود القليلة الماضية. وبعد محادثات سوتشي قال الرئيس السيسي إن نهر النيل يجب أن يكون شريان تعاون لا مصدر صراع.
ويعود التهديد الوحيد المعروف لتوجيه ضربة عسكرية لإثيوبيا إلى تسريب مزعوم من ويكيليكس في 2009، نقل عن الرئيس السابق مبارك حديثه مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير حول رغبته في النظر في بناء قاعدة عسكرية في مدينة كوستي السودانية من أجل ضرب إثيوبيا إذا أقامت منشآت تهدد نصيب مصر في مياه النيل.
ولكن مصر لم تأخذ مشاريع السد بجدية. ففي العام ذاته، استبعد رئيس المخابرات المصرية آنذاك عمرو سليمان في حوار مع الكاتب الصحافي عبد العظيم حماد الحاجة إلى عمل عسكري، بل واستبعد بناء السد نفسه. ووفقاً لحماد “استبعد سليمان إمكان بناء سد إثيوبي كبير على النيل الأزرق، لعدم توافر القدرات الفنية والاقتصادية لديهم، وضرب لنا مثلاً على ذلك بأن فيضان العام الماضي كان عالياً. وأدت كميات الطمي الهائلة المصاحبة لها إلى إغلاق مخرج إحدى البحيرات التي تصرف في النيل الأزرق، ما أدى إلى تهديد جزر البحيرة بالغرق. وكانت لإحدى هذه الجزر أهمية دينية استثنائية، إذ بنيت عليها أول كنيسة في التاريخ الإثيوبي. وعندما لم يستطع الإثيوبيون لا فنياً ولا اقتصادياً حل المشكلة، استغاثوا بنا (نحن المصريين) فأرسلنا المعدات وطهرنا المخرج، وجاءت المياه إلى النيل”. وأضاف سليمان ضاحكاً، “تكلفنا 12 مليون دولار لإنقاذ كنيستهم فكيف نصدق أن هؤلاء سيبنون سداً كبيراً على النيل الأزرق؟”.