هل البشر سواسية؟ طبعاً، طبعاً، سيكون الرد السريع. كلنا بشر، أولاد حواء وآدم. هذا كلام “ساكت” كما يقول الناس في السودان، أي كلام فارغ كما يقول الناس في مصر، أي هراء. وتعكس أمثال شعبية اعترافًا بل وتشجيعًا مجتمعيا للاختلافات بين البشر، من قبيل “أصابع ايديك مش زي بعضها” و”الناس مقامات” و”العين لا تعلو عن الحاجب”، إلى آخر قائمة طويلة في منطقتنا الحزينة وبقية العالم. ستجد أمثالاً في الناحية الأخرى تشجع على المساواة ولكن من باب التفضل والتفكه، مثل “كلنا ولاد تسعة” و”خادم القوم سيدهم”، إلخ.
البشر ليسوا سواسية والمساواة ليست قانوناً طبيعياً، ولا حتمية تاريخية، والمساواة (على الأقل قانونياً) هي دائماً مسعى ونضال وحلم يأتي عادة من الفئات والطبقات المستضعفة،
بعد أسابيع في السودان في عام 2008، بدأت أنتبه إلى عملية ترتيب للبشر على أساس اللون، ولكن ليس مجرد أسود وأبيض. وفي يوم امتلكت شجاعتي وتغلبت على كوابح الصوابية السياسية وطلبت من صديق أن نسير في شوارع محيطة بجامعة الخرطوم وأن يشرح لي تلك الخريطة اللونية وهكذا جالسين عند ست الشاي (امرأة تبيع الشاي في الشارع وتجلس هي وزبائنها على كراسٍ بسيطة صغيرة وواطئة متناثرة حول طاولة صغيرة عليها معدات صنع الشاي ومشروبات أخرى ساخنة)، بدأ يشير إلى المشاة واحداً وراء الآخر: هذا “أزرق”، هذا “أحمر” وذلك “أخضر”، ويمكن أن تصفه أيضاً بأنه “أسمر”، اما هذه المرأة فهي “حلبة”، أي فاتحة البشرة. والأزرق عادة هو صاحب البشرة الأدكن والملامح الزنجية ثم تتدرج التقسيمات مع البشرة الأفتح فالأفتح مروراً بالأخضر ثم الأحمر وصولاً للحلبة. ولا يعني هذا بالضرورة أن صاحب البشرة الأفتح في أعلى المراكز، فهناك تقاطعات أخرى مثلاً، إذ يمكن أن تكون “غرباوي” (أي من غرب البلاد) وطبعاً لقبيلتك نصيب في تحديد وضعك الاجتماعي، والمال يمكنه أن يعبر بك كثيراً من هذه التقسيمات ويجعلك فوقها نسبياً، ولكن إلى حد معين.
القانون السوداني نظرياً أمام المحاكم لا يلقي بالاً إلى هذه الفوارق لكن اجتماعياً لا شك تعني هذه التقسيمات الكثير في المعاملات المختلفة بين البشر، وبخاصة لو قررت الدولة أن تعاقب فئة بكاملها أو تنحاز لفئة أخرى كما فعل الرئيس المخلوع البشير وبطانته في دارفور حيث قُتل مئات الآلاف من دون حساب، وقبلها في الصراع الدموي مع الجنوب والمتقطع مع قبائل شرق البلاد ووسطها، الخ.
يسعى الناس وبخاصة المنتمون إلى الفئات الأضعف جاهدين من أجل المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون وأمام الدولة وأمام كل هذه الكيانات الحديثة، لكن معظم الثقافات والديانات والأسواق ما زالت تفرق بين الناس على أسس عدة بعضها بيولوجي ومعظمها اجتماعي، ما يميز بينهم وبين استحقاقاتهم في معظم نواحي الحياة المشتركة.
يسعى الناس وبخاصة المنتمون إلى الفئات الأضعف جاهدين من أجل المساواة في الحقوق والواجبات أمام القانون وأمام الدولة وأمام كل هذه الكيانات الحديثة، لكن معظم الثقافات والديانات والأسواق ما زالت تفرق بين الناس
في كل الثقافات والمجتمعات في العالم لا مساواة مطلقة بين الناس وأهم الفوارق التي لها تبعات اجتماعية واقتصادية هي طبعاً النوع الاجتماعي (ذكر، أنثى، الخ) والعرق والمستوى الطبقي. تاريخ البشر من وجهة نظر ما، هو مسعى مستمر لمحو هذه الفوارق أو تقليلها وعلى الأقل خلق مساواة للجميع أمام القانون. في البداية كانت المساواة فقط داخل كل فئة، فمثلاً في شرائع حمورابي منذ نحو أربعة آلاف عام كان عقاب قتل الحر غير عقاب قتل العبد والمرأة غير الرجل وهكذا. وتاريخ البشر يحكي في جانب منه ازدياد المساواة بين البشر على الصعيد القانوني وإن كانت المسيرة أبطأ وأكثر تعقيداً على صعيد الممارسات الاجتماعية.
وفي مذكراته يحكي نوبار باشا، رئيس وزراء مصر في القرن التاسع عشر، أنه في عام 1844، قتل مسلم مسيحياً في الإسكندرية فصدر الأمر بإعدامه ونصبت مشنقة في وسط المدينة، “فسارت جموع غفيرة من الناس خلف المحكوم عليه بالإعدام في أثناء اقتياده لتنفيذ الحكم وهي تشعر بالمهانة وتردد همساً: “كيف يُشنق مسلم لأنه قتل كافراً؟!” “ألم يعلمنا أساتذتنا في القانون أن حياة مسلم تساوي حياة عشرة من الكفرة؟! إذا تم شنق هذا الرجل فعلينا أن نقتل تسعة آخرين من هؤلاء المسيحين الكلاب”. ولكن بمجرد أن أعلن طاهر بك رئيس البوليس (وهو أعرج) ببساطة ان الوالي محمد علي أمر بأن يُشنق إلى جوار القاتل أي شخص تسول له نفسه إبداء أقل ملاحظة، انصرفت الجموع فجأة واختفت. بعدها بسبعين عاماً، دافع السياسي البريطاني ونستون تشيرشل في مذكرة سرية عن موقفه الداعي إلى استخدام الغازات السامة في الحرب ضد “القبائل غير المتحضرة” في الهند. وبعده بعشرين عاماً، قتل هتلر ملايين اليهود ومئات آلاف الشيوعيين والرحّل (الغجر) وأصحاب الإعاقات الجسدية والمثليين في أفرانه “لأنهم ليسوا بشراً.
وحتى عندما سادت دول سيادة القانون الحديثة وانتهى عصر الاستعمار وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، ينتهي الأمر كثيراً بما لخصه الروائي جورج اورويل في روايته “مزرعة الحيوانات” الناقد لشيوعية ستالين، عندما كتب “جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها”، بمعنى أن هناك حيوانات تحصل، ويحق لها أن تحصل على معاملة أفضل من الآخرين. وفي الولايات المتحدة يتندر أساتذة القانون أحياناً حول أن بلادهم مهووسة بالقانون وفيها أفضل عدالة “يمكن أن يشتريها المال”، فالمحامي الجيد باهظ التكاليف عامل مهم لكي تحصل على نتيجة أفضل أو جزاء أقل في أروقة مؤسسات القانون.
ولكن لماذا تذكرت كل هذا في عصر “كورونا” التي لا يفرق فايروسها كوفيد-19 بين الغني والفقير، والوزير والشحاذ، والأزرق والأخضر، ذلك لأن الخطر الداهم (الحقيقي أو المُبالغ فيه) يدفع بعض الناس للتخلي ببجاحة عن الصوابية السياسية، وليقولوا علناً ما اعتادوا ربما ان يقولوه سراً. خذ مثلاً الممثلة السعودية مرام عبد العزيز التي اقترحت استغلال المساجين في المملكة كحقل تجارب للقاح “كوروناً، بدلاً من تعريض الفئران والقرود التي لم تؤذِ البشر للخطر! افترضت السيدة مرام التي أصرت على موقفها على رغم انتقادات سعودية وعربية أن مملكة النفط لديها باحثون يعملون ليل نهار على اختراع هكذا لقاح، أو ربما كانت تفكر في عرض أجساد المساجين على شركات الدواء الغربية، أو أنها لا تفكر أصلاً وتفصح فقط عن لا مبالاتها بحياة المساجين الذين هم أقل منزلة في حسبانها من البشر. وقبل مرام، دعت “سيدة الشاشة الخليجية” الممثلة الكويتية حياة الفهد إلى التخلص من الأجانب الوافدين من طريق إلقائهم في الصحراء إذا رفضت بلادهم عودتهم (لاحقاً قالت الفهد إنها لم تقصد ما قالت وكانت منفعلة).
البشر ليسوا سواسية والمساواة ليست قانوناً طبيعياً، ولا حتمية تاريخية، والمساواة (على الأقل قانونياً) هي دائماً مسعى ونضال وحلم يأتي عادة من الفئات والطبقات المستضعفة، ويتجذر شيئاً فشيئاً في النظم والمؤسسات ثم يصل إلى الوعي الاجتماعي والخطاب أو ما نسميه الصوابية السياسية. وفي فترات الأزمات الكبرى مثلما يحدث الآن في العالم تتضح معالم هذا الصراع أكثر ويعبر الناس من الفئات المهيمنة بصوت أعلى عن مواقفهم الدفينة المستمدة من تاريخ طويل من التفرقة والتقسيم والهيمنة وبخاصة عندما لا ينظرون أبعد من أصابع أيديهم ويرون أنها ما زالت مختلفة الطول!
نشوة الأزهري
صدقت للأسف الشديد…