نُشر في موقع درج يوم ٥ ابريل ٢٠٢١
تعلمت من خبرتي المباشرة في دارفور وجنوب السودان وفي الصومال وأفغانستان وبين لبنان والعراق منذ انقلب العالم في 11 سبتمبر 2001، أن بين أشد طبول الحرب ضجيجاً تلك التي يقرعها العائشون على مسافة بعيدة من ميادين القتال أو في المنفى او في غرف التخطيط العسكرية المكيفة أمام الشاشات المعقمة، وأن بين أكثر الناس حرصاً على جعل القتال آخر الخيارات هم من قاتلوا فعلاً او اكتووا بنار الحرب ومن يعيشون بالقرب من ميادينها او تمسّهم آثارها المباشرة. معظم الحروب التي نعيشها في هذه المنطقة تقدّم أمثلة جيدة على هذا الفارق المهم بين من يدقون طبول الحرب بشغف وبين من يسعون لحلول تجعل الحرب اخر الممكنات، أو مجرد وسيلة لحلحلة وضع سياسي متجمد.
للأسف صار من يرون الحرب أسلوب حياة، او طريقة لبناء الأمة، أو الحفاظ على نظام بترتيباته الاقتصادية والسياسية المهددة بوعي او دون وعي، هم من يديرون معظم الحروب في المنطقة. وهكذا لا تصبح الحرب في اليمن وسوريا وليبيا استمراراً للسياسة بوسائل عنيفة كما كان فيلسوف الحرب كارل فون كلاوسفيتز يقول، بل جهلاً، ربما متعمداً، بالسياسة ورفضاً للحلول الوسط وخاصة في ضوء العجز الواضح عن القضاء الساحق على الخصم. أعمال العنف الممتدة لسنوات تصير طريقة للحياة وهدفاً وليست وسيلة كما نرى بوضوح في التورط الخليجي (الإيراني منه والاماراتي) في اليمن، وكما نرى بين الفصائل الليبية المتصارعة وداعميهم من دول مختلفة، وكما تظهر لنا ببشاعة مسارح الدم في سوريا.
تظل الأعمال العدائية خيارا يمكن استعماله دبلوماسيا والتلويح به ولكنه ليس قدرا محتوما او طريقا لا مفر منه.
والتلويح بالحرب واستعراض القوة أمر يختلف عن دق الطبول والابتهاج والدعوة للقصف والتعبئة. من هنا يمكن فهم تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وهو رجل عسكري ووزير دفاع سابق يعي جيداً حدود وإمكانيات الحرب، عندما قال في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي ان التفاوض مع إثيوبيا لحلّ الخلاف حول سد النهضة الذي يمكن ان يهدد حصة مصر من مياه النيل هو “خيارنا الذي بدأنا به” في مصر، وحذر من التساهل في الانزلاق لعمل عسكري قائلا إن “العمل العدائي قبيح وله تأثيرات كبيرة جداً تمتد لسنوات طويلة لأن الشعوب” لا تنسى.
وكرجل دولة وسياسي حذر السيسي من تبعات عدم الاتفاق بين القاهرة وأديس أبابا حول هذه المشكلة المشتعلة منذ بدأت اثيوبيا بناء سد النهضة العملاق لتوليد الطاقة الكهربائية في أوائل العقد الماضي، لأن السد وتحديداً ملء البحيرة الواقعة خلفه، يمثل تهديداً لمصر التي تحصل على أكثر من 90٪ من احتياجاتها المائية من نهر النيل.
وقال السيسي أن لا أحد يستطيع أخذ “نقطة مياه من مصر” التي يحق لها ان تحصل على 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وفق اتفاقيات دولية تنازع إثيوبيا نسبياً في مشروعيتها. وحذّر الرئيس المصري من ان تهديد مياه مصر قد يخلق “حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد” ثم لوّح باحتمال الأعمال العسكرية قائلا إنه لا يجب ان يتصور طرف انه “ممكن يكون بعيد عن قدرتنا” وأن رد فعل مصر يمكن أن يؤثر “على استقرار المنطقة بالكامل.”
وهكذا استعمل السيسي لغة متزنة كلاسيكية تلوح بالحرب من جهة كخيار غير مفضل دفاعاً عن المصالح الوطنية الأهم، ولكنها تشدد على أهمية التفاوض من اجل الوصول الى اتفاق قانوني وملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة “بشكل يحقق الكسب للجميع … وكل ما نطلبه أمر لا يخرج عن القوانين والمعايير الدولية المعمول بها.”
وربما جاءت التصريحات الرئاسية لتقوية الجانب المصري في جولة وشيكة من المفاوضات من المقرر أن تنعقد قريباً في كينشاسا عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي ربما الجولة الأخيرة قبل أن تبدأ اثيوبيا العام الثاني من ملء بحيرة السد هذا الصيف في وقت تحتاج فيه الحكومة الاثيوبية لانتصارات سياسية وإعلامية، بعد حرب دموية شنتها ضد معارضيها في شمال البلاد العام الماضي.
بالنسبة لأثيوبيا يمثل السد خياراً مفصلياً من أجل دفع جهود التنمية في البلاد الفقيرة عن طريق مولدات كهرومائية تزيد قدرتها مجتمعة عن ستة ملايين ميغا وات، مما يجعل سد النهضة أكبر سد لتوليد الطاقة المائية في أفريقيا، والعاشر على مستوى العالم. ولتوليد الكهرباء بانتظام يحتاج السد لتخزين ما قد يصل إلى حوالي 74 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة السد، وهو الأمر الذي يسبب قلقاً شديداً ومفهوماً لدى مصر خوفاً مما يمكن ان يحدث في سنوات الملء الأول للسد. او سنوات الجفاف، ولذا تريد ضمانات من اثيوبيا بالا تتأثر حصتها السنوية الحيوية.
استعمل السيسي لغة متزنة كلاسيكية تلوح بالحرب من جهة كخيار غير مفضل دفاعاً عن المصالح الوطنية الأهم، ولكنها تشدد على أهمية التفاوض من اجل الوصول الى اتفاق قانوني وملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة “بشكل يحقق الكسب للجميع.
اعقبت تصريحات الرئيس السيسي المتزنة فورة من التعليقات المفرطة الوطنية على وسائل التواصل الاجتماعي والصحف المصرية الواقعة معظمها تقريباً تحت هيمنة الدولة، خاصة فيما يتعلق بما يُنظر إليه على أنه قضايا أمن قومي. وفي غياب القدرة، بل تجريم، اجراء أي استطلاعات رأي في مصر دون موافقة الحكومة، يصبح من المستحيل قياس مدى اهتمام الشعب المصري الفعلي بقضية سدّ النهضة ومدى تفضيله للعمل العسكري او استعداده لحلول وسط قد تتطلب أيضاً سياسات قومية لترشيد استعمال المياه وخاصة في مجالات الصناعة والزراعة كثيفة الاحتياجات المائية.
دقّ طبول الحرب بهذه الطريقة واللجوء لإعلاء مشاعر الوطنية وما صاحبها من تعليقات تتسم بالتعالي العنصري الفج (والجاهل لوقائع الأمور)، حول اثيوبيا والابتهاج والتحمس للدخول في هكذا مواجهة عسكرية غير واضحة المعالم، يفضح مدى عمق الاحتياج (أو السعي لخلق هذا الاحتياج) وسط فئات معينة من المصريين من أجل استعادة الشعور بالقوة والقدرة على حماية المصالح الوطنية. هذه الطبول التي يدقها الكثيرون تفضح أيضا غياب السياسة ومؤسساتها والإعلام المستقل التي يمكن أن تسمح مجتمعة بحوارات راشدة وجادة حول قرارات مصيرية ستؤثر في نهاية الأمر على ملايين من الناس سلبا وايجابا.
هناك إفراط في الوطنية غير المسؤولة وغير الواعية من جانب دعاة الحرب ومؤيدي الحل العسكري (أو من يشجعونهم)، رغم توازن التصريحات الرسمية! وهذا كله ليس حكما على مدى نجاعة وحسن اداء الحكومة المصرية في هذه الازمة أو مدى تعنت وقصر نظر الحكومة الاثيوبية، فهذا كله امر اخر، بل هو انزعاج من التساهل المفرط الذي يتحدث به البعض عن الحرب والدمار. تظل الأعمال العدائية خيارا يمكن استعماله دبلوماسيا والتلويح به ولكنه ليس قدرا محتوما او طريقا لا مفر منه، وخاصة لو كانت في رأي البعض عاجزة عن ان تضمن لنا قضاء مبرما على الخصم او فتح مجال امام حلول سياسية جديدة، ولنا في الحروب المستعرة في منطقتنا والعالم دروس وعبر.
نشوة الأزهري
وبعد تعثر مباحثات كينشاسا! وحديث السيسي عن قلقه على مشكلة سددالنهضة من أيام ثورة يناير، كما كان قد آعلنه من قبل في واحد من مؤتمرات الجيش “التثقيفية”!!ش!