عن البيض والهري واقتصاد مصر
نُشر في المنصة في أول فبراير ٢٠٢٣
وقف أمام كومة من أطباق البيض البني، والأبيض، والطبيعي، والبلدي، وغيرها من التنويعات المتراصة فوق طاولة عريضة في سوبر ماركت ضخم في ضواحي المدينة العربية التي يقيم بها. التقط صورة أو اثنتين توضحان الأسعار مقررًا أن يشارك في “الترند” المشتعل على السوشيال ميديا في مصر بشأن أسعار البيض.
حسبها على تطبيق الموبايل: ثلاثة دنانير لكرتونة البيض يعني عشر فلسات للبيضة الواحدة، مضروبًا في سعر التحويل يعني البيضة بأكثر من أربع جنيهات مصرية. حان وقت أن يفتح فيسبوك أو انستجرام ويشارك صورة البيض التي التقطها، ثم يكتب التعليق التالي “حرام عليكم مصر، البيضة هنا بأربعة جنيه ولسة عندكم بتلاتة”.
وهكذا كان يمكن له أن ينضم للأستاذ عادل في الرياض، ومستر بيتر في باريس، ومدام سناء في دبي، وغيرهم من المستائين من شكوى أبناء وطنهم في مصر من ارتفاع الأسعار.
هل هؤلاء الناس حقيقيون؟ أم أنهم لجان إلكترونية؟ هل هم مجرد جهلة بأبسط مبادئ نظم الاقتصاد أو الأسعار؟ ربما مزيج من هذا وذاك.
الجاهل، أو المغرض، فقط هو من يقارن الأسعار بين بلدين بناءً على سعر الصرف، فيقول لك تخيل أن سعر تذكرة المترو في نيويورك بدولارين يعني تساوي ستين جنيهًا بينما هي 15 جنيهًا في مصر. هذا الشخص يجهل أو يتجاهل أن الأسعار وقدرة الإنسان الشرائية تتحدد بناء على عوامل كثيرة، منها دخله وتكلفة الإنتاج والضرائب والخدمات المجانية أو المدعومة التي تقدمها الدولة، إلخ.
كان هذا الترند والمشاركون فيه مثالًا جيدًا على “الهري” الذي حذرنا منه الرئيس محقًا.
كيف نتحدث إذن عن الارتفاع الحاد في الأسعار في مصر دون هري؟ دون تهوين سخيف وقح، ودون تهويل مغرض؟ هذا أمر صعب للغاية في ضوء إخفاء المعلومات من جانب الحكومة، وشبه اختفاء أي تقارير صحفية جيدة وحقيقية تشرح للناس ما يجري، والغياب شبه الكامل للبرلمان، شبه المعين، في تناول مثل هذه المسائل. وهكذا لا يصبح هناك من متنفس سوى الهري أمام معظم الناس!
ما نعرفه هو أن سعر الدولار ارتفع بمقدار الضعف أمام الجنيه في أقل من عام ليتأرجح حول الثلاثين جنيهًا في مطلع 2023. هذا الارتفاع، الثاني من نوعه خلال ست سنوات، فاقم من تحديات اقتصادية عميقة تواجه مصر مما أدى لارتفاعات حادة في أسعار الغذاء وتكاليف التعليم والعلاج والمواصلات، أي كل أوجه الحياة.
وصل معدل التضخم (الذي يقيس ارتفاع الأسعار) لأعلى معدل رسمي معترف به خلال خمس سنوات في مصر وهو 21% في مطلع العام. وجرى هذا في بلد يعيش نحو 60% من سكانه تحت خط الفقر، وفقًا لبيانات البنك الدولي. ولم تتوقف الحكومة في معظم هذه السنوات عن خفض مستمر، أو إلغاء تام في بعض الحالات، لدعم أسعار الطاقة والخبز وتقليل، أو تثبيت، الانفاق على الصحة والتعليم.
كل هذا أضر بشدة بالفقراء والطبقات الدنيا اقتصاديًا، ثم تعداه ليهز بقسوة مستوى معيشة الطبقات الوسطى. حاولت الحكومة زيادة عدد المستفيدين من برامج الدعم الاجتماعي ومخصصاتها بعض الشيء ولكنها تظل مجرد أطواق نجاة قليلة وصغيرة في وسط أمواج محيط متلاطمة في قلب عاصفة شرسة.
لُبّ المشكلة أن الحكومة نفسها باتت تحتكر “الهري”، ولا يجد معظم المهتمين بالشأن العام ساعتها مفرًا من المشاركة فيه
تحتج الحكومة المصرية بأنها تعاني مثلها مثل بقية العالم الذي تضرر بشدة في الأعوام الثلاثة الماضية بسب جائحة كورونا أولًا، ثم بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. هناك بعض الصحة في هذه الحجة. فثلث السياح الذين كانوا يأتون لمصر كانوا من هذين البلدين، وقد تبخروا جميعهم بعد أن كانت عودتهم قوية عقب نهاية الأيام السوداء لفيروس كورونا في عام 2021، عندما تعدى الدخل من هذه الصناعة 13 مليار دولار.
السبب الثاني أن مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، كانت تستورد كميات ضخمة منه من أوكرانيا، أحد كبار المنتجين في العالم. وبفعل الحرب ارتفعت أسعار القمح أكثر من خمسين في المائة، ولكنها انخفضت وجنحت نحو الاستقرار في نهاية العام المنصرم.
ولكن هذه الأزمات الدولية لم تضرب كل الدول بنفس القدر، ومصر من بين أكثر الدول تضررًا لأسباب أعمق. وأهم هذه الأسباب العميقة هو الضعف الهيكلي الكامن في اقتصاد مريض وسياسات اقتصادية فشلت في إبقاء العجز في موازنات الدولة في حدود معقولة.
أفرطت مصر في الاقتراض من أجل صفقات لا يناقشها أحد بجدية، وأوغلت في مشاريع بنية تحتية لطرق ومبان وشوارع العديد منها يبدو منبت الصلة بأي تنمية اقتصادية فعلية تعود عوائدها على قطاع واسع أو منتج من البلاد. ووصل الأمر أن مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة تُقدر تكاليفه بقرابة ستين مليار دولار دون أن تجري دراسات جدوى حقيقية ومعمقة حول من سيستفيد من كل هذه الأبراج الشاهقة، ومن سيشتريها وكيف؟
وفي ضوء هكذا سياسات وخطط غامضة المنشأ ومضطربة النتائج، صار الاقتصاد الوطني هشًا وعرضة لصدمات عنيفة مع أي أزمة مفاجئة. وهكذا عندما ضرب وباء كورونا العالم، أو قرر الزعيم بوتين غزو أوكرانيا، ترنح اقتصاد مصر بشدة حتى توقف الاستيراد تقريبًا.
زادت أسعار الغذاء لدولة يعتمد عيشها (حرفيًا) على الخارج، وترنحت صناعة السياحة وهي أحد أهم قطاعات التشغيل والاقتصاد ومصادر العملة الصعبة في مصر، بينما فرّت القروض الساخنة قصيرة الأجل التي تورطت فيها الحكومة (عشرين مليار دولار منها فرّت من البلاد في أسابيع العام الماضي) من أجل سداد تكاليف مشاريعها غير المدروسة، بل وسداد بعض فوائد القروض القديمة وسد العجز بين الإيرادات والمصروفات.
هذا هو لُبّ المشكلة
لُبّ المشكلة الاقتصادية التي تواجه مصر هو سياسات وخيارات اقتصادية غير مطروحة لنقاش جدي أمام الخبراء، لُبّ المشكلة غياب معلومات وحقائق تُمكِّن الجميع من فهم ما يجري وأسبابه واقتراح بدائل له، لُبّ المشكلة أن الحكومة نفسها باتت تحتكر “الهري”، ولا يجد معظم المهتمين بالشأن العام ساعتها مفرًا من المشاركة فيه.
الناس تهري بسبب انعدام الشفافية وضعف المعلومات وانهيار الصحافة والموقف الدفاعي المستمر من جانب الحكومة، ودون تحولات في السياسة والسياسات سيظل “الهري” سائدًا. دون معلومات وصراحة ومجال سياسي يسمح بهذا، سنظل مهووسين بالبيض وبتلك المقارنات السخيفة بين الأسعار في بلادنا والخارج، حتى نعجز، أو يعجز أغلبنا، عن تحمل سعره.
ساعتها قد يخرج علينا مسؤول في وزارة الصحة ليذكرنا بدور البيض المدمر في رفع الكوليسترول وزيادة الضغط محذرًا إيانا من أن الأزمة الاقتصادية العالمية هي وحدها المسؤولة عن ارتفاع أسعار الأدوية الخاصة بهذه الامراض المزمنة نحو خمسين في المائة على الأقل!