Blog

  • Home
  • مقالات

منشور على موقع المنصة (المتكرر الحجب من جانب السلطات المعنية) يوم الخميس 7 يوليو 2022

في عمل شجاع يقع ما بين السيرة الذاتية والرواية قدمت فاطمة قنديل في كتابها أقفاص فارغة، الصادر في 2021 عن الكتب خان، حياة أسر ة متوسطة مصرية صعدت اجتماعيًا واقتصاديًا حتى نهايات الناصرية، ثم انخفض بها الحال تدريجيًا مع انفتاح السادات الاقتصادي في السبعينيات ثم ذوت وتآكلت في ظل ركود مبارك، قبل أن تطحنها الليبرالية الجديدة تماما في نهاية ثلاثينية الديكتاتور الذي شاخ في مقعده.

وفي مزج سلس بين تقنيات السيرة الذاتية والكتابة الروائية، يتتبع الكتاب نضج وتحولات البطلة وهي تتخلص بلا هوادة من كثير من الأحلام والأوهام بشأن الأسرة والحب والحميمية، بشأن الأبوّة والأمومة والأخوة، بشأن الحب والكراهية والإحباط، والخوف، والجنس، والموت.

لا جاني حتى النهاية

في لغة شاعرية بسيطة يندر فيها اللجوء للمجاز تروي قنديل حياة امرأة مصرية منذ طفولتها في خط زمني بسيط تعري فيه هشاشة وطمع وقسوة البشر وخاصة أفراد عائلتها، حيث يسعى كل فرد بانتهازية واعية أو غير واعية لتحقيق رغباته النرجسية، عدا الأم التي تبدو أحيانًا وكأنها فوق ذلك الصراع، مستمرة في لعب دور الرابط الوحيد الطيب بين البطلة وبقية أفراد الأسرة.

ولا تخلو البطلة نفسها من القسوة والأنانية وهي تسعى خلف الحب منذ طفولتها المبكرة بأي وسيلة ممكنة. وفي مشاهد قليلة وبشاعرية مذهلة تتحدث عن “علاقاتها” الجنسية وهي طفلة دون إيحاء بندم أو إدانة أو شعور بتدنيس للمقدس الاجتماعي.

تتذكر البطلة الشاب الأسمر سعد الذي تمددت معه في “ذلك الفراش بملاءته المتسخة، ذات الرائحة الثقيلة حيث تمدد “كسلويت” إلى جواري، عاريًا وأنا عارية، بجسده الطويل النحيل، وجسدي المشارف الرابعة من عمري، أفرجه على أعضائي … لم أشعر بخجل، أو بضيق، كان لطيفًا حنونًا، فيما يبدو …” وبعدها بسنتين أبلغت البطلة الطفلة أمها بما كان يجري لها مع سعد، بل ومع “دادة فاطمة” التي كانت تساعدهم في المنزل وكانت البطلة تقضي الليل عندها أحيانا “وكيف كانت تختلي بي هناك، في الظلام، وتعرّفني على نوع أخر من المتعة”.

هذه العلاقة غير المعتادة بالجسد، فيما هو رائج النشر من كتب وروايات، تطارد البطلة وتتملكها وهي تتزوج في سن التاسعة عشرة من رجل في الخمسين في علاقة لا تستمر كثيرًا ويعقبها زواج آخر من فنان سكير عنيف اعتاد ضربها

لا تتحاشى الكاتبة الحديث عن العنف الجسدي والنفسي المتبادل بين أفراد الأسرة بطريقة قد تجعل القارئ أحيانًا موزع الشعور بين كل الأطراف، فلا جاني حتى النهاية، ولا ضحية عاجزة بالكامل.

علاف رواية أقفاص فارغة، من تصميم الفنانة دعاء العدل

الرجال الذين تدهسهم السنون

معظم رجال الرواية انتهازيون ومهزومون، باخت أحلامهم وصاروا مخيبين لآمال معظم من حولهم. والد البطلة مدرس متقاعد مخمور خسر أحلامه المهنية والتعليمية في شبابه، عندما اضطر لاختصار دراسته بسبب والده التاجر الفاشل، الذي ادعى الشلل والعجز بعد إفلاسه في تجارته كي يتحمل غيره عبء إعاشة الأسرة.

أما الشقيق الأكبر، راجي، فموزع بين الفشل الدراسي والمهني وفترات الاكتئاب العميق والإحساس بالتفوق غير المبرر تجاه عائلته وثقافته ومجتمعه، منقطعًا عن عائلته سنوات طويلة مقيمًا في ألمانيا بشكل غير قانوني. والشقيق الأوسط، رمزي، طبيب ناجح مهنيًا غير أنه منقطع الصلة، كذلك، بمشاعر الحب والتعاطف والمسؤولية الأخلاقية حتى عن بعض أقرب الناس إليه.

وتظل الأم مهووسة بابنها الكبير المكتئب المختفي، تتوق لعودته التي لا تحدث حتى بعد موتها. وتغفر نفس الأم لابنها الأصغر، الطبيب الناجح، أنانيته وبخله وتخليه عن دعمها ماديًا وعاطفيا حتى في أيام مرضها بالسرطان.

“أسوأ ما يمكن أن يحدث لي بعد موتي هو أن يأخذ الآخرون أقوالًا مأثورة مما أكتب الآن، أن تصير حياتي قولًا مأثورًا، هو ما يصيبني بالغثيان، أن تصير درسًا، أو عبرة، هو الجحيم بذاته، أحاول أن أتجنب هذا المصير وأنا أكتب، بلغة عارية تمامًا، لا ترتدي ما يستر عورتها من المجازات، لأن الحياة تصير أكثر شبقًا بعد أن نموت، كذئب مسعور، لا يروي ظمأه، إلا الحكايا”. فاطمة قنديل، أقفاص فارغة

شاعرية الفظاعة

تخفف شاعرية الوصف المقتصد، من دون غنائية أو ميلودرامية، في كل صفحات الكتاب من فداحة ما يجرى من وقائع وما تصفه الكاتبة من قسوة جارحة. فها نحن نقف بجوار البطلة وهي تمد يدها لتمسك بآخر ضمادات الأم التي ماتت بسرطان نهش جسدها، الضمادة التي تركتها البطلة ملقاة في الحمام أياما حتى “رعى فيها الدود”. تأخذ البطلة الضمادة وتدفنها في البقعة نفسها التي دفنت فيها قطها منذ سنوات طويلة في حديقتهم الصغيرة، التي استغلها جار مجهول لتخزين أقفاص فارغة.

وقد تنزعج في بدايات مشهد تبول الأم في غرفة المستشفى وهي في أشهر حياتها الأخيرة، ولكنه من أرق مشاهد الكتاب الذي يأخذك في رحلة أشبه بالعجلات السريعة الدوارة في الملاهي تتناوب على الواحد فيها مشاعر الهلع والخوف والغثيان ثم الارتياح الشديد والإحساس بالإنجاز.

كتبت قنديل على لسان البطلة في هذا المشهد “ماذا، أيضًا، لو أنني ناديت الممرضة، كل ثلاث دقائق، في المستشفى الخاص، لتغير لأمي سروالها؟ لكنني لم أفعل، أجلستها على الكرسي المتحرك، ونزعت وعاء البول من الكرسي، وقلت لها “على راحتك خالص، ما تتكسفيش يا ماما، أنا اللي ح انضف (…) كنا وحيدتين، وحين أتت الممرضة بعد ساعات… لم تلحظ؛ لا الأرض اللامعة للتو، ولا المريضة النظيفة، بسروال ناشف، وقميص نوم برائحة منظف هادئة (…) أمي على السرير، والكرسي المتحرك خاويًا، ووعاء البول نظيفًا، في مكانه “.

وتحدق الكاتبة في موت المقربين من دون درامية زاعقة، فتصف أبيها، ذلك النرجسي الفاشل وهو يتقيأ حياته في آخر أيامه عندما هرعت لتساعده و”كان نصفه الأسفل عاريًا تمامًا، بعضو صغير يلتصق بفخذه، لا أعرف إن كان لحظ انهماكي بمشاهدته أم لا، لكن ماما، وبحنان بالغ، طمأنته “ما تتكسفش، دي بنتك” أرقدناه على الاستوديو أمام الحمام، وغطته أمي، كان شتاء، وكان يرتجف، وبدا كأنه يريد أن يقول لنا شيئا، لكن الكلمات كانت تخرج من فمه مدغومة، ولا معنى لها”.

الخروج من علب الصفيح

عجزت البطلة عن التحلي بالتسامح الذي لجأت له الأم مع الأب، فنبذت شقيقيها وهي تكتشف أن القيود التي كانا يكبلانها بها، قيود الحب المفترض والتوقع المحبط والروابط الواهية، كانت قيودًا وهمية وأنهما حبساها بشكل ما في أقفاص فارغة مفتوحة كان يمكن أن تحطمها وتخرج منها متى شاءت.

وهكذا خرجت الكاتبة من تلك الأقفاص الفارغة ومن بيتها الذي كان يحمل كل تلك الذكريات بعد وفاة أمها، ولم تشعر بحزن بعد أن عرفت بوفاة أخيها صدفة، ولم تهتم كثيرًا بالبحث عن الأخ الآخر الملقى في دار مسنين في القاهرة لا تعرف عنوانها.

لا تأخذ البطلة الكثير معها من بيتها القديم في شرق القاهرة لشقتها الجديدة في غرب المدينة. لا تحدثنا سوى عن علبة معدنية صدئة كانت فيما مضى تضم قطعًا شهية من الشوكولاتة استمتعت بأكلها في طفولتها، علبة فسدت فصار لا يمكن غلقها، ولكنها في الوقت نفسه تخشى من فتحها تمامًا حتى لا يتبعثر ما فيها على الأرض، تريد أن تحتفظ بغطاء غير محكم لا يخنق ما بداخلها ولكن ليس مفتوحًا تماما يهددها بالانهيار.

“كل ما كتبته على هذه الأوراق، كان مؤلمًا، لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي، أشعر أنني تحررت من ذاكرة، وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى، فتتلاشي، كأنها تبخرت فور أن كتبتها”.

– فاطمة قنديل، أقفاص فارغة.

سيرة أم رواية؟

هل أقفاص فارغة سيرة ذاتية لقنديل كما تشير حوارات وتعليقات صحفية عديدة؟ أم رواية كما يدّعي الغلاف؟ هل ذلك سؤال مهم؟ التعامل مع كتاب على أنه سيرة ذاتية يمنح العمل قوة وسلطة لم يكن ليحصل عليها لو قُدم على أنه محض عمل روائي، ولكن الغموض المقصود في الأغلب بشأن جذور ذلك العمل قد يمنحه مع الوقت نفوذا أكبر. ولذا يبقى السؤال “سيرة أم رواية”؟ بلا أهمية تذكر، لأن كتاب قنديل يمسك بتلابيب القارئ العاطفية، بل ويستحوذ على فضوله تمامًا وربما يقرأه بأكمله في ساعات تقطع ليلته كما حدث لي.

ليست قنديل أول كاتبة تقوم بتمزيق أوهام حياة وتحولات أسر الطبقة الوسطى المصرية الحديثة، ففي الأعوام القليلة الماضية، فعل ذلك ياسر عبد اللطيف في موسم الأوقات العالية، وشادي لويس في تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة، ونائل الطوخي في الخروج من البلاعة وغيرهم، وهي أيضًا ليست أول امرأة تكتب عن قضايا حساسة اجتماعية فيما يشبه السيرة الذاتية، فقد فعلت ذلك مصريات أخريات قبلها ومنهن إنجي أفلاطون ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وأروى صالح وغيرهن، لكن أقفاص فارغة سيحتل مكانًا متميزًا في الصف الأول بين كل هذه الإبداعات بسبب لغة القص والبناء الدرامي والشاعرية التي تقبض على عواطف القارئ شجنًا وحزنًا وغضبًا واندهاشًا حتى ينتهي، ربما مثلي، بشعور يختلط فيه الأسى مع الأمل في صفحات الكتاب الأخيرة.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

Comments(2)

    • نشوة الأزهري

    • سنتين ago

    شكرًا يا خالد على البوك ريڤيو… أحب كتابات فاطمة قنديل ولكني لم أسمع بهذه الرواية فشكرًا لك…

    نشوة

    • عبدالمولى إسماعيل

    • سنتين ago

    عرض جميل ورائع دفعني للبحث عن الرواية لقراءتها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *