المدونة

نُشر في موقع درج يوم ١٩ مارس ٢٠٢٠

كلما تزايدت القيود على حركة البشر في أنحاء العالم لمناهضة انتشار فايروس “كورونا”، أمضى المزيد من الناس وقتاً أطول أمام الشاشات: التلفزيون والحواسيب الآلية وقبلها الهواتف الذكية وبخاصة تطبيقات “فايسبوك” و”تويتر” و”واتساب” و”تيك توك” و”إنستاغرام”. كبار السن يشاهدون التلفزيون أكثر، وربما إضافة إلى نشرات الأخبار يحبون برامج دينية وحوارية تحاول أن تفسر لهم ما حدث، ما قد يهدئ خواطرهم ويمنحهم قدرة أكبر على مواجهة القلق، بينما الأجيال الأصغر تخلق محتوى و”بوستات” وتغريدات طول الوقت حول ما يحصل، على رغم أن معظمهم صاروا على الأقل حبيسي بيوتهم مع إغلاق المطارات واحداً خلف الآخر وحظر الحركة المتصاعد بين المدن وإغلاق المدارس وحظر التجمعات الدينية والاجتماعية في معظم البلدان.

ولأن معظم الناس في العالم يفضلون التفسيرات الأبسط والأقصر والتي تهدئ مخاوفهم وتلقي مسؤولية ما حدث على قوى لا تمكن السيطرة عليها وتخليهم هم ذاتهم من أي مسؤولية، فإن مداخلات لا تنتهي تتمحور حول كيف بدأ الفايروس ومن تسبب به وكيف ننجو منه. 

ويهمنا هنا نوعان من هذه المداخلات. الأول مهووس بتبني نظرة بسيطة للعالم تشير بأصابع اتهام وإدانة إلى طرف محدد وواضح ولا تدخلنا في تعقيدات (ويُفضل في منطقتنا أن يكون الجاني يهودياً أو صهيونياً أو أميركياً أو شيعياً أو خليجياً نفطياً يخدم مصالح الغرب)، بينما الناجون أو الضحايا هم عرب أو مسلمون اقتيدوا إلى الذبح غيلة وغدراً. وفي هذا النوع تنهمر علينا نظريات ومقالات من مصادر ومواقع مشبوهة وافتراءات وأكاذيب وكلام مرسل وقرائن ظرفية لا تقنع مراهقاً درس مبادئ علم المنطق. كلها تدعي معرفة بمن تآمر على من! ومن اخترع الفايروس لتدمير الآخر! ومن أفلت الفايروس من خزانة حربه البيولوجية وانقض على العالم! وهل كانت الصين أم أميركا أم شركات الدواء أم مصانع السلاح؟ 

وتفوح من الحوار الثاني رائحة البخور وعطر المسك الخانق وترانيم وتراتيل المساجد والكنائس ومشاهد قساوسة ومشايخ التلفزيونات بأصواتهم الرخيمة ووجوههم المنتفخة وأصواتهم الدرامية، رجال وراء رجال صناعتهم راحة الأرواح، واقتياد مئات آلاف التائبين المعلقة نظراتهم بشاشات التلفزيون أو مقولات الشيخ/ القسيس، نحو جنة اليقين حتى لو كان مفتاح العبور صلاة في مكان مزدحم يكفي وجود أشخاص مصابين فيه ليمرض الجميع.

وهناك من ينتمي إلى هذين العالمين، وأكثر: هذه العوالم السحرية التي تريح الواحد من عبء البحث وهمّ المسؤولية أو من صعوبة التعايش مع الشك وعدم المعرفة.

وعلى سبيل المثال ظهر شريط فيديو صاحبته امراة جميلة (وهذه مقاييس نسبية) تصرخ في هيستيرية وترفع القرآن ثم تتهم الأميركيين وتتنقل بين الإنكليزية والعربية وتصف نفسها بالعالمة والمؤرخة، تتهم التجار الجشعين وأجهزة المخابرات ثم تقرأ علينا آيه من القرآن بعد أن تمسح أنفها السائلة من أثر البكاء. عشرة ملايين شخص على الأقل أعجبوا بالشريط وشاهدوا هذه الهراءات، أو جزءاً منها. 

تصرخ صاحبة الفيديو المضطرب مرات عدة “Shame on you أنتم يا مصريين”، مستندة في حقها لسب شعب بأكمله على أنها تركت أميركا (قذفت بجواز سفر أميركي في الهواء بعدما أخطأت في شرح الدستور خطأ فادحاً) وعادت إلى مصر حبيبتنا التي نقف فيها “تعظيم سلام لكل ضابط”. ثم تقول لنا إن أجهزة الإعلام الأميركية صدرت لها أوامر لتخيف الجماهير، ثم استلت هاتفها وهي تغمغم “عندي المصدر عندي الـsource” ثم تترك الهاتف لتتحدث عن أن “ترامب كان عايز يلعب لعبة مش لطيفة مع الصين… واستفز الصين بكورونا… لكن الصين متفوقة علينا كلنا لانهم بيشتغلوا في صمت… وعندهم الدواء أصلاً لكن هذا لم يُنشر لأن الأوامر الصادرة تقتضي أن يخاف العالم كله ويستفيد التجار الجشعون. “أمريكا بتنتهز الفرصة وعايزة تلم فلوس منكم كلكم… ارجعوا للقرآن يا مصريين وانفضوا عنه التراب… او صلوا”. ثم تمخطت في منديل ورقي بعينين دامعتين.

بعد أقل من يومين من الإقبال الجارف على شريطها هذا، نشر المدون المصري الشهير وائل عباس وثائق ملكية تحمل اسم هذه المدعية (التي ادعت أنها مؤرخة وعالمة ولديها مصادر)، وكيف أنها أشهرت إفلاس مطعم بيتزا كانت تملكه من سنوات في فلوريدا، قبل أن ترحل إلى القاهرة. وللسيدة “راسبوتين” شرائط فيديو أخرى عن الحمية الغذائية وعن أنها تحب شعرها وكيف خسرت كيلوغرامات عدة من وزنها وهي تظهر لنا خصرها وكيف ظهرت عليه علامات بسبب فقدان الوزن واعوجاج أنفها ورفضها الذهاب إلى طبيب التجميل وعن خطيبها المدرب في “الجيم”…

مئات الأمثلة من مصر والعالم العربي والإسلامي والأفريقي على ممارسات الدجل: من بول الإبل لدى سلفيين إلى بول البقر لدى هندوس! من لمسة القسيس الأميركي التلفزيوني عبر الشاشات لشفاء أتباعه إلى الاستشفاء بالقرآن عبر الهاتف! من تراب مار مارون في بيروت إلى رداء النبي الذي تقلده الملا عمر على سطح مسجد في قندهار. ولكن من راسبوتين الى الشعراوي كان هناك في معظم الحالات حد أدنى من القدرة على الأداء والتمثيل، وربما الإيمان والقدرة على القص المتماسك والحضور الطاغي. وليس هذا التدليس حكراً على أتباع الديانات (سماوية وأرضية)، فهناك قدر لا بأس به من تعليقات مناهضي النيوليبيرالية والامبريالية، التي ترى أن تجار السلاح ومؤسسات الاستخبارات الغربية نشرت “الفايروس”، لإشعال حروب، يستفيدون منها في جني الأرباح والقضاء على أعدائهم، والسند الوحيد هو المقولة الشهيرة: “من المستفيد إذاً؟ وقد حدث هذا من قبل، ثم يمصمصون شفاهم بسبب جهل بعض المستمعين من أمثالي وتشككهم. 

تحتاج تلك المرأة، بلا شك، إلى زيارة طبيب نفسي سريعاً، كي لا تؤذي نفسها أو تواصل إيذاء هؤلاء الملايين من متابعيها. ولكن أما هي الدوافع المركبة التي تجعل الناس تستمع إلى هذه السخافات بل وتؤمن بها؟  

أعتقد أن معظم التوكؤ على هذه المعرفة العرجاء يتأتى من العجز عن قبول فهم بشري قاصر لظواهر معقدة ومركبة ومن الولع بأن يكون لكل شيء سبب، واحد، يرضي المتطلعين إلى اليقين، ويقي الجميع من رعب المجهول ويرفع عنهم أيضاً أي مسؤولية عن الوضع الراهن. عندما كان الرعد والبرق يضربان البشر وتلاحقهم الحيوانات البرية في الغابات كان دور الآلهة والطواطم والكهنة هو توفير فهم لهذا العالم المعادي وبعض حماية من غوائله ومفاجآته المميتة، ولعبت الأديان هذا الدور بأشكال مختلفة. وفي العصر الحديث وإضافة إلى انتقام الآلهة وعقابها البشر المخطئين أو المتجاوزين، صار لدينا أيضاً سيل لا ينتهي من مؤامرات البشر على بعضهم بعضاً، من أجل ارباحهم ومصالحهم أو مجرد رغبتهم العارمة في السيطرة: يضغط “اليهود” على زر في غرفة اجتماعات في عاصمة غربية فتندلع الحروب بين المسلمين، يضغط “الأميركيون” على زر فيعينون حكومة عسكرية أو ديكتاتوراً فاسداً في بلد أفريقي أو عربي، ثم تدوس جماعة ماسونية مجهولة على زر ثالث فتنهار الأسواق وتدفع رافعة حديدية فتنهار بلاد. وهكذا يجلس رجال بنظارات سود وبذلات غامقة في غرف اجتماعات معتمة ويقررون مصير العالم. 

قبل أن يكف الناس القادرون عن التزاور، أتى إلى بيتي رجل أعمال ناجح يحمل على حائط بيته شهادة دكتوراه في العلوم الطبيعية من جامعة أميركية مرموقة وأصر بعدما لان الحديث وانتهت الرسميات أن أجيب على سؤاله الغريب: “لماذا إسرائيل مهمة جدا بالنسبة إلى مصر؟” وعندما ابتسمت في النهاية معتذراً عن جهلي (كنت ساعتها ما زلت من العاجزين عن إهانة ضيف في بيتي بما يستحق!) نظر إلي الرجل مشفقاً وقال: “إسرائيل هي حائط الصد بيننا وبين الدواعش في سوريا ولو انهارت إسرائيل ستزحف جيوش الدواعش على مصر وتقضي علينا جميعاً”

. فقدت النطق حتى قاطع صمتي وهو يسألني بخبث: “أم تعتقد أن اليهود لا يخططون لكل شيء”؟ 

وانتبهت فجأة إلى أن هناك علاقة وثيقة بين العداء للسامية والاعتقاد بأن لليهود يداً في كل مصيبة من ناحية، والانسحاق أمام إسرائيل والتعاون سراً معها، علاقة كراهية وحب عجيبة. وقبل أن يقوم الدكتور سألني عما إذا عانيت مثله من خسائر البورصة في نيويورك وأين سأصلي التراويح في شهر رمضان المقترب!

من السيئ والمضر أن يعبد الناس العلم الحديث وعلماءه وأطباءه ومهندسيه، فالعلوم علوم لأنها تقبل الدحض، وهي تقتضي الاحترام ثم النقد البناء من الفاهمين ويتطلب الأمر مزيداً من النقد والشك عندما يتعلق الأمر بالطب أكثر من علوم مثل الكيمياء والفيزياء والفلك مثلا لان العلم فيه يختلط بالتقنيات والاقتصاد والخيارات المتعددة. 

وليس من المفيد أن يسخر البعض مما هو مقدس بالنسبة إلى مليارات البشر بل إن الايمان بمبادئ عليا وإله قادر عليم عادل رحيم هو مخرج آمن ومفيد للاغلبية الساحقة من اليأس المحدق والكارثة الداهمة، طالما لم يحاولوا فرض فهمهم على من يريدون الإيمان بشكل مختلف، أو على غير المؤمنين.

مفيد أن يستمد الواحد طاقة روحية وصبراً وهدوءاً من دين أو مذهب، ولكن ليس الدواء المادي والعلاج الفعلي. ومفيد أن يعرف الواحد أسباب ما يحدث حوله لكن من دون أن يتخلى عن مسؤوليته هو الآخر. ولا أهم في هذا العصر والأوان من أن ندرك أن الشك الصحي أفضل من اليقين القاتل. 

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *