نُشر في موقع درج يوم ٢٤ ابريل ٢٠٢٠
ينسى الأغنياء والقادرون أن معظم البشر في العالم يواجهون كل يوم اختيارات وجودية قاسية: هل تشتري دواء الأم أم حليب البنت؟ هل تُعلّم الابن أم تشتري طعاماً أفضل للأسرة؟ لمَن مِن الركاب الثلاثة الباقين تعطي سترة النجاة الوحيدة المتبقية؟ وإذا كان لدينا سرير واحد في غرفة العناية المركزة فمن سيحصل عليه؟ ومن يقرر الأطباء أو الموظفون أنّ لا فائدة في تلقيه العلاج ويمكن فقط أن نخفف آلامه (أو نتركه في الشارع) ليواجه موتاً شبه أكيد؟ وهل هذا قرار فني يتخذه الخبراء أم قرار سياسي واجتماعي يتخذه من يسيطرون ظاهرياً على مقاليد الأمور؟ في منطقتنا، مهد الديانات السماوية الثلاث، ما زال البعض يتبجحون أحياناً وبخاصة من فقهاء السلطان وأصحاب البرامج السلفية على الشاشات إن “الأعمار بيد الله” كذريعة لتلافي نقاش جدي حول كيفية تخصيص إمكانات العلاج الطبي المحدودة، ناهيك بالسؤال الأهم وهو لماذا موارد الرعاية الصحية محدودة، بينما بلاد المنطقة من أكبر مستوردي السلاح ومصدري النفط في العالم!
نعرف في بلادنا وفي العالم عموماً أن الذين يحصلون على الرعاية الصحية الأفضل هم أصحاب الثروة والسلطة وشبكات العلاقات النافعة. كيف تتغير الأمور إذاً في ظل “كورونا”؟ إذا توافد عشرة أشخاص على غرفة عناية مركزة فيها خمسة أسرّة، فمن سيحصل على احتمال النجاة ومن ستوصد أمامه أبواب الحياة؟
هذا سؤال مرعب لأنه يضع قرار الحياة والموت ببساطة في يد الدولة والأطباء، في ما يخص آلاف الأشخاص كل يوم. ويتخذ أطباء العناية المركزة والطوارئ مثل هذه القرارات المصيرية كثيراً عندما يكون مستحيلاً تقديم الرعاية لكل الحالات بسبب نقص المتخصصين أو عدم كفاية الموارد.
في الولايات المتحدة، تضع هذه السياسات المستشفيات والمؤسسات الصحية ذاتها ولكنها تخضع أيضاً للقوانين السارية، ويمكن أن تفرض وزارة الصحة في الولاية قواعد استرشادية عامة. معظم هذه السياسات ترتكن على قاعدة أساسية وهي منح أولوية العلاج للمرضى أصحاب احتمالات الشفاء الأعلى، وهم هؤلاء المصابون الذين لا يعانون من أي أمراض مزمنة أو من إعاقات حركية أو ذهنية حادة. فإذا زاد عدد المرضى المحتاجين لأجهزة التنفس الصناعي عن قدرة المستشفى صار من الأسهل على الأطباء تحديد من سيحرمونه من الرعاية. وتستعمل ولايات عدة نظماً لترتيب الحالات بالنقاط يخسر فيها الواحد نقاطاً إذا كان يعاني مثلاً من ارتفاع حاد في ضغط الدم أو من شلل رباعي أو الزهايمر أو سكري أو أمراض متقدمة في الكبد او الكلى، لأن فرص المريض سليم البدن والذهن في النجاة أعلى بكثير إحصائياً.
هذا سؤال مرعب لأنه يضع قرار الحياة والموت ببساطة في يد الدولة والأطباء، في ما يخص آلاف الأشخاص كل يوم.
ولخص الجراح الإيطالي كارلو فيتيلي في حديث مع الإذاعة الوطنية العامة الأميركية في أواخر آذار/ مارس هذا الموقف قائلًا: “إذا كان لديك حالة لشخص عمره 99 سنة، سيكون أيضاً مصاباً بأمراض متعددة من قبل ويحتاج إلى جهاز تنفس، ثم حضر في الوقت نفسه طفل يحتاج إلى جهاز تنفس، ولديك في المستشفى جهاز واحد، (ماذا تفعل؟) ساعتها يكون الاختيار واضحاً”.
ليت المسألة بهذه البساطة، على رغم قسوتها، فالمسألة ليست صغاراً وكباراً في السن فحسب بل تعتمد في معظم اللوائح الاسترشادية للمستشفيات على نظام معقد، ولكنه في نهاية المطاف ظالم للفقراء وأبناء الأقليات المهمشة اقتصادياً وسياسياً، فمعظم أصحاب الأمراض المزمنة غير المعدية والتي تجعل فرص نجاتهم أقل هم من هذه الفئات لارتباط الفقر بعاداتهم الغذائية وقدراتهم على تحمل تكاليف الرعاية الصحية الجيدة.
في هذه الدول هناك على الأقل ادعاءات ومحاولات لإتاحة فرص متساوية أمام الجميع وبخاصة عندما تكون الموارد محدودة والقرارات ضخمة. ولكن الوضع مختلف في ظل النظم السياسية والاجتماعية السائدة في بلادنا، حيث لا يتورع كثيرون عن الرفض العلني لمسألة المساواة في فرص العلاج بين الناس، أو يندهشون لمجرد الحديث عنها (“الناس مقامات” كما يقول المثل الشعبي المصري). ففي بلدان في الخليج العربي غذى تهديد الفايروس عداء شعبياً وإعلامياً للعمالة الأجنبية الضخمة (تصل إلى 70 في المئة مثلاً في الكويت) وخططاً مقترحة لترحيل العمال وتقارير عن نظم ومؤسسات علاجية مختلفة تفرق بين المواطن والأجنبي. وفي مصر، تتفاوت فرص الفئات المختلفة مادياً وسياسياً وبيروقراطياً في الحصول على علاج في الظروف العادية، وتطرف هذا الأمر ليصل إلى تخصيص مستشفى قصر العيني الفرنسي بأكمله لعزل المصابين المحتملين من بين العاملين في جامعة القاهرة.
كيف نحدد أحقية كل فرد في تلقي العلاج؟
كيف نحدد أحقية كل فرد في تلقي العلاج؟ المقاربة الطبية بسيطة وهي منح أولوية لمن لديه فرص أعلى صحياً وجسدياً في النجاة، وهو خيار عقلاني قائم على تعظيم نتائج تخصيص الموارد. ولكن ماذا لو كان صاحب الفرصة الأقل في النجاة عالماً صيدلياً يعمل على أبحاث مصل للفايروس أو جنرالاً في جيش البلاد أو رئيس مؤسسة دينية مهمة أو مواطناً من عائلة ذات نفوذ؟ والحبل على الجرّار كما يقول المثل الشامي.
عندما واجه صندوق تعويضات ضحايا هجمات 11 أيلول/ سبتمبر في نيويورك هذه المعضلة عام 2002، قرر رئيس الصندوق بعد مشاورات ومناقشات تبني صيغ وجداول تفصيلية لتحديد قيمة التعويض لكل متضرر من القتلى والناجين، وكان المبدأ الأساسي في التعويض يقوم على الخسارة الاقتصادية الناجمة عن الإصابة وليس عن احتياجات العائلة أو سن المتضرر. وبمعنى ادق، لو لم يكن الضرر قد وقع كم كان الشخص الضحية سيجني من أموال ومنافع! وبهذه الطريقة فإن أرملة شاب في منتصف العشرينات يعمل محللاً مالياً في شركة استثمارات وليس لديه أطفال تحصل على تعويض أكبر بكثير من أرملة رجل مطافئ في الأربعينات مات اثناء عمله وتركها مع ثلاثة أطفال. ولكن مع وجود عدد كبير نسبياً من العاملين في شركات استثمارات مالية وأصحاب دخول مرتفعة، وضع الصندوق حدوداً قصوى على التعويضات حتى يتفادى أن يحصل 20 في المئة مثلاً من الضحايا على أكثر من 80 في المئة من التعويضات. ولذا كان هناك حد أقصى ومفاوضات شاقة تفضح كيف تقيم المجتمعات البشرية المختلفة حياة الإنسان الفرد وتفاضل بينه وبين فرد آخر.
ففي مقابلة مع كينيث فاينبرغ مدير صندوق التعويضات صرخ أرمل ماتت زوجته التي كانت تحصل على قرابة نصف مليون دولار راتباً سنوياً في تفجيرات برج التجارة العالمي، إنه لن يقبل مليوني دولار تعويضاً، ويريد مليوناً إضافياً، فرد فاينبرغ سائلاً: “هل تريدني أن أمنح ملايين الدولارات من أموال دافعي الضرائب لعائلات ثرية بالفعل؟”. فرد عليه الرجل فوراً: “نعم، بالتأكيد. فكرة الصندوق هي أن تعوضني بطريقة مناسبة بحيث لا تتأثر طريقة حياتي ومعيشتي. وتلك الطريقة مختلفة عن حياة شخص كان يغسل الأطباق في مطعم. أنا لا أعيش في شقة إيجارها 250 دولاراً في الشهر، بل في منزل يكلفني خمسة آلاف دولار شهرياً”. الناس لا يقبلون ثروات العالم مقابل التضحية بحياة من يحبون (الناس الأصحاء نفسياً على الأقل لا يفكرون أصلاً في مثل هكذا مقايضة)، ولكن عندما يموت الأحباء، يكون الناس عادة على استعداد للمساومة والضغط والبكاء والتفاوض من أجل الحصول على أعلى تعويض مالي ممكن، ويصبح هذا التعويض بشكل ما رمزاً لقيمة حياة من فقدوهم.
ومن المنطلق ذاته، تفضح إرشادات التعامل مع ضحايا كوفيد-19 في كل بلد طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقيم السائدة، وهل نعالج في نهاية المطاف من نعتقد أن مساعدتنا له ستبقيه على قيد الحياة أم أننا مجبرون على أن نساعد من بيده قرارات وسلطات تؤثر في حياتنا نحن؟ هل نساعد الجنرال أم الجندي، المليونير أم العامل، الوزير ام الفقير، الطبيب أم الفلاح، ومن يقرر هذا؟ وكيف نتخذ القرار؟ بالطبع هذه مواقف ميلودرامية ومواقف الحياة العادية ليست بهذه الحدة والتقابل، ولكن كلما كان صوت النقاش العام حول هذه المسائل خافتاً وباهتاً، كلما عرفنا أن ما يحدث فعلاً في بلادنا لا يمكن الحديث عنه لأنه ينضح بكذب ونفاق وظلم يعرف الناس أنه واقع، ولكنهم لا يعرفون كيف يتحدثون عنه ومدى جدوى هذا الحديث، بل ومدى خطره عليهم!
بصمات
شكرا لكم