منشور في موقع المنصة (المتكرر الحجب من جانب السلطات المعنية) يوم الأحد 19 يونيو 2022
في بلاد مثل بلادنا يختفي فيها الأرشيف الرسمي، أو يُحجب عن عمد، وتقل فيها مصادر التاريخ الشفاهي المحفوظة جيدًا، تبرز أهمية المذكرات والذكريات التي كتبها أصحابها مُواكِبة للأحداث أو بعدها اعتمادًا على ما يتذكرون. هذه الكتب مهمة للغاية لأنها أيضًا تنقل إحساس أفراد بما جرى، تُصور شبكات علاقات، تصف ملمس التاريخ وتأثيره على الفرد، تحكي عن أماكن وعلاقة البشر بها، وتذهب لما هو أبعد من التاريخ الرسمي المحفوظ في أضابير الأرشيفات (هذا لو كان الأرشيف مفتوحًا، أو موجودًا من الأصل).
قرأتُ واستمتعت بـكتاب الفنان ورسام الكاريكاتير المصري أحمد عز العرب حكايات طائر الطباشير، وهو الطائر الذي رسمه على سبورة المدرسة عندما تركه مدرس وحيدًا بالفصل لأنه مصاب بشلل الأطفال، بينما خرج زملاؤه القادرون على الجري والقفز لفناء المدرسة لحصة الألعاب. ربما أنقذ طائر الطباشير ذاك الطفل من الشعور بالاستبعاد، والعجز، والمهانة، ولكنه أيضًا كان انتصارًا مستمرًا بمعان عديدة مثلما قال صلاح جاهين في الرباعية التي يفتتح بها عز العرب كتابه “مطرح ما بظهر بانتصر على العدم/ انشالله أكون رسماية بالطباشير“.
من دفتري مهجة وزبدة
يستعرض عز العرب المولود في 1947 ذكريات السابقين عليه مثل جده الفلاح الذي قاوم الضابط الإنجليزي المستعمر مدافعًا عن كرامته، وانتفاضة عرابي وضباط الجيش المصري الوليد، التي حكت له عنها جدته مُهجة. والمثير في تلك الحكاوي، البعيد منها والقريب، ليس الوقائع، بل الأحاسيس والمشاعر، وتلك العواطف التي تحرك الناس. ومثلما استمعت الجدة لحكاوٍ عن “هوجة” عرابي وهي طفلة في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر، استمع عز العرب لقائد الضباط المصريين الذين وضعوا نهاية النظام الملكي وأسسوا لعصر سياسي واجتماعي جديد في مصر، عندما وقف في ميدان عابدين مع والده يستمع لخطبة ألقاها اللواء محمد نجيب في عام 1952.
ينقل عز العرب صورًا عديدة عن حياة المثقفين والمبدعين المصريين في الستينيات والسبعينيات وكيف تغيرت بين عهدي ناصر والسادات، ثم مرة ثالثة في علاقتها بالدولة في عصر مبارك، ويحكي عما تعرض له من استجوابات وتضييق بسبب رسومه السياسية في صحيفة الأهالي اليسارية، وخاصة عن شخصية زبدة هانم التي خشى مسؤولون ومحققون أنها تسخر من شخصية سياسية مهمة.
يقدم الكتاب لمحات مهمة عن تطور فن الكاريكاتير في مصر، وعن عدد من أهم رساميه الذين صادقهم عز العرب أو تعلم منهم، وعن أيامه في مجلة روزاليوسف وصحيفة الأهالي مع عدد من أساطين الصحافة في تلك الفترة مثل محمد عودة، ومحمود المراغي، وحسين عبد الرازق.
يستحق كل واحد من هؤلاء الصحفيين كتابات مطولة ليس فقط لأن حيواتهم، بنجاحاتها وإخفاقاتها، معين مهم لفهم الحاضر وكيفية تشكل النخبة المثقفة المصرية وخاصة في تجلياتها اليسارية، ولكن أيضًا لأنها تعبيرات متنوعة عن مدى عمق النضال البشري، وكيف كانت الثقافة المصرية المنهكة حاليًا قادرة في مراحل متعددة على توليد مقاومة فكرية غنية الجوانب وبطرق مختلفة، بداية من ألمعية وطيبة الكاتب محمد عودة وعلاقاته الاجتماعية وتحولاته السياسية، وموسوعية وبراجماتية وفردانية الصحفي صلاح عيسى، وعمق ودأب وإصرار المحلل والكاتب محمد سيد أحمد، و”نمكية” ومدرسية الرسام والفنان ودارس التراث الشعبي عبد الغني أبو العينين.
حكاية درية
يخصص عز العرب جزءًا يسيرًا للحديث عن المناضلة النسوية الرائدة والمنسية درية شفيق التي كانت أول مثقفة مصرية تقف في وجه الميول الديكتاتورية لعبد الناصر ورفاقه الضباط، عندما أضربت عن الطعام احتجاجًا على غياب النساء عن لجنة إعداد الدستور في 1954، ولم تفك إضرابها حتى وعدها الرئيس محمد نجيب بالنظر في مطالبها. استشاط عبد الناصر ورفاقه من أمثال عبد الحكيم عامر غضبًا ساعتها واعتبروا نجيب “راجل ضعيف، مشى ورا كلام واحدة ست”.
لم يكن عبد الناصر “ضعيفًا” بهذا المعنى، ولهذا عندما كررت درية احتجاجها على ديكتاتورية النظام بعد ذلك بعامين، قرر الزعيم المصري شطبها من الوجود دون قتلها إكرامًا لخاطر الزعيم الهندي جواهر لال نهرو الذي تدخل لحمايتها. ووضع النظام الناصري درية شفيق قيد الإقامة الجبرية ومنع عنها النشر والسفر والحركة أكثر من 15 سنة، حتى أنها عندما صارت نسبيًا حرة الحركة كانت فقدت القدرة أو الرغبة، وبعدها بقليل انتحرت أو سقطت نحو موتها من شرفة منزلها للطريق العام.
سيرة الكاريكاتير
تتكرر هذه اللمحات والمعلومات والتحليلات عن الشخصيات التي التقاها عز العرب في صفحات الكتاب، وتشمل معظم الأسماء التي ذكرتها أعلاه ولا تنتهي مع مصطفى بكري الذي يتحدث عنه في أحد الفصول بداية من كونه الطالب الصغير القادم من قنا ليشارك في تأسيس حزب التجمع في السبعينيات، وصولًا إلى تمتين علاقاته القومية العربية عن طريق الدكتور يحي الجمل والكاتب الصحفي عبد العظيم مناف وعلاقاتهما العربية المتشعبة، ليعمل في مجلة الموقف العربي حتى يعينه مكرم محمد أحمد في مجلة المصور حيث أجرى مقابلات مع زعماء عرب ثم “استقبله الرفيق صدام حسين، وحلت عليه نعم الرضا السامي من أوسع الأبواب”.
ولعل كتاب عز العرب أحد المراجع القليلة المهمة عن مراحل وتطور فن الكاريكاتير في مصر بتفصيلات عديدة عن أهم الفنانين بداية من صاروخان ورخا وعبد السميع وزهدي وطوغان من الجيل الأول، ثم صلاح جاهين ورجائي ونيس وإيهاب شاكر وجورج البهجوري من الجيل السابق على عز العرب، نهاية بجيله الذي ضم بهجت عثمان وأحمد حجازي ومصطفى حسين وجمعة فرحات ومحمد حاكم.
ويحكي عز العرب عن جوانب الحياة اليومية للمثقفين والفنانين والصحفيين والمصريين عمومًا من الطبقة الوسطى في سنوات عمره، عن رحلاتهم إلى أسوان جنوبًا والإسكندرية شمالًا، عن مشي لا ينقطع في شوارع القاهرة، عن حفلات موسيقية، حوارات واختلافات سياسية، مشاحنات، انحيازات فنية، غضبات عاطفية، خيانات صغيرة، غيرة، إخلاص، ..الخ.
وهناك فصل قصير مثير عن رحلته للجزائر في منتصف الثمانينيات وتوقعاته ساعتها بانفجار الوضع السياسي هناك، وهي التوقعات التي جلبت عليه غضب القيادة السياسية في حزب التجمع عندما نشرها في صحيفة الأهالي التابعة للحزب. وصدقت تخوفات عز العرب ودخل الجزائر في عشرية دموية في التسعينيات بينما اضمحل ذلك الحزب نفسه وصارت حساباته نسيًا منسيًا.
يوميات الهزيمة
ينتهي الكتاب بحديث عن هزيمة 1967 التي تظل لحظة مفصلية في حياة هذا الجيل الذي شب وعشق وثار في خمسينيات وستينيات القرن العشرين في مصر. يقول عز العرب “كانت أزمتي داخلي أكبر من أي كلام، بعدما رأيته (عبد الناصر) منكسر العين، يتهدج صوته معترفًا بالهزيمة، صحيح أني لم أصدق عبارة “محو إسرائيل في ساعات” لكني تصورته أكثر رشدًا من كل زملائه وبطانته، وكنت أحسبه صاحب أبويا … لكنه غدر بي وتركني تائهًا وسط الجموع. عايشت مثل هذه اللحظة أكثر من مرة بعد ذلك، في انتفاضة الخبز يناير 1977، وبعدها في أحداث تمرد جنود الأمن المركزي 1986، ثم ثورة يناير 2011. في كل مرة كنت أشعر أني على هامش بحر بشري هائل، هادر، يعلو بي إلى حافة الأمل، أكاد أقطف نجمة من السماء. أنا وحدي صحيح، لكني وسط جموع تقترب من فتح بوابات الأمل، لكن لا هم ولا أنا نعرف كيف سيتم ذلك، لا نفعل أكثر من صراخ الغضب، دون خطة أو برنامج عمل، ثم تتبدد طاقات الطوفان البشري كأنه فيضان بلا قنوات ولا جسور، أو قناطر تضبط مساره، وتعظم فوائده “.
وفي ذلك الفصل الحزين يبدو أن آثار طائر الطباشير الذي ساعد عز العرب على مواجهة الحياة في بداية الخمسينيات انمحت في أواخر الستينيات. لكنه وآخرون، رغم جرح واضح لم يندمل عند معظمهم، واصلوا الإبداع والمقاومة. ولعل قدرة عز العرب على إعادة التفكير النقدي في مواقفه إزاء الحركة الوطنية والقومية واليسارية والعديد من قياداتها مدحًا وقدحًا دليل إضافي على قدرته على تجاوز بعض من آثار هزيمة 1967، التي أودت بحياة بعضهم مثل جاهين وأقعدت كثيرين عن الإبداع ذاته.
قدم الكثيرون ممن عملوا بالسياسة في تلك الفترة مذكراتهم مثل محمد نجيب وخالد محي الدين ويحي الجمل ورفعت السعيد، ولكن كتاب عز العرب هو تقريبًا المساهمة الوحيدة بحد علمي لفنان كاريكاتير مصري عن تلك الفترة الغنية من تاريخ مصر. ولهذا فالكتاب المطبوع الصادر عن دار المحروسة في القاهرة في 2021 هو عمل فني لطيف بداية من الغلاف الذي صممه هشام بهجت ونهاية برسوم عز العرب نفسه التي سيتوقف القارئ عندها مرارًا على مدى 255 صفحة.
نشوة الأزهري
شكرًا مرة تانية… بفضلك ضممت لتوي كتابين جديدين لقائمة “للقراءة”…