المدونة

نُشرت في موقع درج يوم ١٨ اكتوبر ٢٠٢١

شعرت بالغضب وأنا أنظر إلى الطفل المرتدي زياً عسكرياً، يجلس أمام كفن أبيه في سيارة نقل موتى، فيما صاحب هاتف محمول يصوره ويستجوبه ويلقنه. يسأله أين أبوه، فيربت الطفل زائغ النظرات على الصندوق الملفوف بعلم “حزب الله” الأخضر والأصفر. يسأله الرجل لاهث الانفاس: أين سيذهب أبوك؟ فيرد الطفل جامد القسمات: “ع الجنة”، فيواليه الرجل فرحاً: وأنت ماذا تريد أن تصبح؟ فيرد الطفل: “شهيد”، ثم يرتعش جسده عندما تتوالى طلقات مدفع رشاش، فيقول له الرجل: “ما تخاف، بيّك ما كان يخاف، بيّك كان أحسن …” ثم يختنق صوت الرجل، ويتوقف الشريط. يغالب صوت الطفل زخات رصاص مدافع رشاشة: “راح تنزل رصاصة علينا”، فيقول المصور كاذباً، إنهم في سيارة تحميهم من الرصاص!

أرسلت رداً سريعاً غاضباً لصديقي الذي بعث لي بشريط الفيديو على “واتساب”. لماذا أرسلت لي هذا البؤس والألم؟ لماذا صار مقام الحزن واللوعة والأسى والحداد مستباحاً لمثل هذا المصور. لماذا يسعى هؤلاء المحرضون إلى تمجيد قيم البطولة والفداء والتضحية المرتبطة لديهم حصراً بالقتل والموت طاعة لأوامر زعمائهم السياسيين والدينيين؟ هؤلاء رجال باتوا لا يعرفون الحياة ولا يحترمون الموت ومشاعر الفقد الإنسانية الطبيعية. هؤلاء رجال لا يحملون رؤوسهم فحسب على أكفهم، بل يجعلون رؤوسنا نحن أيضا ورؤوس أطفالنا وأطفالهم في مرمى أصابعهم المتكئة، والمرتعشة أحياناً، على زناد بنادقهم، ثم يتفاخرون بعد ذلك قائلين إنهم قوم يحبون الموت أكثر من الحياة، وأنهم وحدهم الشجعان، أما الآخرون فجبناء.

هذه الاستهانة بالموت لدى هذا المحرض وغيره من زعمائه وسادته في معسكره وفي المعسكرات المقابلة، ليست إشارة على الشجاعة والبذل، بل هي في معظمها أعراض هستيريا جماعية واستعراضات مسرحية تصير فيها الهتافات والأناشيد والتبريك بالموت بديلاً عن الشعور المرير بالحزن والفقد والفراق. هذه الهستيريا الجماعية تجعل التضحية بالذات والفرد وبصورة مسرحية، هي سبيل بقاء الجماعة والطريق الأمثل لتقليد الراحل العزيز واللحاق به لرأب صدع الموت المفتوح من دون نهاية. 

هذه الهستيريا تبرر لأعضاء الميليشيات والطوائف المنغلقة على ذاتها موتاً مفاجئاً، ولا داعي له في الأغلب، لشخص عزيز. بدونها يصبح من الصعب على الفتى الصغير تفهم لماذا مات أبوه وهو يسير في تظاهرة سياسية، تسعى إلى التخلص من محقق قضائي في قضية انفجار مرفأ بيروت! وبدونها يصعب على أم أو أب عجوز تفهم لماذا مات ابنهما في إدلب أو حمص وهو يقاتل جماعات سورية مسلحة.

في أوضاع كهذه تصبح مبررة نفسياً، الاستعانة بقاموس الشهادة والتضحية والفداء والموت من أجل المبادئ ثم تقديم كل هذا في قالب مسرحي هيستيري. من دون هذا سيتعين على هذه الأم وعلى هذا الطفل مواجهة أسئلة موجعة وغير مقبولة سياسياً واجتماعياً. إذاً تعلو زغاريد النساء في الجنازات ويرتدي الأطفال أزياء عسكرية ويطلقون الرصاص نحو السماء في مراسم دفن أحبائهم.

ولهذا التناول الانتهازي للموت العبثي، بسبب مناورات سياسية، أثمان مرتفعة على مثل هذا الطفل وعلى المراهقين وعلى كل من ينفعلون لحظياً ويسرعون لالتقاط أسلحتهم والذهاب عراة الصدور لمواجهة عدوهم سواء كان هذا العدو في الحقيقي أو المتخيل في قلب بيروت أو جالساً في أبراج مراقبة عبر الحدود أو في جامع شيعي في قندهار أو في مسجد في نيوزيلندا.

عشرات الدراسات النفسية والاجتماعية، تثبت إلى حد بعيد أن تطبيع الأطفال مع العنف والفقد وخسارة الأحباء، يجعلهم أكثر قدرة وميلاً لارتكاب أفعال عنيفة وللتهوين من شأن أفعال فظيعة مثل القتل أو حوادث مؤلمة في حياة الواحد منا مثل وفاة شخص عزيز. 

ولا علاقة لهذا بقيم المقاومة والوقوف بحزم ضد المعتدي والتضحية من أجل الدفاع عن الكرامة. ولكن من جعل تظاهرة سياسية تنتمي إلى هذه الفئة من الأحداث التي قد تستلزم التضحية بالنفس؟ من جعل موتاً عبثياً بسبب فعل إجرامي ارتكبه قناص، استشهاداً في سبيل القضية؟ ولمد الخط على استقامته: من يجعل مقتل شاب من الجنوب في حمص وهو يقاتل جماعات جهادية سورية “استشهاداً” مبرراً؟ وفي سبيل ماذا؟  ومن جعل جنرالاً مسؤولاً عن أذرع إيران الخارجية في المنطقة شهيداً يُحتفى به؟ 

وحتى لو أردت اعتبار كل هؤلاء أبطالاً، فلماذا يصير الحزن على فقيد أمراً مستهجناً، وبدل مشاعر الحداد المستحق، يتحول الأمر إلى احتفالية صاخبة من أجل الموت والعنف، وبالطبع يتحول وصف ما حصل بالاستشهاد، ليصبح أي نقاش حول المأساة حساساً وغير مرغوب فيه من وجهة نظر دينية. علينا البحث عمن هو مستفيد اجتماعياً وسياسياً من هذه الاستعراضات مع الأطفال غير الواعين لتعقيدات حسابات الكبار والمتاجرة الفاضحة بهم وبمشاعرهم أثناء لحظات دقيقة للغاية في حياتهم، وهم ما زالوا في مرحلة إنكار وفاة شخص عزيز كان لهم الحامي والسند.

ولا ينطبق هذا على “حزب الله” فحسب، فهناك الكثير من الدول والميليشيات التي تحرض الأطفال وتربيهم على هذه الأفكار والقيم ثم تستعملهم لاحقاً. وليس تورط الأطفال أو المراهقين في أقسى أعمال العنف وأشدها جنوناً، وهي العمليات الانتحارية العشوائية بأمر نادر، فقد استعملت بوكو حرام وحركات جهادية أخرى في غرب أفريقيا ووسطها، 165 طفلاً في عمليات انتحارية بين عامي 2014 و2019. هذه عمليات حصلت في أسواق ومدارس وطرق عامة، ولا شك في أن هناك أطفالاً كانوا يسعون للشهادة وربما لهم أحباء قُتلوا في أعمال عنف، وبعدما تمزقت أجسادهم في عملياتهم الانتحارية أطلق عليهم البعض وصف “الشهداء”، فيما زغردت أمهات في جنازاتهم – إذا حصلن على بعض أشلائهم – وصورهم في بعض الأماكن صارت ملصقات معلقة على حوائط تبهت ألوانها مع مرور الزمن.

سيأتي يوم تتغير فيه تحالفات “حزب الله” (وأمثاله في لبنان والمنطقة) على الصعيدين الوطني والإقليمي، وساعتها ربما تصبح العسكرة والميليشيات وتمجيد العنف المجاني والذكورة الفائضة، من دون معنى، ولكن ماذا سنفعل عندها بكل هؤلاء الأطفال الذين باتوا يريدون الانتقام ويبجلون القتل و”الشهادة” حتى من أجل تجميد تحقيق قضائي؟ ربما سيقومون بإرسال فرق عمال الدهان لتبييض الحيطان، ووضع ملصقات حول السلام الذي قام به زعماء شجعان حقناً للدماء، ثم يتركون هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا رجالاً ليقتلوا بعضهم بعضاً!

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *