(نُشر بموقع درج في ٣ مايو ٢٠١٩)
ستعلن واشنطن في أوائل شهر حزيران/يونيو المقبل الخطوط العريضة لحل مقترح لتسوية أوضاع الفلسطينيين وتكريس سلام شبه قائم بين الدول العربية وإسرائيل. وقدم جاريد كوشنر رئيس فريق إعداد ما بات يعرف باسم صفقة القرن ملامح غائمة لهذه الخطة في جلسة علنية في العاصمة الاميركية هذا الأسبوع. ووراء الملامح المبهمة، وفقاً لمصادر متعددة، خطة اقتصادية باهظة التكلفة يستمر فيها خمسة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة تحت هيمنة سياسية وعسكرية لإسرائيل. وتشمل الخطة تأمين دعم وتعاون اقتصادي من الخليج وأوروبا لإقامة مناطق ومشاريع صناعية ربما في مصر والأردن مع ترتيبات سياسية لإدارة شؤون الفلسطينيين، والاتفاق نهائياً على وضع القدس والحدود والمستوطنات وإلغاء حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين.
وتحدث كوشنر في ندوة صوريف السنويةلمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى التي حضرها 200 عضو من مجلس أمناء هذا المعهد المؤثر في السياسة الخارجية الاميركية يوم الخميس اول أيار/مايو. وقال رجل الأعمال الذي وصل البيت الأبيض مع زوجته ايفانكا ترامب في 2017 انه انتهى من إعداد “وثيقة عملية لما هو ممكن وكيف يمكن أن يعيش الناس سوياً مع ضمان الامن” في إسرائيل والمناطق الفلسطينية.
وقال دبلوماسي اميركي سابق أن 80٪ من الخطة اقتصادي والباقي يتمحور حول الارض (الحدود ووضع المستوطنات) واللاجئين والقدس. وتؤكد الخطة وفقا لكوشنر على أن القدس عاصمة إسرائيل الأبدية ومرتفعات الجولان السورية المحتلة ارض إسرائيلية، بينما تشير مصادر متفرقة لاحتمال أن تضم الخطة العناصر التالية: ضم إسرائيل لأراضٍ في الضفة الغربية تحوي أكثر المستوطنات اليهودية كثافة سكانية، تقاسم إدارة الأماكن المقدسة في القدس بين اليهود والفلسطينيين، وتصفية قضية اللاجئين مع تعويضات وتوطين في بلدان ثالثة (وإغلاق وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، وتطبيع العلاقات السياسية بين إسرائيل والدول العربية (الخليج بشكل أساسي)، وإقامة كيان فلسطيني فيما تبقى من الأراضي الفلسطينية.
ويعني هذا أن الخطة ستحتاج الى أموال طائلة قدرتها مصادر بأكثر من ستين مليار دولار، وفقاً لمصدر خليجي، ويُعتقد أن كوشنر ومساعديه الذين زاروا الخليج مؤخراً قد تحدثوا في هذا الامر مع مسؤولين سعوديين واماراتيين كبار. ويُفترض ان تُخصص هذه الاموال لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات (خاصة لبنان والأردن) ولتمويل مشاريع اقتصادية للفلسطينيين في المناطق المحتلة وفي دول عربية مجاورة. ولكن رد فعل الخليج غير واضح حتى الآن، وإن كانت مصادر تؤكد ان عواصم خليجية ضغطت على السلطة الفلسطينية والأردن لقبول وتشجيع صفقة القرن. وتتراوح مواقف الأطراف العربية المعنية مباشرة ما بين الرفض التام في تصريحات مسؤولي السلطة الفلسطينية الى القلق في عمّان إلى التأييد المبدئي في مصر – هذا كله ودون أن يعلم أحد مدى ما يعرفه كل من هذه الأطراف عن تلك الصفقة!
ويجب عدم الاستهانة بكوشنر وتأثيره الهائل على ترامب، فهو نفسه المستشار الذي يقف خلف تغيير أنظمة السجون في الولايات المتحدة (اكثر دولة سجناً لسكانها في العالم)، ووضع صفقة تجارية جديدة معقدة مع المكسيك وكندا، والقيام حالياً على وضع نظام جديد للهجرة. ولا ينتظر كوشنر الكثير من العرب، ولا يهتم سوى بكونهم مصدر تمويل محتمل لصفقة القرن، أو طرفاً يقدم أراض ٍللمشاريع المشتركة، أو طرف يرضخ سياسياً ويقبل بصمت. ويدعي كوشنر أن دعم الدول العربية للقضية الفلسطينية يتضاءل وهناك “نفاد صبر …( لأنهم) يدفعون الكثير منذ وقت طويل.” وربما يكمن التغيير، في رغبة دول عربية في الخليج في تمتين علاقاتها أكثر مع إسرائيل، وكان هذا واضحاً في نهايات عام 2018 عندما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مسقط، وذهبت وزيرة إسرائيلية إلى أبو ظبي، بينما تواترت التقارير عن التعاون الأمني والاقتصادي بين الطرفين بما فيه مثلاً توريد برمجيات تنصت إسرائيلية للخليج. ودوافع عواصم مثل أبو ظبي والرياض واضحة ومنها، خوف مشترك من النفوذ الإيراني والحاجة إلى عضلات اللوبي الصهيوني المؤيد لإسرائيل في واشنطن، من أجل ضمان الدعم السياسي والعسكري لها.
وانتقد كوشنر القيادة الفلسطينية قائلاً، إن هناك فلسطينيين استفادوا من الدعم والمساعدات “واغتنى البعض … وربما يحب بعض المفاوضين ما يحدث (من جمود) لانهم يستمرون في عملهم سنوات طويلة … والناس مقموعون في الضفة وهناك سؤال ما إذا كانت القيادة الفلسطينية ترعى مصالحهم ام لا … وحماس تدمر قطاع غزة وناس القطاع رهائن منظمة إرهابية…”
السلطة الفلسطينية ترفض الاجتماع مع كوشنر منذ إعلان القدس عاصمة إسرائيل في ديسمبر 2017، وردت واشنطن على الموقف الفلسطيني بعقوبات متعددة, منها إيقاف مساعدات مالية ودعم مشاريع إنسانية (مستشفى المقاصد في القدس مثلا). وعانت السلطة الفلسطينية من عجز وصل 400 مليون دولار العام الماضي (10٪ من الموازنة العامة) بينما ارتفعت نسبة البطالة بين الفلسطينيين الى 52٪ هذا العام بينما يناهز العجز المالي المتوقع المليار دولار. وتظل السلطة في موقع المشلول، فلا يرفض كل القادة الفلسطينيون الوضع القائم، فقد استفاد كثيرون منهم في “فتح” هم وعائلاتهم مادياً وسياسياًَ من ترتيبات أوسلو على مدى ربع قرن من ناحية، ولكنهم عاجزون عن حلحلة الوضع منذ أعوام طويلة، راوحت فيها السلطة مكانها، محاصرةً باتهامات الفساد وانعدام الكفاءة والعجز، او عدم الرغبة في إيجاد تسوية مع حركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، ناهيك عن ابتكار حل او سبيل مقاومة، يلهم خيال الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة وفي الشتات.
وربما لم يبتعد كوشنر كثيراً عن الحقيقة عندما قال، ان الفلسطيني العادي فقد الثقة في كل من حوله “فلا ثقة كبيرة لديه في حكومته او البلدان العربية المجاورة او اسرائيل او اميركا، فقد كذبت اطراف كثيرة عليهم لوقت طويل وهم الآن لا يعرفون من وماذا يصدقون.”
ويساعد كوشنر في عمله كل من جاسون غرينبلات وديفيد فريدمان، وثلاثتهم ليسوا يهوداً فحسب – وهذا أمر يخصهم -وليسوا يهوداً ارثوذوكس فحسب – وهذا أيضاً امر يخصهم – وليست ابنة آخرهم (فريدمان) اسرائيلية الجنسية – وهذا أمر يخصها – ولكنهم جميعاً مؤيدون لليمين الاسرائيلي، ولحق اسرائيل في التوسع الى درجة تزعج حتى بعض مسؤولي الامن والسياسيين الإسرائيليين.
ولا يهتم كوشنر بالخبراء والمفاوضين السابقين، ويدعي انهم جزء من المشكلة، وأن لا شيء لديهم يقدمونه بعد أن فشلوا في إدارة الملف والوصول الى حل. وقال كوشنر إنه يفضل الحديث الى الشعوب مباشرة، وليس الى المفاوضين والخبراء، ولذا عقد اجتماعات عديدة ومكوكية في بلدان عدة في الشرق الاوسط، وان كان في الحقيقة قد ركز في رحلاته على عاصمتين في الخليج العربي إضافة الى إسرائيل.
وفي قاعة اجتماعات صغيرة في مؤتمر عقده مركز أبحاث في أوروبا الصيف الماضي، دخل جنرال اسرائيلي متقاعد في جدل مع مسؤول اميركي مقرب لهذا الفريق. وقال الجنرال والوزير السابق: الخطوات الممهدة لصفقة القرن وخاصة العقوبات على السلطة الفلسطينية، تشمل إجراءات مضرة لأمن إسرائيل، مثل إيقاف تدريب قوات الأمن الفلسطينية. فنظر إليه المسؤول الأميركي الذي لم يعمل أبداً في الشرق الاوسط، حتى جلبوه من مكتب محاماة وجعلوه عضواً في هذا الفريق المهم، وقال: “نحن نعرف أمن إسرائيل وندافع عنه.” المصدر الذي حضر المواجهة قال لي أنه سأل الجنرال الإسرائيلي عن شعوره بعد الاجتماع، فقال الرجل السبعيني بغضب واضح: “كل هذا نتيجة التحالف غير المقدس مع المسيحيين المتطرفين في أمريكا.”
من المفارقات المرعبة ان ترى كيف أن اليمين الاسرائيلي القديم (العسكري المتغطرس قليلاً ولكن العارف بالسياسيين العرب والذي قاتل وقتل العرب او عقد صفقات معهم وجهاً لوجه) اكثر روية وحذراً، من اليمين المسيحي واليهودي الاميركي، واكثر استعداداً لتمييع الوضع القائم مع الفلسطينيين، وترك الامور تسير على عواهنها، بينما اليمين الجديد او الانتهازي المغرق في غروره ،والقادم من اروقة شركات المحاماة والمال والعلاقات العامة والبيزنس في اميركا واسرائيل، فهو يسير في طريقه قدماً ك”بلدوزر” ضخم وبطىء وبليد، يقوده مهندس ملّ من تعقيدات حي عشوائي، وقرر أن تسويته بالأرض قد تكون بداية طيبة.