نُشر في درج يوم ٢٩ يناير ٢٠٢٠
قاطع تصفيق شديد الرئيس دونالد ترامب أكثر من مرة وهو يلقي الخطوط الأساسية لعرض أميركي لحل المعضلة الفلسطينية، وقاطع هو خطابه بنفسه أكثر من مرة لينظر بابتسامة عريضة إلى ضيفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وهو يربت على كتفه أو يشد على يده، كأنهما أحرزا هدفاً للتو في مباراة كرة سلة. رئيس تتم محاكمته بعدما اتهمه برلمان بلاده بإساءة استغلال السلطة، يعلن صفقة، سماها هو وصهره جاريد كوشنر الذي وضع تفاصيل الخطة مع الإسرائيليين، “صفقة القرن” بسبب غروره الفائق والولع الأميركي بالتسويق الفج. وبجواره وقف رئيس وزراء ينتظر محاكمته بعدما اتهمه قضاء بلاده بالفساد وتلقي الرشوة!
ليس الأمر تفاخراً أخلاقياً ضد سياسيين منحطين يمثلون دولاً قوية ولا يتورعون عن العمل من أجل المزيد من الحرمان والإذلال بحق الشعب الفلسطيني بأكمله، لأنهم ببساطة قادرون على هذا. ومثلهم في هذا مثل سياسيين كثر في منطقتنا لم تعد لغة الحق والتاريخ تعنيهم في شيء، بل إنه وضع أسوأ بين العرب، فمن في تلك المنطقة الملعونة لم يسمع أو يرَ عدداً متزايداً من الساسة والنخب (من رجال أعمال وأساتذة جامعات وصحافيين) يتغاضون عن (أو يؤيدون) سياسات تخنق اللاجئين أو المسافرين الفلسطينيين وتضيق عليهم في التعليم والطبابة والتنقل والعمل حتى بات بعض أهل غزة يقول أحياناً إن الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي أرحم من الإهانة المتدفقة من الأشقاء العرب، القريب منهم قبل البعيد؟
من منّا مندهش اليوم من هذا الصمت العربي الرسمي ومن هذا الصمت العربي الشعبي ومن هذا العجز (بمعنى انعدام القدرة وبمعنى الخرف والشيخوخة) وسط السلطة الفلسطينية التي باتت في واقع الأمر وكيلة لنظام التفرقة العنصرية الصهيوني
“على الأقل، هذا الإسرائيلي عدوي وأعرف لماذا يحقرني ويهينني، ولكن لماذا ألقى كل هذه المذلة على حدودنا التي هي أسوار سجن أو في مطارات العرب”، يشكو لي صديق فلسطيني أسعفه الحظ بالخروج منذ سنوات من سجن غزة الذي يضم مليوني شخص في أقل من 370 كلم مربعاً، وتحاصره إسرائيل بالكامل براً وبحراً وجواً، وهو شبه مغلق من جهة مصر.
من منّا لا يرى كيف صارت شعوب المنطقة بمعظمها في العقدين الماضيين غير مبالية بالمصير الفلسطيني، فقد يهب الإسلاميون مثلاً للدفاع عن الأقصى أو الدفاع عن المسلمين الفلسطينيين، وقد يهب القوميون العرب الموشكون على الانقراض من أجل نصرة الحق العربي، ولكن الفصيل الأعظم غير مبالٍ في حقيقة الأمر. وفي الواقع، بات الواحد لا يعرف ماذا يفعل بدعم محام مصري شهير يسب ترامب بينما لا يجرؤ على انتقاد حكومته التي دعت الفلسطينيين إلى مناقشة عرض ترامب، ولا يعرف ما فائدة خطبة شيخ كبير يوحي علناً بأن اليهود يسيطرون على الأميركيين، ويستولون على الأقصى، بينما لا يفتح فمه بشأن علاقات “البيزنس” والتعاون الأمني بين بلاده وبين إسرائيل. والأكثر إيلاماً هو أن قطيعة تاريخية باتت تتشكل بين الجيل الأصغر سناً من الشباب، وبين ما كنا ندعي أنه قضية العرب المحورية، وربما تقوم هذه القطيعة مع ابتعاد متزايد من الايدولوجيات العربية والإسلاموية واهتمام أوضح بالخلاص الوطني إن لم يكن بالمصير الفردي (من طريق الفرار والهجرة).
أما الأنظمة الخليجية فقطعت شوطاً أبعد بكثير بسبب تطابق وجهات نظر معظمها مع إسرائيل حيال إيران. إنها أنظمة تحتاج الحليف الإسرائيلي بينما ليس لدى الفلسطينيين ما يفيدهم: ليس لديهم عداء مشترك ضد طهران (بل تعتمد حماس على دعم إيراني)، ليس لديهم أذن واشنطن تنصت اليهم وتفتح أبواباً لحكومات عربية عدة، فوق تل الكابيتول وداخل أروقة البيت الأبيض، ليست لديهم برامج تنصُّت لتُباع لدول عربية تتنصت على معارضيها. ليس في الحقيقة لدى الفلسطينيين ما يمنحونه مادياً لدول الخليج ولم تعد المسائل المعنوية والأيديولوجية تعني الكثير سوى للقليل من الناس هناك.
ولذا كان طبيعياً أن يجلس سفراء الإمارات والبحرين وعمان في صالة، لخّص ترامب لجمهورها عناصر صفقة القرن الرئيسية: القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، ستضم إسرائيل معظم الكتل الاستيطانية المهمة في الضفة الغربية، أو نحو 60 من 75 مستوطنة حيث يعيش قرابة نصف مليون مستوطن يهودي على أراض فلسطينية، احتلتها إسرائيل عام 1967، ستفرض إسرائيل سيادتها على المنطقة الحدودية مع الأردن أو نحو 30 في المئة من مساحة الضفة، الخ. وماذا عن الفلسطينيين؟ ستُبنى أنفاق أو طرق تصل بين مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية وبين الضفة وغزة، ثم تشيد طرق أخرى معلقة أو مدفونة تصل بين هذه السجون مقطعة الأوصال وبين الأردن، وستدعو واشنطن دول الخليج وأوروبا إلى تقديم بين 50 إلى 70 مليار دولار، لتشييد هذه البنية التحتية وخلق مناطق صناعية ووظائف وتنشيط اقتصادي لخمسة ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
فما الذي سيجذب الفلسطيني إلى صفقة القرن اليوم؟ العلاج المقدم لا يعالج المرض القائم. لا شيء هناك لتقبله السلطة الفلسطينية، على رغم أنها “عملية” و”واقعية”، لا شيء حقيقة سوى شرعنة الأمر الواقع
لطالما تكررت الجملة الوضيعة: “العرب لا يضيعون فرصة لتضييع الفرص”، وهي منسوبة إلى سياسي إسرائيلي وهو يعدد محطات النزاع التي عُرض فيها حل. والآن، قال ترامب إن صفقته هذه هي الفرصة الأخيرة المتاحة للفلسطينيين. ما الذي سيحدث لهم لو لم يقبلوها؟ لا يوجد فارق حقيقة بين ما عرضه ترامب وما يعيشه معظم الفلسطينيين منذ سنوات. هناك فارق ما بالنسبة إلى الإسرائيليين، وهو شرعنة الوضع القائم وقوننته، كما أوضح نتانياهو في مؤتمره الصحافي مع ترامب، عندما قال إنه لم يعد من المقبول أن يقول أحد إن “يهودا والسامرة” أرض محتلة. هو لا شك نصر تجميلي لدولة ونظام اعتادا على العيش فوق القانون الدولي. وفي الوقت نفسه، تقوم إسرائيل يومياً بخلق حقائق جديدة على الأرض وفي قواعد عيش الفلسطينيين: مستوطنة جديدة هنا، إغلاق مؤسسات فلسطينية هناك، تشديد حصار هنا، تضييق على الاونروا هناك، وهكذا، حتى تصبح تلك الممارسات واقعاً، ينسى الناس ما كان قبله أو يتمنون الواقع السابق الذي كان سيئاً في حينه.
ما هو الأسوأ الذي يمكن أن يحدث للفلسطينيين لو رفضوا خطة لا تفعل شيئاً سوى أنها تجعل حياتهم القائمة “شرعية” ومأساتهم الراهنة “قانونية”، مع إضافة علم فلسطيني يمكنهم أن يضعوه على خوازيق في تلك المساحات المتقطعة من الأراضي التي توضحها الخريطة المقترحة لـ”الدولة الفلسطينية” في واحدة من الصفحات الثلاثين، التي تضم الجانب السياسي للمشروع الأميركي للسلام؟ سيخسرون “دولة” محتملة يعيشون فيها تحيط بهم إسرائيل وأجهزتها من كل جانب ومن البحر والجو وعبر شبكات الهواتف ونظم التنصت المتقدمة وتنوب عنها في حكمهم سلطات محلية ثبت أنها متعاونة أو متواطئة؟ ولكن أليس هذا ما يعيشون فيه الآن؟ ماذا سيحدث لهم لو رفضوا؟ ضغط أكثر من إسرائيل في الأغلب سيعاني منه سكان الضفة خصوصاً، ولا سيما الطبقات الأغنى والأكثر قدرة على الحركة والتجارة والتعايش وكذلك الأجهزة الأمنية والإدارات البيروقراطية للسلطة الفلسطينية. وهذا أمر لا يجب الاستخفاف به، إذ إن قطاعاً لا يستهان به من الفلسطينيين في الضفة بات معتمداً على هذه المؤسسات في الحياة اليومية.
من منّا مندهش اليوم من هذا الصمت العربي الرسمي ومن هذا الصمت العربي الشعبي ومن هذا العجز (بمعنى انعدام القدرة وبمعنى الخرف والشيخوخة) وسط السلطة الفلسطينية التي باتت في واقع الأمر وكيلة لنظام التفرقة العنصرية الصهيوني في الضفة الغربية ولا مبالية إزاء ما يحدث في غزة؟ علماً أن هذه السلطة الفلسطينية يتلخص دورها في الحفاظ على الضبط والربط لنحو ثلاثة ملايين فلسطيني، تشغل عشرات الآلاف منهم في أجهزتها البيروقراطية وتحصل على ضرائب ممن تستطيع وتتفضل عليها إسرائيل بجمارك الواردات الفلسطينية. (وهي ضرائب بشكل ما على الفلسطينيين المقيمين في تلك السجون المفتوحة في أي حال، ولكن إسرائيل هي التي تحصلها كون السلطة الفلسطينية لا تسيطر على أي معابر حدودية). وليست إدارة “حماس” في قطاع غزة الأفضل حالاً وحوكمةً في إدارة شؤون الناس المعيشية، فبفشلها السياسي المريع لم يعد الواحد يفهم كيف تبرر لنفسها بقاءها في مقاعد الحكم سوى من طريق أيديولوجيتها الإسلامية، وبأن “يد الله فوق أيديهم”.
عندما أعلن كوشنر الجانب الاقتصادي من هذه الخطة في البحرين منتصف العام الماضي، ركز على تأمين وعود بمليارات الدولارات من دول الخليج العربية، لخلق مشاريع صناعية وسياحية وتشغيلية في الأردن ومصر والسعودية، يعمل فيها فلسطينيون. يعتقد كوشنر وترامب أنهما إذا قدّما فرص عمل ومشاريع تنمية ضخمة للفلسطينيين، فسيتوقف هؤلاء عن المطالبة بالمساواة أمام القانون مع الإسرائيليين اليهود الذين يعيشون في مستوطنات تطل عليهم وتراقبهم من أعلى تلال الضفة. على مدى عشرات السنين حوَّل الفلسطينيون عشرات مليارات الدولارات لأهاليهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة من دول خليجية يعملون فيها، ولكنها ظلت أموالاً هشة لا تضمن أي مستقبل، ويمكن أن تنهار معها حياة الفلسطينيين سريعاً بسبب غياب حقوقهم السياسية سواء في أرض لهم وبلد يعودون إليه أو في بلدان الشتات.
فما الذي سيجذب الفلسطيني إلى صفقة القرن اليوم؟ العلاج المقدم لا يعالج المرض القائم. لا شيء هناك لتقبله السلطة الفلسطينية، على رغم أنها “عملية” و”واقعية”، لا شيء حقيقة سوى شرعنة الأمر الواقع وتخفيف أعباء الاحتلال الإسرائيلي، بيد أن نخباً فلسطينية قد تخسر نفوذاً وسلطة ومالاً إذا رفضت. مأساة النخبة الفلسطينية المسيطرة حالياً، تتمثل بالعجز عن التفكير في العرض وتسويق خطط سياسية بديلة، وهي مأساة تجلت نتائجها في هذا السجن الكبير المدعو غزة، ومأساة يمكن أن تتكرر في سجون عدة مسورة في الضفة، بات المجتمع الدولي يقبلها أكثر من أي وقت مضى وباتت القوى الإقليمية العربية ودول الجوار على استعداد للتعايش معها بل وتحمل نفقات إدارتها!
إشكالية الوضع الفلسطيني ليست في الأرض وحق السيطرة عليها والعودة إليها (وهي كلها ليست إغراءات معروضة على الفلسطينيين في صفقة القرن التي تسعى صراحة إلى تصفية وضع اللاجئين الفلسطينيين تماماً وشطب حق العودة)، لكنها في وضع الفلسطيني ذاته وحقوقه وأولها الحق في أن يكون مواطناً على قدم المساواة في كيان سياسي حقيقي، وليس في معازل مسوّرة مرتبطة بجسور وأنفاق، تعتمد على تحويلات مالية من الخارج ومعسكرات عمل تنقل حافلات الشباب الفلسطينيين إليها في الصباح وتعيدهم في المساء إلى زنازينهم التي يمكن ساعتها أن ترفرف فوقها أعلام فلسطينية ويحرسها جنود فلسطينيون ويمر في طرقها موكب “الرئيس” الفلسطيني.