(نُشرت في موقع درج في ٩ يونيو ٢٠١٩)
في 26 حزيران/ يونيو، من المقرر أن تنعقد في البحرين ورشة عمل اقتصادية يشرف على تنظيمها جاريد كوشنر، المسؤول عن عملية السلام في البيت الأبيض وزوج ابنة الرئيس ترامب، ومن المتوقع أن يُكشف النقاب عن تفاصيل أكثر لما بات يُعرف بـ”صفقة القرن” أو مبادرة ترامب للسلام في الشرق الأوسط.
لم يمارس ترامب أو كوشنر السياسة ولم يقوما بمفاوضات سياسية محلياً أو دولياً، حتى تولي الأول منصب الرئاسة في أوائل عام 2017. ولكنهما ماهران للغاية في عقد صفقات مالية وعقارية عادت عليهما بمليارات الدولارات. ووفق تسريبات متعددة، تظل غير مؤكدة، يشمل الجزء الاقتصادي من هذه الصفقة الغامضة، إنفاق قرابة 70 مليار دولار معظمها من دول الخليج العربية، لخلق مشاريع صناعية وسياحية وتشغيلية في الأردن ومصر والسعودية، يعمل فيها فلسطينيون يقومون بتحويل أموالهم إلى الضفة الغربية وغزة. وربما يعتقد الرجلان أنهما إذا قدّما فرص عمل ومشاريع تنمية ضخمة للفلسطينيين، فسيتوقف هؤلاء عن المطالبة بحقوقهم في تقرير المصير والعودة وحرية التنظيم والتعبير والتنقل، الخ. وينتقد رجل الأعمال الفلسطيني زاهي خوري هذه المقاربة الساذجة حتى من المنظور الرأسمالي. ويقول خوري الذي يملك فروع شركة “كوكاكولا” في المناطق الفلسطينية المحتلة، إن ما يبدو من صفقة القرن يجعلها تشبه بوضوح “رشوة” أو “مكافأة نهاية خدمة”، وما يُعرَض في ظل الاحتلال الإسرائيلي هو أشبه بعرض لطلاء أظافر امرأة اثناء خنقها.
والمشكلة الرئيسية في تلك الصفقة المزعومة أن الفلسطينيين جربوا حلاً مشابهاً من قبل، وفشل بوضوح.
يشمل الجزء الاقتصادي من هذه الصفقة الغامضة، إنفاق قرابة 70 مليار دولار معظمها من دول الخليج العربية، لخلق مشاريع صناعية وسياحية وتشغيلية في الأردن ومصر والسعودية
فقد حصل الفلسطينيون على عشرات مليارات الدولارات مباشرة من عرق أجبنهم ومن عملهم في دول الخليج منذ الخمسينات. ولكنها ظلت أموالاً هشة لا تضمن أي مستقبل، ويمكن أن تنهار معها حياة الفلسطينيين سريعاً بسبب غياب حقوقهم السياسية سواء في أرض وبلد يعودون إليه أو في بلدان الشتات.
لنأخذ الكويت مثلاً.
ذهب الفلسطينيون للعمل في الكويت منذ نهاية الثلاثينات وتضاعفت الأعداد بسرعة، حتى صار هناك نحو 380 ألف فلسطيني هناك، في آب/ أغسطس 1990، عندما غزت قوات صدام حسين البلاد. وقبيل الغزو تراوحت تحويلات الفلسطينيين المالية لعائلاتهم بين ٨٠ و١٥٠ مليون دولار سنوياً، إضافة إلى ما كانوا ينفقونه داخل الكويت. وكان للمغتربين الفلسطينيين العاملين في الكويت موقعٌ اجتماعيّ قويّ في المشهد الفلسطيني، ومنه خرج أعضاء بارزون في منظمة التحرير الفلسطينية في مقدمهم ياسر عرفات نفسه. كما سمحت الكويت لمنظمة التحرير بفرض ضريبة 5 في المئة على دخول الفلسطينيين العاملين فيها، لتمويل أنشطة المنظمة. ولكن بين يوم وليلة غزا صدام حسين الكويت، وتضاءل هذا الوجود الاجتماعي الاقتصادي، ثم تبخر في الشهور التالية لغزو العراق وانتهى تقريباً بعد تحرير الكويت، حتى وصل العدد إلى قرابة 30 ألف فلسطيني عام 1994. وكل هذا لأن القيادة الفلسطينية في فتح، اتخذت موقفاً مؤيداً للديكتاتور العراقي أثناء غزوه الكويت، ما أغضب – عن حق – معظم الكويتيين، فصبوا نقمتهم على الفلسطينيين. ولكن نقطة الضعف المحورية التي لم ينتبه إليها فلسطينيون، كثيرون منهم وُلدوا في الكويت أو عاشوا فيها طويلاً، هو أنه لم يكن للفلسطيني أساساً حق في التعبير عن رأيه أو حق في التنظيم. في الواقع، لم يكن لدى بشر عاشوا عشرات السنين في ذلك البلد أي حق سياسي، كما أن حقوقهم القانونية كانت منقوصة. وكان إبداء الرأي المخالف حتى من منظمة أو كيان يدعي تمثيل الفلسطينيين، يمكن أن يعرض أي فلسطيني كما حدث، للطرد والنفي.
وهكذا تنفضح هشاشة الترتيبات الاقتصادية طالما لم تصاحبها حقوق سياسية (كانت مستحيلة في حالة الكويت، وليست على الطاولة مبدئياً في حالة “صفقة القرن”).
فما الذي سيجذب الفلسطيني لخطط وضعها كوشنر ومساعده جاسون غرينبلات (محامي العقارات عديم الخبرة السياسية)، في مئات الصفحات وفيها – وفق مصادر غير مؤكدة – مشاريع صناعية وسياحية ضخمة في صحاري سيناء والسعودية والأردن. هل لأن الفلسطينيين سيتمكنون من مساعدة أنفسهم وعائلاتهم مادياً بشكل أفضل؟ ربما. وربما تجبر الظروف الخانقة للغاية تحت الاحتلال والحصار الإسرائيلي آلاف الفلسطينيين على قبول فرص مثل هذه – لو تبلورت وصارت واقعاً – ولكن حتى هذا لن يحل القضية، بل في الأغلب سيوسع نطاق المشكلة لبلدان أخرى وقد بدأ التوتر يتصاعد بالفعل في الأردن، صاحب التركيبة الدقيقة المسكوت عنها بين عشائر شرق الضفة والعائلات الفلسطينية في غربها.
أوضاع الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية في الضفة وإدارة حماس في قطاع غزة في وضع سيئ للغاية. تعدت البطالة في غزة 55 في المئة هذا العام، بينما تصل إلى 20 في المئة في الضفة الغربية. بلغت نسبة الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي في غزة 8 في المئة عام 2018، ولم يزد نموه عن 2 في المئة في الضفة الغربية. ويقوم اقتصاد المنطقتين على التحويلات المالية (للسلطة الفلسطينية والأفراد) من إسرائيل ومن الخارج وعلى المساعدات الإنسانية، وبخاصة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وتصاعد الضغط المالي مع قرار إسرائيلي باحتجاز 6 في المئة من عائدات التخليص أو نحو 140 مليون دولار. وعائدات التخليص، هي ضرائب ورسوم جمركية تحصلها إسرائيل لمصلحة السلطة الفلسطينية، وتصل لقرابة 2.4 مليار دولار سنوياً، أو نحو 15 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للمناطق الفلسطينية المحتلة. تمثل تلك العائدات 65 في المئة من إجمالي إيرادات السلطة الفلسطينية. ولذا لم تسدد السلطة أكثر من 60 في المئة من رواتب موظفيها منذ شهر شباط/ فبراير الماضي. ومع تقاعس الدول العربية عن دعم استمرار ما يعرف بـ”شبكة الأمان العربية”، والتي يُفترض أن تقدم 100 مليون دولار شهرياً للسلطة الفلسطينية، وصلت ديون السلطة إلى حد مقلق (نحو 4.25 مليار دولار)، واقتربت إجراءاتها التقشفية لخفض الإنفاق إلى حد خطر يهدد معه الأنشطة الاقتصادية المهمة ذاتها، ما سيرفع نسب البطالة والفقر المرتفعة أصلاً. هكذا بات خيار المناورة أمام الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية محدوداً.
وفي الوقت نفسه، ينخفض تمويل “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينية” (اونروا)، بعدما قررت واشنطن تعليق مساهمتها وكانت 364 مليون دولار، أو أكثر من ثلث موازنة الاونروا في 2017، وانخفضت الى 60 مليون دولار عام 2018، ولا شيء عام 2019.
وحتى لو تراجعت إسرائيل عن الاستيلاء على عائدات التخليص وحولتها كاملة إلى السلطة، ستظل مشكلات السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني قائمة، لأنها نتيجة أوضاع ترتبت على الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة الغربية. تمارس الأجهزة الإسرائيلية والجيش، سيطرة كاملة على كل مناحي الاقتصاد وتعوق حرية تنقل الفلسطينيين وبضائعهم وتسيطر على مواردهم، بما فيها القدرة على ممارسة التجارة عبر الحدود البرية أو البحرية. الاحتلال وترتيبات أوسلو، ساقت الاقتصاد إلى وضعه المزري حالياً، والذي لن يتحسن سوى وقتياً في حال ضُخت فيه مليارات الدولارات.
الفقر والبطالة وورطة السلطة الفلسطينية كلها تحديات عويصة، ولكنها تظل أعراضاً للمرض المستفحل الذي لا تقترب منه صفقة القرن: الاحتلال الإسرائيلي الذي باتت مواجهته صعبة، لأن الخيارات تختفي واحدة وراء الأخرى.
مع تقاعس الدول العربية عن دعم استمرار ما يعرف بـ”شبكة الأمان العربية”، وصلت ديون السلطة إلى حد مقلق (نحو 4.25 مليار دولار)
أقر كوشنر عندما كشف الستار عن جانب ضئيل من هذه الصفقة الباهتة، بأنها تتعلق بتسهيل حياة الفلسطينيين اقتصاديا. وقال: “بدأنا رؤية اقتصادية للمنطقة… سألنا عن ماهية مشكلة الفلسطينيين الاقتصادية… ووضعنا خطة أعمال بعدما درسنا ما تقوم به بولندا وسنغافورة واليابان وأوكرانيا وكوريا الجنوبية… وهناك فارق عظيم بين الخبراء والمفاوضين ومراكز الأبحاث وبين الشعوب التي تريد أن تعيش… وأن يدفعوا أقساط مساكنهم وأن يتعلم أطفالهم. إسرائيل تريد الأمن والكل يريد الكرامة”.
وهكذا فهدف ورشة عمل البحرين، في الأغلب، هو ضمان تعهدات تمويل مبدئية من الخليج وبخاصة السعودية والإمارات، تغطي معظم الـ68 مليار دولار، من أجل هذه الصفقة وفقاً لتسريبات من واشنطن. ويبدو حتى الآن أن النتيجة الفعلية شبه المؤكدة هي إعلان وفاة حل الدولتين لشعبين، وتكريس الأمر الواقع بصورة تمنح “بعض الأمل” للفلسطينيين، بأنهم سيظلون بشراً فائضين عن حاجة دول المنطقة والعالم، ولكن مع تحسين ظروف حياتهم المتدهورة للغاية. ستظل هناك إدارتان فلسطينيتان (إحداهما مشاغبة في غزة)، تسيطران على مجموعة أحياء عشوائية وأحياء ميسورة أو “راقية” للنخبة، فيما مخازن عمال وفائض بشري، يعيشون على مساعدات وتحويلات وبيروقراطية وكلاء إسرائيل وكل هذا محاط بحرس فلسطيني تحت عين الجيش الإسرائيلي.
وكما قال ديفيد ارون ميللر نائب كبير المفاوضين الأميركيين لسنوات عدة في الشرق الأوسط، فإنه حتى لو افترضنا أن تلك الصفقة التي لا نعرف تفاصيلها نجحت في تحسين أحوال الفلسطينيين المعيشية، فلن يؤدي هذا إلى اقتصاد فلسطيني مستدام، لأن “الاقتصاد لا يمكنه إلغاء السياسة… وأي اقتصاد منتعش يساهم بحق في حركة الناس والبضائع يتطلب وجود الأمن والقدرة على توقع التطورات والشفافية وحرية حركة الناس والأموال وقبلها كلها، دعم من المؤسسات السياسية القائمة. ولا يمكن لمثل هذا الاقتصاد أن يقوم في ميدان ضرب نار كما هي الحال في غزة أو في منطقة (يُقال إنها فلسطينية)، بينما تسيطر إسرائيل على 60 في المئة منها، وتواجه السلطة الفلسطينية المسيطرة على الـ40 في المئة الباقية، قيوداً سياسية واقتصادية جدية. لماذا قد يرغب مستثمرون جادون في جلب أموالهم إلى غزة أو الضفة الغربية، من دون ضمانات استقرار وأمن في المنطقة، وضمانات لتحرك الناس والبضائع من دون عوائق؟ لماذا سيأتون من دون فهم أوضح حول من يتولى السلطة على الأرض والمياه وسياسات التنمية؟
ببساطة، فشلت صفقة القرن حتى قبل أن نعرف تفاصيلها، وستولد ميتة في الأغلب لأنها تفترض القدرة على معالجة مرض لم تشخصه بصورة صحيحة. إشكالية الوضع الفلسطيني ليست في الأرض وحق السيطرة عليها والعودة لها فحسب، لكنها في وضع الفلسطيني ذاته وحقوقه وأولها الحق في أن يكون مواطناً في دولة حديثة، تضمن له المساواة أمام القانون. هذا تقريباً شرط الحد الأدنى للوجود في العصر الحديث ومن دونه يبقى الفلسطينيون عراة من أي حماية قانونية ذات مغزى تحت نيران إسرائيل وقوى السوق والفساد والتطرف الديني. يمكن أن تملك ملايين الدولارات كفلسطيني، ولكنها لن تمنحك الحق القانوني في دخول فلسطين من مطار اللد أو السير على طريق جيد معبد في الضفة الغربية، أو زيارة بيت جدك في يافا، كما ستظل عرضة لمصادرة أموالك وأملاكك وهدمها وطردك من بيتك في أي لحظة، أي لحظة. أي صفقة هذه وأي قرن!
النداء
مقال تفصيلي جدا رااائع شكرا لك