(منشور في مدى مصر بتاريخ ٣٠ اكتوبر ٢٠١٦ – الاصل بالانجليزية وترجم للعربية أحمد شافعي)
سويعات قليلة فقط قضيتها في متحف ستازي في شرق برلين، صرت بعدها أكثر فهمًا لنزوع الدولة المصرية وأجهزتها الأمنية إلى حماية أنفسها. هنالك في مكاتب ستازي المقبضة المصممة على الطراز السوفييتي (وستازي هي وزارة أمن الدولة في ألمانيا الشرقية السابقة) تذكرت مكتبًا آخر تعرضت فيه للمذلة قبل 25سنة. كان مدير تحرير وكالة الأنباء المملوكة للدولة جالسًا مرتديًا بذلة رمادية نمطية من ثلاث قطع وربطة عنق حمراء وراء مكتب ضخم لا كتاب عليه ولا ورقة. بدا على وجهه ضيق سافر وهو ينظر إليّ، وبدلا من “تفضل اقعد” المعتادة قال في برود: “أهكذا تتصرف أمام أبيك؟” فاندهشت ولم أدر ماذا يعني. ولما رأى الرجل حيرتي صاح “طلّع يدك من جيبك. واحلق شعرك حلاقة مناسبة لهذه المؤسسة المحترمة“. وجدت نفسي بين الصدمة والتشكك وقاومت الضحك أو الانفجار في وجهه. فما فصل بيننا لم يكن مجرد سلطته المطلقة على صحفي متدرب شاب يسهل فصله، لكن لعل أهم ما كان يفصل بيننا هي فجوة لا عبور لها في رؤية كل منا للعالم.
ما يتبقى من هذه الواقعة بعد قرابة 25 سنة هو السؤال عن السبب الذي يجعل (أو ربما خير منه السؤال عن الكيفية التي تجعل) اختلافات بسيطة في المظهر (وكان أغلب الشباب قصيري الشعر في مصر آنذاك) تشكل إهانة لرجل كذلك. لقد كان الغضب باديًا عليه بوضوح. فما الذي جعله ـ وجعل رجالًا كثيرين من أمثاله في مواقع السلطة ـ يرتبك ويهتز أمام آخرين ـ هم في العادة شباب وشابات أصغر منه في السن ـ ممن يتعاملون مع أجسادهم بطريقة مختلفة أو يكتبون بأسلوب غير مقبول. ما الذي يجعل مثل هذا إهانة، أو حتى عدوانًا شخصيًا أو تهديدًا لأمن الدولة، فيفضي إلى ردود فعل قاسية وقيود ممأسسة على حرية التعبير؟
وضع المرء يديه في جيبيه أمام من هو أكبر منه مقامًا قد ينم عن مستوى من الاسترخاء وانعدام الخوف غير مقبول في مجتمع تراتبي (هيراركي)، بينما إطالة المرء شعره قد تبدو في نظر البعض من مظاهر الخنوثة. قد يفسر هذا ملاحظات مديري السابق، لكن ما سر مستوى الغضب السافر؟
كانت في وزارة أمن الدولة الألمانية إدارة مختصة بالسلوك والرياضات والفنون والثقافة.وكان مسؤولو الأمن في ألمانيا الشرقية يعتقدون ـ وفقًا لما يقول المؤرخون ـ أن بلدهم معرض دائمًا وأبدًا لتهديد من أعداء خارجيين، وأن أولئك الأعداء يستعملون أدوات من قبيل “الآراء النقدية، وأنماط الحياة غير المعهودة، والسلوك المعارض” للدولة. وكان عمل مسؤولي الوزارة هو العثور على هذه العناصر والاطمئنان إلى عدم تسببها في أذى. وثمة دليل دراسي كتبه أحد ضباط الوزارة بعنوان “سياسات تأمين الشباب” يوجز هذا التهديد في “السلوك الفظ، وقَصَّات الشعر وأساليب اللبس الحديثة … والأدب التافه … وفرق موسيقى الروك ميتال … والإنتاج المستقل للأفكار السلبية العدائية على شكل اسكتشات سياسية وأغنيات وشعارات وهتافات“.
من يتابعون مصر على مدار السنوات العشرين الماضية، وفي الفترة التالية لـ 25 يناير2011 على وجه الخصوص، يرون كيف تجري ملاحقة مثل هذه “التهديدات” ومعاقبة مرتكبيها على أيدي الشرطة والنيابة. ويبدو أن وزارة أمن الدولة الألمانية وأجهزة الأمن المصرية تخاف السبب نفسه: أي الربيع، حيث كانت وزارة الأمن الألمانية تخاف استشراء ربيع براج 1968 في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وكان ذلك يعني في تصورهم أن“العدو كامن في كل مكان“. ولما كان من الصعب في نهاية المطاف أن تُفرض الرقابة على جميع الشباب الذين قد يقصرون شعورهم أو يصبغونه بالوردي أو يغنون الروك أو يستعملون لغة مبتذلة فقد ارتفع عدد “مراقبي المجتمع” أو العاملين في جهاز ستازي من2700 في أواخر خمسينيات القرن الماضي إلى قرابة 100000 شخصًا بحلول عام 1989حينما انهارت الدولة التي كانوا يعملون من أجل حمايتها من هذه الأخطار المدعاة.
في السنوات الخمس التالية لاضطرابات 2011، استعملت مصر القانون في إنهاك واعتقال وإصدار أحكام بالسجن القاسي على كتاب ومدونين وشخصيات اشتهرت في وسائل الإعلام الاجتماعي وصحفيين ومنتمين إلى أقليات دينية وجنسية، وكثير غير أولئك ممن عبروا عن رؤى مختلفة عما تراه النخبة الحاكمة لمصالح الدولة وأطرها الاجتماعية والسياسية والدينية والأبوية السائدة (والمتآكلة بسرعة، بل المنهارة). هذا الموقف القمعي الذي يحظى بحماية من الشرطة والإعلام والقضاء والمؤسسات الدينية يزداد قسوة وعنفًا في الوقت الذي تتغير فيه أنظمة المجتمع الأخلاقية والقيمية.
جهاز الدولة البيروقراطي ـ لا سيما في الأجهزة الأمنية والمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة والأزهر والكنيسة القبطية ـ يوظف جملة من الأدوات للسيطرة على الفضاء العام، وكذلك على ما يقال فيه، وما يرتديه الناس من ملابس، وما يعرض فيه من أعمال فنية أو إبداعية، انطلاقًا من رؤية مدافعة عن الطبيعة المحافظة والأبوية في نمط السلوك الذي يخرج عليه عدد متزايد من الناس في مصر اليوم، لا سيما من الأجيال الأحدث.
وتبيِّن وقائع عديدة حديثة مساعي الدولة المتهافتة للسيطرة على حرية التعبير في مصر، فقد حكم على الروائي أحمد ناجي بالسجن لعامين في مطلع 2016 لخروجه عن “الأخلاق العامة” بعدما نشر فصلًا من رواياته في مجلة أسبوعية أدبية.
كما قضت محكمة عسكرية في أواخر 2015 بسجن عمرو نوهان ـ الذي كان يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية ـ ثلاث سنوات لتركيبه أذني ميكي ماوس على صورة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث اتهم نوهان بمحاولة قلب نظام الحكم.
أما المراهقون المسيحيون الذين حكم عليهم بالسجن في فبراير 2016 فكان ذلك لإنتاجهم فيديو مدته 32 ثانية يسخرون فيه من الدولة الإسلامية ويظهرون فيه أعضاءها وهم يصلون ويأخذون أحد رهائنهم فينحرون عنقه. هرب المراهقون بعد ذلك لاجئين إلى أوروبا.
لا يحتوي القانون المصري على مواد تطالب الشباب بقص شعرهم بطول معين، ولا يلزم الأكاديميين بأسلوب معين في الكلام عن الإسلام، أو يفرض شروطًا على لغة جسدية ممنوعة، غير أن قانون العقوبات في مصر يوفر للقضاة عددًا من المواد المبهمة القابلة للتأويل بما يجرّم ويعاقب “المنتهكين” الذين يخربون “الأخلاق العامة” ويلوثون سمعة البلد أو يشوهون الأديان التوحيدية.
هناك مثلا المراهقون الذين أدينوا بموجب المادة 98 من قانون العقوبات التي تمنع“السخرية” أو إهانة الأديان أو التحريض على النزاعات الطائفية. لا يحدد القانون ما يمثل“إهانة” أو يرقى إلى “التحريض” تاركًا الأمر برمته تقريبًا لتقدير القاضي، ومن هنا يأتي نفوذ البنى والأفكار المجتمعية المهيمنة. أدى هذا إلى موقف نرى فيه الدولة المصرية تحارب الدولة الإسلامية (داعش) وتجلياتها في سيناء مصر بدعم عالمي، في حين أن نظامها القضائي يسجن من يسخرون من داعش.
لكن مسؤولية هذه الإجراءات الصارمة لا تقع فقط على القوانين المطاطة والقاسية والأعراف الثقافية المأزومة، فهناك بعض دعاة التهذيب من محررين صحفيين وضباط شرطة وقضاة ومذيعي تليفزيون شعبويين ويمينيين ينادون بـ “تصفية” الإسلاميين أو المشتبه في ارتكابهم أعمال إرهابية دونما محاكمة ويطالبون بالحزم الصارم دون هوادة في معاقبة “الآخر” والتخلص منه، والآخر هو ببساطة كل من يمثل حضوره تحديًا أو تهديدًا مباشرًا.
يبدو أن هذا المنطق يتبنى الفهم التالي: سنحارب الدولة الإسلامية، ولكننا سندافع أيضًا عن نسخة محافظة من الإسلام لا يمكن انتقادها علنًا، لا سيما إن جاء هذا النقد ممن ينتمي إلى أقلية.
ويبدو أن اللجوء إلى المراقبة الصارمة للقواعد العامة، في السلوك والكلام واللبس في الفضاء العام، يساعد الناس في نفس الوقت على تبرير التناقض الرهيب الكائن في تآكل هذه القواعد في الفضاءات الخاصة. هذا الفصل المائع بين العام والخاص ليس مجرد تجل لحالة من النفاق الأخلاقي فحسب، بل يتيح أيضًا الشعور بالقدرة على الضبط والسيطرة رغم التراجع والفقد الواضح لسيطرة المؤسسات الدينية والأبوية وتراجع الشعور بالفخر الوطني. وربما يساعدنا فرويد هنا قليلًا لو استخدمنا تقسيمه لمكونات الشخصية، والتي تتصارع فيما بينها وتسبب حالة مرضية إذا لم تحدث مساومات وتسويات مقبولة.فالمجتمع الراهن في مصر من هذه النظرة يسمح بأن ينطلق في الفضاء الخاص، ودون قيود، هذا الجزء من الشخصية الفردية الذي دعاه فرويد “الهو” id والذي يضم أجزاء الشخصية البدائية والغريزية من قبيل الدافع الجنسي، بينما يمكن أن تسود الأنا العليا (وهي جزء الشخصية الفرويدية التي تضم القيم والأخلاق والمبادئ المفروضة اجتماعيًا)في الفضاء العام. بيد أن هذه “الأنا العليا” في المجتمعات المأزومة تصير زئبقية وتستند على جذور متنازع عليها في الماضي السياسي والثقافي المتخيَّل.
على مدار عقود من الركود الثقافي والسياسي في مصر، تمزقت الذات الوطنية بين دعاوى العظمة ـ الضاربة بجذورها عادة في ماض سحيق ـ والتي تتبناها الدولة الوطنية و/أو الحركات الإسلاموية، وبين واقع الفشل المتراكم عقدًا تلو الآخر من ناحية أخرى. وهكذا صارت الأعراف والمواريث القديمة ـ لا سيما المرتبطة منها بالسياسة والدين والجنس ـ محل جدل عنيف.
يذهب فتحي بن سلامة ـ عالم النفس الفرنسي التونسي الشهير ـ إلى أن كثيرًا من العرب المسلمين يعتقدون بأن هناك أصلًا واحدًا وخاليًا من الشوائب للدين، تمكن بالرجوع إليه استعادة ماض ذهبي مجيد. ويبدو عند بن سلامة أن هذا الاعتقاد يساعد كوسيلة دفاع نفسية في التعايش مع التمزقات العنيفة التي حدثت للمجتمعات العربية المسلمة على أيدي القوى الكولونيالية/الاستعمارية ثم على أيدي النخب الحاكمة المتواطئة لاحقًا.يذهب بن سلامة إلى أن اليأس انتاب هذه الذوات العربية المسلمة فباتت قابلة للاستسلام لأي نمط من العزاء، نازعة إلى لوم الآخر، لا سيما إن تمثل هذا الأخر في الأقليات أو الأجانب، وتحميله مسؤولية ورطتها.
في الجزء الثاني من هذه المقالة أعرض المزيد من الأوجاع السيكولوجية والآليات الدفاعية السقيمة، راجيًا أن يوفر التحليل النفسي رؤية ما أعمق للسبب الذي يحمل الدولة والمجتمع على انتهاج هذا السلوك المرضي.
__________________
ترجمة: أحمد شافعي