المدونة

(منشور في مدى مصر بتاريخ ٣١ مايو ٢٠١٦(

في أواخر شهر مايو الحالي، التقى الآلاف من المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين ومسؤولي المساعدات الإنسانية والخبراء لمناقشة سبل تحسين منظومة المساعدات اﻹنسانية الدولية في إسطنبول. ورغم ما سبق القمة من تحضيرات واستشارات إقليمية ومئات الاجتماعات واللجان عالية المستوى والعديد من الوثائق على مدار ثلاث سنوات، ولكن يظل الأمل ضئيلًا للغاية في أن يكون لها تأثير كبير.

افتتح بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة قمة العمل الإنساني في 23 مايو في وقت تتآكل فيه أسس العمل الإنساني التي تقوم عليها هيئات المساعدات، وهي اﻹنسانية، وعدم التحيز، والحياد والاستقلال، بل وتُنتهك هذه اﻷسس الثلاثة، وتتعرض للتجاهل التام في العديد من الأزمات، خصوصًا في سوريا المجاورة. أصبح هناك المزيد من الأزمات التي تضغط بشكل غير مسبوق على منظومة المساعدات الدولية، وعلى الهيئات التي تطعم الجوعى وتوفّر احتياجات الأطفال وتعالج المرضى والمصابين وتساعد في حماية اللاجئين. وصارت الحكومات، ومعها المانحون، يضغطون على منظمات المساعدات للعمل بفاعلية أكثر ونفقات أقل.

كما أقر بان كي مون في خطابه، فإن العديد من اﻷكاديميين يرون أن المنظومة مفتتة وبالية وضد التغيير وغير ملتزمة بالعمل الجماعي، وخاضعة لهيمنة المصالح والتمويل المقَّدم من بضعة بلاد. وتشكو منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية من سيطرة الهيئات العملاقة مثل يونيسيف وبرنامج الغذاء العالمي ومفوضية اللاجئين، حيث أنها تتلقى القسم الأكبر من التمويل وتستخدم المنظمات اﻷهلية واﻹقليمية غير الحكومية في التنفيذ. وأخيرًا يشكو متلقو المساعدات أنفسهم من غياب الحماية ونقص المساعدات وتسييس قرارات وإجراءات تقديمها.

لا تمتلك قمة العمل الإنساني عصا سحرية لحل كل هذه المشاكل المعقدة المرتبطة بعضها ببعض. لكن ما يشغلني هو السؤال عن قدرة القمة على مساعدتنا في التحرك قليلًا نحو الاتجاه الصحيح.

من خلال عملي في العديد من هيئات المساعدات وحفظ السلام في الأمم المتحدة على مدار 14 عامًا، تعلمت النظر إلى مبادئ العمل الإنساني النبيلة، مثل الحياد والإنسانية وعدم الانحياز، بوصفها أهدافًا طوباوية نسعى إلى تحقيقها، لكن لا يمكن بلوغها أبدًا، طالما لم تحدث تغيرات جذرية في تنظيم العالم سياسيًا واقتصاديًا. تعلمت أن عمليات اﻹغاثة كثيرًا ما تقع تحت رحمة الاعتبارات السياسية والاقتصادية الاجتماعية المهيمنة، لكنني تعلمت أيضًا أن بمقدور القائمين على هذه العمليات ألا يصبحوا مجرد تابعين خاضعين لهذه الاعتبارات. وأخيرًا، شاهدت كيف أن قضايا عملية مهمة مثل كفاءة العمليات وفاعليتها وخفض نفقاتها باتت تحتل مقدمة اهتمامات المنظمات والمانحين عوضًا عن المسائل اﻷهم بكثير، مثل دمقرطة عمليات اتخاذ قرارات المساعدات اﻹنسانية وإيلاء احترام أكبر للقانون الدولي اﻹنساني ومبادئ العمل اﻹنساني، والتعامل بصراحة قدر اﻹمكان مع المساعي المتنوعة من جانب كبار المانحين والحكومات (أو السلطات) المتلقية للمساعدات للسيطرة على عمليات اﻹغاثة، والنظر في شكل وطرق التمويل، وليس في حجمه. ودون النظر الجدي والمستمر في كل هذه القضايا لن يكون هناك إصلاح جوهري أو حتى كبير.

ولكل هذا أتشكك في قيمة هذا التجمع العملاق في إسطنبول وأرتاب في قدرته على تقديم حلول جادة. بل أتخوف أن يكون ضرر هذا المشهد الاستعراضي أكبر من نفعه، وأن يفاقم من السخط والشك العميق القائم إزاء منظومة المساعدات الإنسانية.

غالبًا لا يعرف ملايين اللاجئين السوريين المشردين في أنحاء اﻷرض، وآلاف الأهالي المفجوعين لفقد أحبائهم في أعماق البحر المتوسط، والأطفال الجوعى في جنوب السودان، والعاملون في المستشفيات المقصوفة بأفغانستان وسوريا، شيئًا عن مؤتمر القمة هذا، فلا يوجد من يمثلهم بشكل لائق. كما أن هذه المنظومة لا تحظى باحترامهم من الأصل. فطبقًا لدراسة أجرتها وكالة الأنباء الدولية الإنسانية إيرين عام 2015، يرى اللاجئون والأشخاص المتأثرون بالأزمات في الشرق الأوسط هيئات المساعدات بصورة شديدة السلبية. وفي ما يلي بعض من علامات تقييمهم لهيئات المساعدات:

معاملة الناس على نحو محترم ويحفظ الكرامة: 3.5 من 10.

الحياد وعدم الانحياز: 4 من 10.

إعطاء الناس شعورًا بالأمان والحماية من العنف: 3.5 من 10.

تلبية الاحتياجات الأساسية: 3 من 10.

مساعدة الناس في الاستعداد للأزمات المستقبلية: 2.5 من 10.

مراعاة آرائهم: 2.5 من 10.

كما نجد صدى لنفس المشاعر في بيان وجهته منظمات عديدة في المجتمع المدني السورية إلى المؤتمر في منتصف شهر مايو، وقالت فيه إن هيئات المساعدة “تخلت عن اتباع استراتيجية تقوم على تلبية الاحتياجات في اﻷماكن اﻷكثر احتياجًا لها، وفضّلت توجيه المساعدات للأماكن التي يسهل أكثر الوصول لها”. وأدى ذلك إلى ضخ كمٍ غير متناسب من الإعانات لتوفير الخدمات في مناطق تسيطر عليها أطرافٌ بعينها في النزاع، وبهذا تتحرر هذه الأطراف من عبء توفير الاحتياجات الأساسية لسكان المناطق التي يسيطرون عليها، وتذهب الأموال الفائضة إلى تمويل الأعمال الحربية.

هل تتشبث الأمم المتحدة بالموقف المريح؟

يؤكد كبار مسؤولي المساعدات الإنسانية، مثل ستيفن أوبراين وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية، أن المنظومة “ليست فاسدة بل مفلسة”، حيث لم تتلق كل منظمات العمل اﻹنساني مجتمعة سوى 25 مليار دولار في العام السابق. وكأن إغداق المزيد من الأموال على المشاكل كفيل بحلها.

وفقًا لتقرير نُشر في فبراير عام 2016، قدّرت لجنة رفيعة المستوى شكّلتها اﻷمم المتحدة حجم المساعدات الإضافية اللازمة لتغطية الاحتياجات الإنسانية السنوية، بقيمة 15 مليار دولار. إذن لا تتجاوز احتياجات المساعدات الإنسانية المادية الحد المعقول، ففي عام 2014 أنفقت دول الشرق الأوسط 196 مليار دولار على صفقات الأسلحة، أي نحو ثمانية أضعاف إجمالي ما صُرف على المساعدات الإنسانية في العام ذاته. وقد استُخدم بعض هذه الأسلحة لاحقًا في قصف أماكن باليمن وربما في سوريا أيضًا، ولم تسفر إلا عن زيادة الأزمة الإنسانية سوءًا. ستستمر هيئات المساعدة على الأرجح في الحصول على المزيد من الأموال، خصوصًا وقد تعهدت بوضع خطط – نأمل أنها قيد التنفيذ- لزيادة فاعلية المساعدات وتقليل النفقات الإضافية، لكن هذا لن يتصدى لسائر المشاكل العديدة التي ابتليت بها المنظومة، وعلى رأسها التلاعب السياسي من قبَل الحكومات المانحة والسلطات المستفيدة من المساعدات، وتهميش المجتمعات المستفيدة من المساعدات والمنظمات اﻷهلية المحلية.

تقع منظومة المساعدات، أو على الأقل المستويات المتوسطة منها، تحت سيطرة الهيئات الضخمة. وطبقًا لمنظومة المتابعة المالية التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تنفرد بضع هيئات كبرى بالسيطرة على أغلب التمويل المقدم من المانحين، وتوكل التنفيذ الفعلي من الباطن إلى منظمات غير حكومية، محلية ودولية. على سبيل المثال، تلقَّى برنامج الغذاء العالمي، وهو أكبر هيئة للمساعدات على مستوى العالم، 27 في المئة من التمويل الذي رصدته منظومة المتابعة في عام 2013. كما تولَّى برنامج الغذاء العالمي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين واليونيسيف إدارة ما يزيد عن نصف التمويل المسجل في نفس العام. ولا تزال بعض هذه الهيئات تؤمن بنظام القيادة والتحكم المركزي، حيث تأتي القرارات كلها من أعلى، وهو نظام يرى الكثيرون أنه منفصل عن الواقع الفعلي. ومن ناحية أخرى يفضِّل المانحون التعامل مع متعهد واحد كبير بدلًا من مئات المنظمات غير الحكومية الصغيرة التي يلزم تقييمها ومراجعتها ومراقبتها، وتصعب السيطرة السياسية عليها.

في سبيل زيادة الفاعلية صاغت قمة العمل الإنساني ما أطلقت عليه “الصفقة الكبرى”، ويكون على المانحين بمقتضاها التحلي بالمزيد من المرونة وتوفير تمويل لعدة سنوات وغير مخصص، بينما يلتزم المستفيدون من التمويل بالمزيد من الشفافية ومراعاة الإنفاق. وقد ذكر منشورٌ وُزع أثناء تدشين هذه الخطة أنها ستوفر مليار دولار سنويًا، أو نحو 5 في المئة من الإجمالي المفترض للإنفاق على المساعدات الإنسانية خلال خمس سنوات. ومع ذلك ترى منظمة مثل أطباء بلا حدود، وهي منظمة صحية دولية، أن هناك عجزًا عامًا في سعة الاستجابة التشغيلية للطوارئ، خصوصًا في حالات الصراع وتفشي الأوبئة، وتقول إن السبب الرئيسي هو كيفية تخصيص الأموال وأوجه تخصيصها، وليس نقص الأموال. فالجهات المانحة تدفعها اعتبارات سياسية وأمنية في معظم الأحيان. وقد وصفت فيكي هوكينز، مديرة الفرع البريطاني لمنظمة أطباء بلا حدود، التعامل مع تفشي الإيبولا والأزمات في جنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى بأنه “فشل حقيقي في منظومة العمل الإنساني”، وأضافت قائلة: “نحن لا نرى أن القمة العالمية للعمل الإنساني تتصدى لهذا الأمر”.

لا تغيير دون إرادة سياسية

كان يمكن لمناقشة مشاكل المساعدات الإنسانية في مؤتمر مفتوح بحق ويضم تمثيلًا جيدًا لكل الأطراف المعنية، أن تكون أمرًا ذا نفع بالتأكيد. لكن الفعاليات الكبيرة والباهظة مثل قمة العمل الإنساني ليست أفضل مكان لطرح نقاش كهذا، وكان يمكن طرحه بتكاليف أقل في نطاق الشبكات القائمة بالفعل من الأكاديميين والممارسين. أما قمة العمل الإنساني بالطريقة التي جرت بها في إسطنبول، بما يشمل عرضًا موسيقيًا ضخمًا ومشاركة نجوم فن، فكانت استعراضًا سياسيًا ينقصه أهم ما في السياسة، توفر الإرادة السياسية والسياسات الواقعية ممكنة التنفيذ، ولذا خرجت القمة دون مقترحات جادة. ورغم أن أكثر من ستين زعيم سياسي أو ممثل رفيع المستوى لحكومته حضروا إلى قمة إسطنبول، وتتقدمهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد غاب المحتوى الحقيقي عن مائدة الحوار. وقبل القمة وقَّع اثنان وسبعون بلدًا من ضمنها الأردن وإسرائيل وعُمان وقطر، على إعلان مشترك، ولم تكن مصر من بين الموقعين. حدّد الإعلان خمس مسؤوليات وهي: منع نشوب النزاعات وإنهائها، والتمسك بقواعد ومبادئ العمل اﻹنساني، والتأكد من تلبية كل الاحتياجات اﻹنسانية، وتقليل المخاطر، وتوفير تمويل أكبر وأفضل. لكن هذا الإعلان ظل غير “ملزم قانونًا ولا يؤثر على التزامات الموقعين الحالية، في ظل القوانين الداخلية والدولية القائمة،” وفقًا لما نصت عليه حاشية اﻹعلان.

على مدار السنوات القليلة الماضية اعترضت دول كثيرة على تحملها قسمًا غير متكافئ من العبء، واتجه بعضها لطرق متطرفة لإبداء عدم رضاها عن هذا التوزيع غير العادل للمسؤوليات الإنسانية، فقد هددت كينيا هذا الشهر وقبل أيام من انعقاد قمة إسطنبول، ربما لجذب اﻷنظار، بإغلاق أكبر معسكر للاجئين في العالم حيث يعيش 600 ألف لاجئ صومالي منذ 20 عامًا. وسمحت تركيا لعامين أو أكثر بعبور عشرات الآلاف من السوريين حدودها إلى أوروبا، وبعد أن توصلت إلى اتفاق مع أوروبا ضيّقت الدخول إلى أراضيها هي ذاتها، لدرجة إطلاق حراس الحدود النار على العديد من السوريين الهاربين من جحيم بلادهم وقتلهم.

الكلام جميل طالما يؤدي إلى أفعال

كشخص عمل لسنوات طويلة في مجال المساعدات اﻹنسانية، وتعامل معها بوصفها رسالة ذات مبادئ وقواعد، وليس مجرد وظيفة، فقد صرتُ واعياً بتعقيدات هذه المنظومة ومدركًا لجوانب قصورها وعدم كفاءتها، لكن أكثر ما بات يشغلني اﻵن هو زيادة التلاعب السياسي بهذه المنظومة من معظم اﻷطراف، على حساب البشر الذين يعانون، وهم الطرف اﻷضعف على أي حال.

لا شك لديّ مطلقًا أن المساعدات الغذائية مثلًا أنقذت حياة ملايين البشر، فقد رأيت ذلك بنفسي، في أفغانستان والسودان والمناطق الفلسطينية المحتلة وغيرها، حيث كنت أعمل في عمليات مساعدة معقدة. لكني تعلمت أيضًا أن رغم حسن نوايا البعض في مجتمع المساعدات—المانحين، والمنظمات الإنسانية، والحكومات المستفيدة، والسلطات— فهذه المشاريع الإنسانية تعمل في بيئة مسيّسة للغاية. ففي أفضل الحالات تنخرط منظمات المساعدات في مفاوضات سياسية الطابع لجمع التمويل وتأمين العمليات وتنفيذها وضمان وصول آمن لمن تستهدفهم المساعدات. ومنذ بداية التسعينيات، أصبح على عمليات المساعدات الغذائية مواجهة أسئلة سياسية أكبر، وصار تواطؤها اكثر عمقًا بعد الهجمات الإرهابية في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 وخاصة في عمليات تكلفت مليارات في أفغانستان والعراق، ويصعب وصفها بوضوح بأنها عمليات إغاثة لدافع إنساني أكثر من كونها جزءًا من العمليات العسكرية للتحالف الخاضع للقيادة اﻷمريكية، لتجنب زيادة معاناة المدنيين إلى الحد الذي قد يكلّف التحالف الدولي سياسيًا أو إنسانيًا أو إعلاميًا ما لا يطيق. ولم يكن هذا جديدًا تمامًا، فقد حدث من قبل، غير أن التحول كان دراميًا، كمًا وكيفًا. فقد بات معروفًا منذ عقود على سبيل المثال، أن أي طرف مسيطر على مساحة جغرافية في نزاع مسلح يمنح مقدمي المساعدات اﻹنسانية “تصريحًا” بالعمل في مناطقه أو المرور من خلالها لمناطق أخرى يسيطر عليها الخصوم بعد أن يحاول الحصول على تنازل من الخصم أو حتى من الهيئة التي تقدم المساعدات. وصارت هذه التنازلات، باستثناء ما يتعلق بمنظمات مثل الصليب اﻷحمر أو أطباء بلا حدود، تُمنح بسهولة أكبر، حتى من جانب منظمات المساعدات اﻹنسانية الكبرى أو وكلائها. وأصبحت بعض أطراف النزاع تستفيد بشدة من تسهيل دخول المساعدات لمناطقها، مع منعها عن مناطق الخصوم، رغم أن مبادئ اﻹنسانية وعدم التحيز يجب أن تمنع هيئات المساعدات من التردي في هذه الهوة غير القانونية وغير اﻷخلاقية والتي تحول المساعدات الغذائية أو اﻹنسانية عمومًا إلى سلاح في الحرب الدائرة.

ويزعم برنامج الغذاء العالمي مثلًا أنه من خلال عمله مع الهلال الأحمر العربي السوري، والذي تسيطر على قيادته وسياساته حكومة الرئيس بشار الأسد في دمشق، جرى توزيع أغذية على ما يزيد عن 4 ملايين سوري شهريًا في عام 2015. لكن معظم هؤلاء الملايين الأربعة وُزع في مناطق سورية خاضعة لسيطرة الحكومة. هذه هي المناطق التي صرحت الحكومة للأمم المتحدة بالوصول إليها.

لكن هناك نحو مليون شخص يعيشون تحت الحصار في سوريا في عشرات المواقع، ومعظمهم محاصَر من قبل قوات الحكومة أو ميليشيات حلفائها. في الفترة ما بين 1 يناير و31 أغسطس 2015، لم يتمكن برنامج الغذاء العالمي وشركاؤه من توصيل المساعدات الغذائية في المناطق المحاصرة سوى لما يزيد بقليل عن نصف في المئة من سكانها (أو ستة أشخاص بين كل ألف محتاج). وفي أوائل العام الحالي صرحت إرثارين كازين، المديرة التنفيذية لبرنامج الغذاء العالمي، أمام مجلس الأمن بالأمم المتحدة قائلة إن “هناك 18 منطقة محاصرة ونحو نصف مليون شخص معزولين تمامًا عن وصول الغذاء وسائر المساعدات الإنسانية الضرورية إليهم.” وإن أضفنا لذلك انقطاع جميع جهات المساعدات تقريبًا عن العمل في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش، بسبب تدخلات اﻷخير في المقام الأول، ولكن أيضًا بسبب خوف هذه المنظمات من رد الفعل القانوني والمادي من قبل المانحين الغربيين، سنرى أن المساعدات “اﻹنسانية” تأتي في أغلبها لصالح الحكومة السورية.

تعلم الأمم المتحدة أن الحكومة هي المسؤولة عن حصار معظم المناطق، باستثناء قريتي كفرايا والفوعة في محافظة إدلب. وقد أصبح الوصول إلى الاحتياجات الأساسية، وأهمها الغذاء، في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بميليشياتها المختلفة، صعبًا للغاية وباهظ التكلفة، مما يدفع المدنيين إلى مغادرة هذه المناطق أو البلد أو الهرب منها إلى مناطق تسيطر عليها الحكومة، رغم معارضتهم لسياساتها.

كيف يبرر مسؤولو المساعدات على اﻷرض هذا الأمر؟ يقولون إن الحكومة تسيطر على أغلب السكان المحتاجين على أي حال، وإنها قادرة على تقليص حجم المساعدات التي تصلهم حتى في المناطق التي تسيطر عليها إذا لم “تتأدب” هيئات الأمم المتحدة في سلوكها وتراعي رغبات دمشق. وقد أثبتت دمشق مرارًا وتكرارًا قدرتها هذه، في تطبيق واضح لشعار رفعه النظام منذ بداية الثورة: “اﻷسد أو نحرق البلد”. وهكذا يصبح كبار مسؤولي المساعدات في مواجهة قرار صعب للغاية، إما التمسك بموقف مبدئي ورفض التلاعب بهم لأغراض سياسية، مما يعني المجازفة بشحنات المساعدة الموجهة لملايين المحتاجين في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، أو التعاون والتصرف “بأدب”. ودون تصريح الحكومة بالدخول إلى المناطق المحاصرة ستتعرض الشحنات وعمال المساعدات في اﻷغلب إلى خطورة بالغة أينما وجدوا. وقد أقرّت إدارة برنامج الغذاء العالمي للعمليات في سوريا في تقييمها بأن “برنامج الغذاء العالمي، بصفته جهة تابعة للأمم المتحدة، قد أدى دوره في توصيل الغذاء إلى أكبر عدد ممكن من المحتاجين على أكمل وجه من خلال الحفاظ على العلاقات مع الحكومة السورية والتفاوض على الدخول.” ويبدو أن الخيار الوحيد المستبعد بشكل منهجي هو أن تتمسك هيئات المساعدات بموقف مبدئي وترفض العمل في أماكن أصبح العمل فيها منحازًا بشكلٍ سافر لصالح الحكومة، أو على الأقل التهديد بفعل ذلك بهدف مقاومة ضغوط دمشق، بعد أن باتت الهيئات تظهر بشكل المتواطئ .

يعتقد مسؤولو المساعدات أنهم يبذلون قصارى جهدهم في ظل الظروف الراهنة، ولكنهم يسمحون بالفعل هكذا للحكومة السورية باستخدام المساعدات الغذائية كسلاح. أقول هذا وأنا أعلم أن المساعدات الغذائية قد أنقذت أرواحًا من الموت أيضًا. وقد وصف لي مسؤول أعرفه بالأمم المتحدة الوضع في سوريا كالتالي: “لقد أصدر مجلس الأمن بالأمم المتحدة القرار رقم 2165 في 2014 بالسماح للمنظمات الإنسانية بتوصيل المساعدات دون موافقة الحكومة. لكن هذا لا يضمن المرور الآمن لمبعوثي المساعدات. لا يزال علينا بذل جهد للدخول من خلال عدة نقاط تفتيش، بينما المجموعات المسؤولة قد تتغير بصفة يومية. بالإضافة إلى ذلك، فـ60 في المئة من الطلبات التي قدمناها للدخول إلى المناطق المحاصرة قوبلت بالتجاهل التام” من جانب الحكومة.

ولكن كل هذا ليس عذرًا للتحول إلى سلاح يُستخدم في النزاعات. على هيئات المساعدة كشف الواقع والتحديات التي تواجهها بدلًا من استخدام لغة منقحة والتطبيل لنجاحات زائفة والتعهد بمبادئ إنسانية أصبحت غير قادرة على الحفاظ عليها.

كان ينبغي فك هذا التشابك بين الشأنين السياسي والإنساني بدلًا من التعتيم عليه في إسطنبول. وفي ظل هذا التقاعس، فعلى اﻷرجح، وللأسف، سيتزايد خضوع العمليات اﻹنسانية للاعتبارات الاقتصادية والسياسية وفوقهما اعتبارات الأمن القومي حسبما تراها الحكومات والدول الكبرى والجيوش المسيطرة على اﻷرض.

كاتب، صحفي، مصري، بتاع حقوق انسان، وموظف اممي سابق، ومستشار في الاعلام والتجهيل والحفر والتنزيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *