(نُشر في مدى مصر ٢٩ ديسمبر ٢٠١٩)
صعدت آمال عشرات الملايين من مواطني الدول العربية بترقب إلى قمم شاهقة عقب احتجاجات 2011 وباتوا يتطلعون إلى مستقبل أفضل، قد يكون الطريق إليه وعرًا ولكنه أفضل- بيّد أنهم في سنوات قليلة انحدر بهم المقام إلى وديان سحيقة من اليأس وتاهت عن الطريق أقدام معظم دعاة العدل الاجتماعي والحرية وحقوق الإنسان. ولم يرفع المتفائلون رؤوسهم سوى بحذر شديد بعد سنوات من التيه لينظروا إلى أفق جديد حتى عام 2019. ولا يعود الفضل في بزوغ أمل مشوب بقلق عميق إلى رشادة وحكمة استعادتها نُظم حكم مسيطرة، أو إلى حس أخلاقي ومبادئ إنسانية تنزلت فجأة على النخب المهيمنة في المنطقة. بل عاد الحلم في التغيير، مصحوبًا بالخوف منه ومن تبعاته، مع اندلاع موجات جديدة من الاحتجاجات الضخمة في عدة عواصم في المنطقة.
أثبتت الاحتجاجات الاجتماعية، مرة أخرى، عجز النُظم والنُخب الواقفة ورائها عن الإصلاح التدريجي، وأن الحراك الاجتماعي قد يغيّر الأسئلة المطروحة ويسعى خلف إجابات جديدة من باب التجارب الصعبة. لقد أظهر تصويت الناس بأقدامهم الخارجة إلى شوارع غير آمنة أن الرغبة العارمة التي اشتعلت في أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في بداية العقد لم تخمد قط، بل كانت كامنة تنتظر الفرصة المناسبة. الرغبة في تغيير أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية ورفض مواصلة الرضوخ لنظم تسيطر عليها أقليات أمنية أو طائفية أو طبقية أو مزيج من هذا كله يحكم بشراسة دولًا متفاقمة المشاكل دون أن يهتم سوى بمصالح قلة قليلة.
واجترح السودان معجزة في بداية هذه الاحتجاجات المتجددة عندما أسقط الجنرال عمر البشير ونظامه العسكري الديني القائم على اللصوصية وتقسيم الريع في ربيع 2019 بعد شهور من التظاهر والاحتجاج. ليس أمرًا غريبًا على السودان الذي فعلها مرتين من قبل في تاريخه الحديث عندما أسقط نظمًا مشابهة. وكما فعلت تونس في مطلع 2011، فربما حمّست شجاعة السودانيين جماهير مترددة عانت طويلًا من أنظمة فاشلة. وما زال الجزائريون واللبنانيون والعراقيون يسعون في الشوارع مع اقتراب نهاية العام، مقدمين مئات من القتلى وآلاف من الجرحى من أجل إقناع نُظم محتضرة بأهمية التغيير أو الرحيل كي تنفتح الأبواب أمام سياسات جديدة تستهدف توزيعًا أفضل للثروة والسلطة المكدسة داخل شبكات ضيقة من مؤسسات أمنية وعسكرية ورجال أعمال مع تحالفات طائفية ومذهبية وزبائنية.
وبين الربيعين في بداية ونهاية هذا العقد الجاري، شهدت المنطقة تفكّك دول، واندلاع حروب أهلية، ومساعي نُظم أمنية لإعادة تأسيس السلطوية، وسكب مليارات الدولارات النفطية من الخليج على نُظم صديقة أو حروب قريبة أو ترسانات أسلحة غريبة، دون النجاح في رسم خريطة المنطقة كما تريد أبو ظبي والرياض أو كما تحلم القاهرة وبغداد. قُتل مئات الآلاف من المدنيين (معظمهم في سوريا) ونزح الملايين. وبين تلك الرغبات والسياسات عبرت المنطقة من الربيع الأول إلى صيف ساخن دام قرابة العشر سنوات.
وبالرغم من هذا الواقع المخيف، تدفقت جموع من الناس على شوارع وميادين عدة عواصم عربية طوال هذا العام المُشرف على نهايته. نساء ورجال، معظمهم شباب ولكن عددًا كبيرًا منهم تعدوا هذه المرحلة العمرية، يصرخون في شوارع بيروت والجزائر وبغداد وغيرها من مدن المنطقة من أجل العدالة الاجتماعية والحق في الخدمات العامة ورفض الفساد، يطالبون بالحرية والكرامة. وتكشف هذه الاحتجاجات الشعبية التي هزت المنطقة طوال هذا العقد عن شقوق عميقة في البُنى الاجتماعية من العائلة وحتى القبيلة ومن النقابة وحتى الحزب السياسي وعن فشل هيكلي في مؤسسات هذه الدول الأمنية وهياكلها السياسية وساحاتها القضائية وسياساتها الاقتصادية.
وكما ألعاب الفيديو القديمة فحتى في حالة النجاح في مستوى ما، فعليك أن تواجه وحوشًا أكبر وأشرس في مستوى تالٍ، وهكذا الحال أيضًا في تلك الدول التي تنجح في التحوّل عن مسار قديم وتتخلص نخبها من وهم العودة لما كان من قبل، إذ تنتقل إلى مستوى أصعب عليها فيه أن تواجه تحديات رهيبة وخاصة على صعيد الاقتصاد. ففي تونس مثلًا، واجهت حكومات متعاقبة خيارات صعبة من أجل تلبية مطالب قطاعات واسعة من المواطنين، وتخضع هذه الخيارات لشروط محلية ودولية تجعل خلق الوظائف وتضييق هوّة اللامساواة وزيادة وتحسين الخدمات العامة أهدافًا صعبة التحقيق.
لا يعني هذا أن الدول السلطوية التي يحكمها جنرال (أو ملك) وحاشيته تواجه تحديات أقل حيث يمكن للزعيم والتكنوقراط العاملين في بلاطه وضع ما شاءوا من سياسات وغلق أفواه مَن يعترض، فالدول الريعية تتآكل فيها الاحتياطيات النقدية كما شاهدنا في السعودية حيث انخفض احتياطي النقد الأجنبي مثلًا من أكثر من 700 مليار دولار إلى أقل من 500 مليار دولار في السنوات الخمس الماضية، بينما باتت دول كثيفة السكان مثل مصر تعتمد أكثر فأكثر على الديون لتمويل العجز في الموازنة فارتفع دينها الخارجي مثلًا من أقل من 70 مليار دولار إلى نحو 110 مليار دولار في السنوات الأربع الماضية (ودينها المحلي للمواطنين وصل إلى ما يعادل 260 مليار دولار). وفي الحالتين فهذه الأرقام مؤشرات لنتائج سياسات اقتصادية غير مستدامة وغير ناجعة. هناك طُرق بديلة مقترحة ولكنها ستتطلب أساليب حكم وسياسات مختلفة جذريًا مع فرص نجاح غير مضمونة بسبب تحولات وقيود في اقتصاد العالم ونظمه المالية والتجارية.
فحتى لو نجحت الثورات في تغيير كثير من الوجوه والشلل الحاكمة سيتعين ساعتها مواجهة التحديات التي كانت السبب في اندلاع الاحتجاجات، وهو أمر عويص كما نشاهد في أنحاء العالم. التحولات المضطربة في المنطقة هي جزء من مخاض (أو احتضار) كوني انفجرت فيه موجات الغضب والاحتجاج الشعبي من تشيلي إلى فرنسا ومن العراق إلى زيمبابوي وأظهرت حدود النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد، صاحب حرية تدفق رؤوس الأموال وخفض الضرائب والخدمات العامة وتقييد حركة البشر عبر الحدود وتقليص ما تنفقه الدول على نُظم الصحة والتعليم والإسكان العامة.
وفي وجه هذه الموجات المتلاحقة من التململ والرفض للواقع الخانق، ترتفع الأسوار وتتضاعف الأسلاك الشائكة التي تفصل بين الدول وبعضها وبين مَن يملكون ومَن لا يملكون داخل هذه الدول. وصار اعتلاء هذه الحواجز أو حتى المرور من خلال بواباتها المحروسة جيدًا مغامرة خطرة وغير مأمونة العواقب بسبب تدابير أمنية متشددة لعرقلة حركة معظم البشر، باستثناء قلة قليلة تمكنها أموالها وصلاتها وجوازات سفرها من المرور بأناقة أينما ذهبوا. وفي هذا المجال صارت الوظيفة الرئيسية للنُظم السلطوية في بلدان الجنوب هو نيل رضا نُظم ديمقراطية في أوروبا وغيرها لأنها باتت تعمل وكأنها شركات أمنية خاصة تمنع مواطنيها من النزول للبحر والعبور لجنة أوروبا المغرية أو ارتقاء السور والعبور لولايات أمريكا الواعدة. ويتعاظم الخوف بين الناس في تلك الجنان المسوّرة رغم تزايد الإجراءات الأمنية في نفس الوقت، أو بالأحرى بسبب هذه الإجراءات ذاتها حيث أنها تغذي مشاعر القلق والخوف دون علاج لأسبابها.
ليست المنطقة العربية فحسب هي من تعاني دونًا عن بقية العالم اقتصاديًا وسياسيًا، فهناك بوضوح أعراض مشاكل هيكلية عميقة تنذر بأزمة اقتصادية عالمية واضطرابات في مؤسسات مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وحلف شمال الأطلسي وتآكل في قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي كلها ترتيبات اعتقد كثيرون أنها رسخت، وخاصة منذ انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي وهيمنة أفكار الليبرالية الجديدة الاجتماعية والاقتصادية، في مطلع التسعينيات.
فهل نحن على أبواب عالم جديد كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات؟ أم أننا نبدأ مرحلة انهيار العالم القديم وصعود فاشيات وقوميات وطنية واضطرابات اقتصادية واسعة وممتدة كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الأولى منذ مائة عام بالضبط؟ الإجابة شبه مستحيلة الآن لأنها تتخلق من قلب الاحتجاجات المتصاعدة في أنحاء العالم. الأكيد هو أننا على باب تحولات كبرى في المنطقة والعالم ونحتاج إلى اختيار خطواتنا القادمة بحذر والتأهب لعبور مساحات شاسعة من الرمال المتحركة. هي رحلة وجهتها غير معروفة بأي درجة من الدقة، لكنها لن تكون نهاية سعيدة إذا استمرت تلك الأنظمة والنُخب المتهالكة في رسم مسارها.