في رثاء عفاف محفوظ
نُشر في موقع المنصة يوم ٣١ مايو ٢٠٢٣
رحلت عفاف محفوظ عن هذا العالم منتصف مايو/أيار 2023، قبل أسابيع من عيد ميلادها الخامس والثمانين، في نهاية حياة طويلة، غنية ومرهقة، مستقيمة ووعرة، صاعدة وهابطة، ومفعمة بالأفراح والأحزان، والمكاسب والخسائر.
قدمت محفوظ، المحللة النفسية، والناشطة النسوية الحقوقية، والأستاذة الجامعية، نموذجًا لكيف يسمو العادي فوق ظروفه دون ضجة، وكيف يمكن لها أن تؤثر وتتأثر بأشخاص وأفكار من خلفيات شاسعة الاختلاف ومتباينة الأهواء والاهتمامات.
سليلة الوزراء والفقهاء تذهب للمدرسة الفرنسية
وُلدت محفوظ في محافظة المنيا في الثالث من يوليو/تموز عام 1938، وبشائر الحرب العالمية الثانية تتهادى لعالمنا الخارج من أزمة الثلاثينيات الاقتصادية الطاحنة. انحدرت أسرتها من أصول تركية من جانب الأم، عائلة جاءت من قلب الأناضول منجذبة لإقطاع أراضٍ خصبة حصلت عليها من الخديوي توفيق في صعيد مصر. ومن ناحية الأب، جاء الجد الأكبر من المغرب واستقر في صعيد مصر، وعمل كاتبًا في إدارة حكومية. وتدريجيًا برعت عائلته في السياسة فكان منهم رئيس الوزراء حسين سري، بينما اتجهت عائلة الأم للصناعة والزراعة والتجارة.
كانت عفاف الأولى بين خمسة أطفال، وبإصرار من جدتها وأمها المحبتان للتعليم، التحقت بمدرسة القديس يوسف الفرنسية في المنيا، حيث تلقت تعليمًا استمر عشرة أعوام على يد راهبات مصريات وأجانب. وبعد أن حصلت على البكالوريا (العربية والفرنسية) بدرجات مرتفعة، تراجع والدها عن وعده بالسماح لها بدخول الجامعة، فأضربت عن الطعام يومًا أو يومين حتى رضخ قلبه الطيب، هو الرجل الذي تحاشى دومًا إظهار مشاعره لأبنائه، وسمح لها بدخول كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية.
وفي الكلية كانت الشابة واحدة من قليلات وسط مئات الذكور، وكانت أصغرهن جميعًا، حيث بدأت الدراسة وعمرها 15 سنةً وبضعة أشهر في مطلع خريف 1953.
أن تؤيد السياسات الناصرية وتتعاطف مع الإخوان!
وفي الإسكندرية، واصلت محفوظ شغفها بالقراءة والفن والسياسة والدين بانتقائية: تعلمت البيانو وارتدت الحجاب على الرغم من معارضة أهلها، وأحبت عبد الناصر، واقتربت كثيرًا من جماعة الإخوان المسلمين وتعاطفت معهم في وجه ما رأت أنه ظلم فادح، ودرست الشريعة وتفوقت فيها، وسعت بدأب للسفر إلى فرنسا بعد البكالوريوس لتعمل على رسالة دكتوراة عن القانون الجنائي ودوافع الإجرام.
وفي 1958، وهي لم تصل للعشرين بعد، اقترنت بزوجها الأول أحمد القشيري، القاض الشاب ساعتها في مجلس الدولة، والحاصل، وكان هذا الأهم لعفاف، على منحة لدراسة الدكتوراه في فرنسا، تلك الوجهة المستحيل أن توافق عائلتها عليها لو كانت ذاهبة بمفردها.
لم تلعب محفوظ دور الزوجة وربة البيت في باريس، بل سجلت في الجامعة سريعًا وبدأت في دراسات متنوعة الاتجاهات، شملت مواد في القانون العام والجنائي والعلوم السياسية وعلم النفس، إضافة لدخولها معترك السياسات الطلابية في أوساط الطلبة العرب، ولا سيما اليساريين والشيوعيين منهم.
توقعت فشل الدولة الناصرية قبل النكسة
ورغم أنها خلعت الحجاب وتراجعت مع مضي السنوات عن بعض الطقوس الدينية، فإنها حافظت على اهتمامها الأصيل بالدين والثقافة الإسلامية واللغة العربية، وقادت حملات وسط المحللين النفسيين والمنظمات الأهلية في الولايات المتحدة بعد ذلك بعقود، لمناهضة التمييز ضد المسلمين، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر.
وإضافة لإنجازها رسالة دكتوراة متميزة عن الضعف الهيكلي في النظام الناصري، انتهت منها قبيل هزيمة يونيو/حزيران 1967 بأسابيع وتوقعت فيها فشلًا واسعًا للدولة الناصرية، تابعت محفوظ في الوقت نفسه محاضرات جاك لاكان، أحد أهم المؤثرين في علم النفس التحليلي بعد مؤسسه سيجموند فرويد.
وفي تلك السنوات، كما أقرت في سيرتها الذاتية(*)، بدأت تتعرف على اسم ذلك ذلك الشعور المقبض المحير الذي كان يلفها بين الحين والآخر: الاكتئاب. وستغذي تلك الخبرة قرارتها اللاحقة بترك العمل الأكاديمي لتصبح محللة نفسية.
الطلاق والحب
وبعد حصولها على الدكتوراه، قضت محفوظ الأعوام العشرة التالية بين مصر وفرنسا والولايات المتحدة، حيث ساهمت في تأسيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بدعوة من الصحفي محمد حسنين هيكل، والتحقت بهيئة التدريس بجامعة حلوان كمُدرسة للعلوم السياسية، ورافقت زوجها عندما صار مستشارًا ثقافيًا في باريس وفي واشنطن، حيث عملت أيضًا مع السفير أشرف غربال ملحقًا ثقافيًا.
عادت محفوظ للقاهرة في منتصف السبعينيات، في محاولة لإنقاذ زواجها المتداعي. كان القشيري عاد ليفتتح مكتب محاماة، صار بين الأشهر والأهم بالنسبة للشركات والمستثمرين مع بدايات سياسات الانفتاح الاقتصادي. وكذلك رضوخًا لضغوط جامعة حلوان التي رفضت تجديد انتدابها لوزارة الخارجية.
وكان الطلاق المتوقع والمؤلم نهاية طبيعية لما بدأته محفوظ في فرنسا قبلها بنحو عشرين سنة في سعيها الدؤوب أن تتعرف على ذاتها وتحدد ما تريده وترغب فيه. وبعدها بثلاث سنوات، في القاهرة حيث انهمكت في التدريس والعمل الأهلي، وقعت في غرام، بحسب تعبيرها، الرجل الذي سيصبح رفيقها طوال الـ45 سنةً التالية؛ كارل فيكتور شيرين، الأمريكي العاشق للثقافة الإسلامية والإفريقية، الذي يتحدث العربية مثل أبناء الجمالية.
في سيرتها تتذكر عفاف أيام الحب الأولى:
“في بداية لقاءاتنا في القاهرة دعاني كارل لمحاضرات عامة في الجامعة الأمريكية حيث كان يعمل. وبعدها صار دليلي إلى قاهرة لم أكن أعرفها جيدًا: مطاعم صغيرة لطيفة في شوارع جانبية، ومعارض فنية متوارية في وسط البلد والقاهرة القديمة.
لم أهتم بما يقوله الناس حول صداقتنا… أعجبني أن كارل يصوم شهر رمضان (وأنا لم أكن أصوم)، كان لديه دائمًا إحساس عميق بالمجتمع من حوله وشغف بالاندماج فيه، وكان يحب القاهرة جدًا خاصة الأماكن الشعبية ويعرف أفضل محال الكشري وكل المطاعم والأماكن التي أبعدني والدي عنها عندما كنا نزور القاهرة قبل ذلك بثلاثين عامًا.
كان كارل “ابن بلد عن حق” لدرجة أنني عندما قدمته للعائلة بعد أن قررنا أن نتزوج قالت أكبر سيدة من عائلة أبي “هو لطيف وكل حاجة يا بنتي بس العربي بتاعه بلدي جدًّا”.
وقرر الحبيبان أن يتزوجا سريعًا:
“سجلنا عقد الزواج في 30 أكتوبر 1978 في مكتب الشهر العقاري كما يحدث عند الزواج بين أجانب ومصريين. شعرت وأنا أدخل المكتب كأننا نعقد صفقة تجارية، ما أبعد هذه الأماكن عن الرومانسية والحلم والفرح! عبس المسجل العقاري وهو يسأل كارل، الذي أشهر إسلامه، عن دينه ثم يستجوبه عن تفاصيل في الدين الإسلامي.
وأثناء كتابة العقد ذكرّني كارل أنني نسيت موضوع العصمة، وقال للمُسجل بسرعة “العصمة في اليد”، فامتعض الموظف واستاء من كارل، كرجل قرر التخلي عن حقه المنفرد في الطلاق، وسأله عما إذا كان يعرف معنى الكلام الذي يقوله، فرد عليه كارل “إنتَ فاكر إني ح اتجوز بطريقة مش فاهمها!؟” فغضب الموظف بوضوح”.
بين الحكومة والمعارضة
كرست محفوظ وقتًا كبيرًا للعمل الأكاديمي والبحثي، إضافة للنشاط في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، جنبًا إلى جنب مع عدد من النساء البارزات في مجال الأدب والفن والجامعة آنذاك، منهن الرسامة إنجي أفلاطون والأستاذتان الجامعيتان أمينة رشيدوعواطف عبد الرحمن، والصحفيات والكاتبات أمينة وفريدة النقاش، وفتحية العسال.
تحاشت محفوظ السلطة بعد عملها فترة قصيرة مستشارًا ثقافيًا في السفارة المصرية في واشنطن. وعندما فاتحها بطرس غالي في إمكانية ترشيحها وزيرة للإعلام في نهاية السبعينيات وضعت شروطًا شبه تعجيزية لإصلاح الوزارة، فلم يتكرر العرض.
من العلوم السياسية والقانون نحو التحليل النفسي
وفي 1985، هاجرت محفوظ للولايات المتحدة، حيث بدأت في تدريس العلوم السياسية في إحدى جامعات واشنطن العاصمة، وانتظمت في دراسة التحليل النفسي حتى نالت رخصة لممارسة المهنة في 1989. وسريعًا اكتسبت سمعة في العاصمة الأمريكية في معالجة الاكتئاب والأمراض ميؤوس الشفاء منها، وأيضًا لقدرتها على العمل بسلاسة بالإنجليزية والفرنسية والعربية.
وفي منتصف التسعينيات انتقلت إلى نيويورك، حيث اتسع نشاطها العام ليشمل رئاسة لجنة الأمم المتحدة في الاتحاد الدولي للتحليل النفسي، والعمل مع المنظمات الأهلية المعترف بها لدى المنظمة الدولية، خاصة في القضايا المتعلقة بحقوق المرأة والصحة النفسية.
ومثلت محفوظ منظمات أهلية عدة في مؤتمرات دولية مهمة، مثل مؤتمر السكان في القاهرة في 1994، والمرأة في بكين في 1995، ومناهضة العنصرية في دربان، جنوب أفريقيا، في 2001. وطوال تلك الفترة استمرت في دعم المنظمات والناشطات النسويات في مصر والعالم الثالث، وكانت عضوة مجلس أمناء مؤسسة المرأة والذاكرة.
مواجهة الموت بشجاعة
وفي 2018، قررت محفوظ بعد تشخيصها بمرض لا شفاء منه، أن تتخفف من أنشطتها المهنية تدريجيًا وتنتقل لمناخ مناسب أكثر لرئتيها العليلتين. تركت نيويورك التي عاشت فيها ثلاثين سنة وانتقلت لفلوريدا جنوب الولايات المتحدة. وسخرت محفوظ مرارًا من أنها لم تترك فقط نيويورك الليبرالية الديمقراطية، بل صارت جارة لزعيم اليمين الجمهوري الشعبوي الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي يعيش معظم الوقت في قصر هائل على بعد عدة كيلومترات منها.
ولم تتقاعد محفوظ قط، حيث واصلت العمل مع عدد محدود من دارسي التحليل النفسي، وأشرفت على تدريب مجموعة من المحللين النفسيين في مصر والعالم العربي، وفي تقديم النصح والدعم للناشطات النسويات في مصر وخارجها.
وكرست محفوظ وقتًا من أجل أن تروي سيرتها الذاتية في العامين الماضيين. وفي خاتمة الكتاب قالت:
“ستظل مصر منبع جذوري، رغم أنني عندما زرتها منذ سنوات عدة كانت تلك الجذور ذاتها قد اختفت تقريبًا في واقع الأمر. وفي القاهرة، لم أر أي جذور حقيقية متبقية، بل لم أستطع حتى التنفس بسهولة بسبب دخان حرائق قش الأرز أو ما يسمونه في القاهرة السحابة السوداء.
كانت زيارتي إلى الإسكندرية ألطف قليلًا حيث شممت رائحة ما مألوفة، وتنسمت بقايا ذكريات، خاصة عندما أقمت في فندقي فلسطين وسيسيل. بت أعتقد أن مفاهيم وأحاسيس الغربة والشعور بالحنين قد تغيرت جذريًا مع انتشار وسائل الاتصالات والإنترنت في العشرين عامًا الأخيرة. تغيرت كل هذه العواطف والمشاعر المركبة بالنسبة للأطفال والشباب فعلًا، ولكن ما زال الأمر صعبًا على جيلي.
دائمًا ما شعرت بالألفة والطمأنينة في كل مكان أحببته، وفي تلك الأمكنة أعمل بجد حتى أشعر بألفة الوطن. صارت حريتي مرتبطة بقدرتي على أن أحمل وطني في داخلي، وأواصل علاقاتي الحميمية مع من أحب من البشر أينما كنت وحيثما كانوا، وعلى أن أعانق البهجة ولا أخاف من الحزن أو الموت.
لم أضمر شرًا لأحد في هذه الحياة ولا أخشى عقابًا في جحيم ما بسبب أفعالي، كما لا أتطلع لنعيم دائم في جنة موعودة بفضل ما قمت به”.
نظّم أصدقاء عفاف وجيرانها حفل بسيط للاحتفاء بذكراها في المبنى الذي عاشت فيه أعوامها الأخيرة. لم يكن كثير من جيرانها يعرفون ماضيها الحافل والمتنوع، لأن تواضعها كان دائما يشي بأنها مجرد محللة نفسية متقاعدة.
ولعل أكثر ما ميز عفاف أنها اختارت الطريق الوعر الواعد بالحرية، عوضًا عن الطريق الآمن المُقيْد، وبعيدًا عن كواليس السلطة التي كانت قريبة منها معظم الوقت. ففي فرنسا وفي مصر، درسَت ودرّست وعملت وتعرفت برجال مثل فتحي سرور، وبطرس غالي، وحسنين هيكل، ويحيى الجمل، وعبد الأحد جمال الدين، وأمين المهدي، وعصمت عبد المجيد، وميرفت التلاوي. ولكنها احتفظت دائمًا بمسافة ما من السلطة، مسافة لم يمتلكوها أو ربما لم يرغبوا فيها، مسافة نقدية مثلها في ذلك مثل عديد من النساء اللاتي ناضلت معهن ضد التطبيع، ومن أجل حقوق الفلسطينيين، وضد سياسات السادات الاقتصادية.
لكل هذا لم يكن غريبًا أن توصي محفوظ، وهي التي لم تترك أموالًا طائلة أو عقارات فخمة ورائها، بجزء كبير من أموالها القليلة نسبيًا لمنظمات نسوية مصرية، وكذلك لمنظمات عربية وأمريكية ويهودية تعمل للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الولايات المتحدة.
كان بين هواجس محفوظ في السنوات الأخيرة أن تموت قبل زوجها وحبيبها كارل، لأنها تخاف عليه من بعدها، وفي الوقت نفسه كانت ترعبها احتمالات أن يغادر الحياة قبلها. وفي ظهيرة منتصف مايو الرطبة الحارة، بعد صباح آخر عادي تحدثت فيه مع صديق وتبادلت رسائل مع آخر، صمتت محفوظ فجأة ثم انزلقت قليلًا في مقعدها الوثير وكارل ينظر إليها. ذهبت في ثوانٍ دون ألم، حسبما كانت ترغب. ولكنها تركته يتعرف على الحياة وحيدًا للمرة الأولى منذ 45 عامًا.
لم تكن عفاف محفوظ لتحب هذا المقال لأنها لم تكن تحب المديح. وفي كل مرة نالها بعض منه كانت تبتسم بخجل متوارٍ وتقول أن “الغواني يسرهن الثناء”، وهي لم تكن من الغواني، بل إنسانة بسيطة تحب الحياة وتعيشها بأقصى قدرتها، طيبة في حزم، معتدة بنفسها في تواضع، ومدافعة صلبة عن المساواة بين البشر، كل البشر، خاصة هؤلاء الذين عانوا تاريخًا من التهميش والإفقار والإذلال.
وقد نالت محفوظ مقابل كل هذا الجهد الذي بذلته على مدى عقود حبًا واهتمامًا من أشخاص كثيرين. أدركتُ هذا وأنا أقف أمام قبرها، وفي حفل وداعها في فلوريدا الأسبوع الماضي، جنبًا إلى جنب مع رجال ونساء يعتبرون أنفسهم بناتها وأبنائها، تنوعت أصولهم من الشرق الأوسط وجنوب آسيا والولايات المتحدة وأوروبا، تداعوا جميعًا بالسفر، وعن طريق الإنترنت، لوداع صديقتهم الأثيرة. لم تنجب محفوظ أطفالًا، ولكنها تركت خلفها كثيرًا من الأبناء.
(*)صدرت السيرة الذاتية لعفاف محفوظ في مارس/آذار 2023 عن دار الكتب خان في القاهرة بعنوان “من الخوف إلى الحرية: رحلة امرأة مصرية من الصعيد إلى ما وراء المحيط“، وحررها كاتب هذا المقال.