نُشرت في موقع درج في 4 يناير 2021
في ساعة متأخرة من الليل، عقد عبد الله حمدوك مؤتمراً صحفياً ليعلن للشعب استقالته من منصب رئيس وزراء السودان. وجاءت استقالة المسؤول السابق في الأمم المتحدة بعد اقل من شهرين عاد فيهما للمنصب باتفاق مع القادة العسكريين للبلاد. وهكذا انتهت حياة حمدوك السياسية التي بدأت وهو في الثالثة والستين عندما عاد من خارج البلاد حيث كان يعمل في الأمم المتحدة ليتولى رئاسة الوزراء في 2019 بعد شهور من إطاحة مظاهرات شعبية بالديكتاتور عمر البشير.
ليس حمدوك المسؤول الدولي الوحيد الذي يعود إلى بلاده بعد عقود من العمل في منظمات أممية أو أكاديمية في الخارج من أجل تولي منصب سياسي رفيع او خوض غمار السياسة. وربما لن يكون الرجل أيضا آخر هؤلاء التكنوقراط الذين يعجزون عن قيادة مرحلة انتقالية صعبة خاصة في بلاد تعاني من الآثار المروعة لحكم سلطوي فاشل أو حروب أهلية استمرت لعقود، فقبله بشهور فشل أشرف غاني في أفغانستان مما يجعل الادعاءات بشأن أهمية تعيين حكومات من خبراء محايدين أمراً يستحق الجدل.
وعلى الرغم من تأييد مبدئي واحتضان من قوى الحرية والتغيير المدنية في السودان لحمدوك، لم يمثّل الرجل في الحكم سوى نفسه وافكاره الإصلاحية المستمدة بمعظمها من أدبيات الأمم المتحدة والبنك الدولي حول علاج الاختلالات الاقتصادية الهيكلية عن طريق خفض الانفاق الحكومي وإلغاء الدعم على السلع الأساسية ونيل مباركة الغرب الليبرالي المسيطر على مؤسسات التمويل الدولية من أجل خفض ديون ضخمة مستحقة.
وتغنّى حمدوك ببعض هذه “الإنجازات” في كلمة استقالته التي استمرت قرابة 18 دقيقة حيث ركز على “حزم المعالجات الهيكلية” ومبادرات لجدولة ديون السودان التي تعدت ستين مليار دولار. ونالت “إصلاحات” حمدوك مديح الدائنين الدوليين في نادي باريس وأيضا صندوق النقد والبنك الدولي، ولكنها جلبت غضبا عارما من جانب فقراء المدن ومعظم سكان الأقاليم المهمشة بعيدا من العاصمة الخرطوم بسبب الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية. وعلي سبيل المثال الغت حكومته الدعم على الوقود العام الماضي لتواصل نسبة التضخم ارتفاعها وتصل إلى قرابة 400٪ سنويا بينما واصل الجنيه السوداني انخفاضه حتى تعدى الدولار الواحد 437 جنيه مع نهاية العام. وعجز حمدوك، مع كل هذه الإجراءات التقشفية، عن الحصول على أي تنازلات اقتصادية تذكر من جانب المؤسسة العسكرية التي تلتهم معظم موازنة الدولة.
وتتشابه مشاكل السودان مترامي الأطراف في الشرق، والغرب (دارفور)، والوسط (كردفان والنيل الأزرق) حيث ان هذه الأقاليم الثلاثة تنتج الصادرات السودانية الرئيسية وهي المحاصيل الزراعية في الشرق، والثروة الحيوانية من دارفور والوسط، والنفط من الوسط، ولكن عمالها منخفضي الأجور لا يستفيدون كثيراً من هذه الثروات التي تسيطر النخبة الحاكمة سياسيا وعسكريا وماليا في الخرطوم على معظم عائداتها.
لم يخطئ حمدوك في توصيف الازمة في كلمته عندما قال إنها “سياسية في المقام الأول” وتعود لعجز المكونات المدنية والعسكرية في الحقل السياسي عن التوافق، ولكن حله المطروح لا ينتمي لعالم السياسة وهو “الحوار على مائدة مستديرة بين فعاليات المجتمع والدولة لرسم خارطة طريق لخلاص الوطن”، بل ينتمي إلى عالم الخيال والنوايا الحسنة وتوصيات المنظمات الدولية بشأن ما ينبغي ان يكون.
توضح كثير من تحولات النظم الشمولية ذات المكون العسكري المهيمن، أن التغيير يحدث إما عن طريق عنف غير محمود العواقب، أو عندما ينكسر الطرف المسيطر في وجه انتفاضة شعبية عارمة كما حدث في ثلاث مرات على الأقل في تاريخ السودان كانت آخرها إسقاط الرئيس البشير في 2018 بعد قرابة ثلاثين عاما في الحكم. ومع ذلك فان إعادة بناء الدولة او الحقل السياسي بعد هذا الانكسار هو أمر صعب للغاية قد ينتهي بحرب أهلية كما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا او مرحلة اضطراب طويلة مثل العراق او عودة لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية للسيطرة، ورطانات ليبرالية تخفي ورائها ممارسات بالغة القسوة والعنف كما حدث في مصر أو السودان من اجل الاحتفاظ للمؤسسات والنخب المهيمنة بنصيب الأسد من الاقتصاد وموارد الدولة وأصولها.
وتلك هي معضلة الخبراء الفنيين عندما يدخلون عالم السياسة محمولين على اجنحة خبراتهم التقنية في منظمات دولية ليتعاملوا عن قرب مع ممثلي المؤسسات الأمنية والعسكرية من دون ظهير شعبي أو سياسي يحميهم. ولا يستند الخبراء من هذا الطراز سوى على أفكار وممارسات استمدوها من خبراتهم الدولية أو الأكاديمية الطويلة وهي قد تكون صالحة للتطبيق، بل وناجعة أحيانا، في مواجهة مشكلات اقتصادية وسياسية مركبة، ولكن ممارسة السياسة على أرض الواقع تختلف عن صوغ السياسات في الغرف الهادئة. ففي نهاية المطاف تقوم السياسة على القدرة على خوض صراعات وحشد أدوات مؤثرة في علاقات القوة وصولاً إلى العنف ذاته من اجل حلول لا يمكن ان تكون مفيدة للجميع، ومع ذلك فهي إما تنال دعم الأغلبية أو ترضخ لها بسبب القوة السياسية للفريق الواقف ورائها.
ولهذا أيضا فشل أشرف غاني الذي فرّ من قصر الرئاسة في أفغانستان حتى قبل ان يدخل مقاتلو طالبان المذهولين من سرعة وسهولة انتصارهم إلى قصره في العاصمة كابول في آب/ اغسطس من العام المنصرم. قضى غاني معظم حياته المهنية في واشنطن يدرّس في الجامعة أو يعمل في البنك الدولي قبل ان يعود لأفغانستان مستشارا ماليا للرئيس السابق عقب الغزو الأمريكي ونهاية الحقبة الأولى من حكم طالبان. وافتقر الرجل للحنكة السياسية اللازمة والدعم المطلوب لكي يرجّح كفّته ويصبح قوة تحترمها او تتفاوض معها طالبان التي فضلت التعامل مباشرة مع الأميركيين. ولم تكن لدى غاني الشجاعة المطلوبة لكي يقف إلى جانب فريقه عندما خاف من دخول طالبان لكابول، ففر هاربا منها من دون ان يخطر كبار مستشاريه ومساعديه.
كانت سمعة غاني، الذي حضرتُ له اجتماعات في كابول في عام 2002 عندما كنت أعمل مع الأمم المتحدة، تشير إلى أنه شخص حاد عنيف بالغ الذكاء، ومع ذلك كانت مهاراته تفتقر إلى الدبلوماسية ودهاء السياسيين وهو يوبخ بحدة ممثلي المنظمات الدولية، ربما عن حق، خلال هذه الاجتماعات. وجمع غاني من حوله عدداً من الخبراء التقنيين الحاصلين على درجات جامعية عليا من الخارج وأهمل السياسيين التقليديين الأفغان قائلا انهم مسؤولين عن دمار البلاد. كان غاني الذي يقتبس من الدراسات الاكاديمية في محادثاته السياسية معنيا في أيامه الأخيرة في القصر الرئاسي بمصير مكتبته التي تضم سبعة الاف كتاب في منزله في كابول. ووصف السفير الأمريكي جيمس كننجهام الرئيس غاني قائلا لمجلة نيويوركر: “انه ليس سياسيا جيدا … ولم يتحل بالمهارات السياسية الضرورية من اجل بناء تحالفات وشراكات مع الأشخاص المختلفين معه.” ورغم ان غاني أبلغ وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في يوم 14 آب/اغسطس انه “سيقاتل حتى الموت” لو رفضت طالبان عرضه بالتفاوض، إلا انه فر من البلاد بعدها بساعات عندما نصحه مستشاره للأمن القومي، ومراوح طائرات الهليكوبتر تدور في ساحة قصر الرئاسة، بان حرّاسه قد لا يتمكنوا من ضمان سلامته.
على الأغلب لن يظل حمدوك في الخرطوم، وسيغادرها كما غادر غاني كابول، وان كان سيغادر بشكل اقل درامية من غاني.
لن يبالي العسكر بنداءات حمدوك الحكيمة عندما قال إن القوات المسلحة كلها يجب ان تدرك ان “الشعب هو السلطة السيادية النهائية وان القوات المسلحة قوات هذا الشعب تأتمر بأمره … ويجب ان يتحقق شعار جيش واحد وشعب واحد.” لا يوجد سياسي حقيقي يمكنه ان يقول هذه الترهات وهو يعنيها فعلا، أو يعتقد ان مؤسسة عسكرية مسيطرة منذ أكثر من ثلاثين عاما قد تستمع لها، ناهيك عن أنه لا يوجد شعب واحد، بل فئات متصارعة يمكنها عن طريق الضغوط المتبادلة في عالم السياسة الوصول الى حلول ممكنة التطبيق او أن يحدث ما يحدث في السودان حيث الدولة على وشك الانكسار مثلها مثل اليمن او الصومال. وهذا ما حذر منه حمدوك نفسه عندما قال إنه حاول تجنيب بلاده “الانزلاق نحو الكارثة” وان البلاد في منعطف خطير “يهدد بقاء السودان نفسها” لأن هناك “صراعاً عدمياً” بين القوى السياسية والمؤسسات العسكرية والأمنية. تحليل رائع وربما دقيق من حمدوك وانذار يجب التعامل معه بجدية بالغة. وربما تكون هذه أفضل مساهمة يمكن أن يقدمها حمدوك أو غاني: التحليل وليس العمل في السياسة.